قبل أن نخوض في الحديث عن التخطيط التربوي وأنواعه، يجدر بنا اولا أن نقف على معناه.
يعرف العالم و ترسون، التخطيط بانه : « محاولة واعية منظمة مستمرة لاختبار انسب الوسائل المتوافرة لتحقيق أهداف معينة . وبطبيعة الحال، يمكن تطبيق هذا التعريف على التخطيط التربوي في المجال الكمي .
ونحن نستطيع أن نتصور أن من يقوم بهذا التخطيط هو انسان خبير يبذل كل ما في استطاعته لخدمة البيئة التربوية ، ويساعد في ايجاد الحلول المناسبة لمشكلاتها ، ويعمل جاهدا لتحقيق الأهداف التربوية التي يرغب المجتمع في تحقيقها. والمخطط التربوي في صورته الحالية غالبا ما يكون بعيدا عما يدور في المدارس، فهو منهمك في تحليل الارقام ، ووضع الخطط التربوية القريبة المدى والبعيدة المدى مرتكزا في تصميمها على الظواهر الكمية وحسب .
ان معظم المخططين التربويين يعلمون علم اليقين ، بان الاتجاهات التربوية الحاضرة لا يمكن أن تستمر ، فنحن نعيش في عالم سريع التغير ، فما يصلح لليوم لا يصلح للغد . وعلى ذلك فمن الواجب أن يغير المخطط التربوي الدور الذي يضطلع به من (رجل الارقام و التخطيط الكمي) إلى الرجل الذي يفكر في وضع مجالات اختیار واحتمالات مستقبله ( التخطيط النوعي )
عند ذلك يصبح دوره في غاية الأهمية : فهو الذي يوضح القی والأهداف التي تكمن وراء كل مجال من مجالات الاختيار. انه يضع الخطط التربوية المحتملة ويبلور الأهداف والقيم والاتجاهات التي يرغب المجتمع في تحقيقها لدى ناشئته .
أن المخطط التربوي يصرف جل جهده في الوقت الحاضر في المستوى العياني الملموس، فهو ينظر باستمرار الى زيادة عدد الطلاب وانعكاسات تلك الزيادة على المؤسسات التربوية ، ولكنه لا يلقي الا نظرة عابرة على التغيرات التي تطرأ على القوى الاجتماعية، والاقتصادية ، والسياسية .
نحن نتحدث عن التغييرات في التربية، والذي يهمنا من قولنا هذا هو كيف تخطط التربية في عالم سريع التغير .
وقد يسألنا سائل : وما هي هذه التغييرات ؟ وما دمتم تقولون بان كل شيء متغير ، فكيف تخططون ؟ وما الدور الذي تريدون من المخطط أن يلعبه؟ وهل يستطيع توجيه عملية التغير نحو اهداف تربوية مرغوبة ؟
ونحن نستميح السائل عذرا ونقول له : رفقا بنا ، وصبرا علينا ، فنحن نحاول أن نجيب عن هذه الأسئلة الوجيهة بما تيسر لنا من معلومات هي حصيلة تجارب قامت بها الأمم الاخرى في هذا الموضوع علما بأنها تجارب حديثة ، علها توحي لنا بعض الافكار النافعة في مسيرتنا التربوية .
لقد اظهرت محاولات توجيه التغيير في التربية بالمصطلح الكيفي ، بانها محاولات ليست بالسهلة ، فهي تحتاج اول ما تحتاج الى الصبر والاناة والزمن الطويل . فقد استغرق تغيير المناهج وتطويرها في بعض البلاد الى عشرات السنين ، كما استغرق تغيير البنية التربوية من مدارس اكاديمية عادية إلى مدارس شاملة ، الى زمن اطول. اما اذا اردنا تحسين العلاقة بين الطالب والمعلم مثلا ، فقد يتطلب منا ذلك جهدا متواصلا وزمنا طويلا.
وكما ألمحنا سابقا ، فنحن نعيش في زمن سريع التطور والتغير ، لذلك ينبغي لنا أن نضع ايدينا على اساليب جديدة تساعدنا في معالجة مختلف او جه التغير ، وبخاصة في مؤسسات معقدة كالمؤسسات التربوية .
التغييرات في التربية :
ويندرج تحت هذا العنوان : الفحوى ( المناهج ) ، وطرق التدريس ، و التقويم .
التغيير في المناهج :
اما تطور المناهج وتغييرها فيخطط له بعدة طرق. ففي البلدان الاسكندنافية مثلا ، يخطط لتطوير المناهج على المستوى المركزي، والقاعدة المعتمدة للتطوير هناك هي الخطط التعليمية التي تضعها لجنة من الخبراء ، ودوائر البحث التربوي ، ومراجعة ملاحظات المدرسين على المناهج التي تزود بها بصورة مستمرة. وفي هذه الحالة ، لا بد من وجود مجموعة من الخبراء المختصين في تطوير المناهج .
اما التغير في أساليب التدريس، فيتم نتيجة للأبحاث التربوية ، وما يجده المدرسون من خلال خبرتهم العملية . وفي أقطار اخرى ، توضع خطط التدريس في اطار واسع ، بحيث يترك المجال للمدرس لاختيار ما يلائم منها ظروفه الخاصة .
فالموقف في الدانمرك مثلا آخذ بالتطور نحو اعطاء المدرس والمدرسة مزيدا من الاستقلال الذاتي ، سواء في ذلك وضع مواد التدريس المناسبة ، او تنفيذها، فالأمر متروك لامكانات كل مدرسة ، ونوعية طلابها ، وفي بريطانيا يقع العبء الأكبر في تخطيط المناهج وتنفيذها و تقويمها على كاهل مدير المدرسة ومدرسيه ، وينسحب ذلك على بقية النشاطات المدرسية .
يلاحظ بان التخطيط للتغيير في المناهج ، سواء أكان ذلك على شكل إعادة نظر كلية ، أم احداث بعض التغييرات الجزئية ، انما يتم على عدة مستويات . ويعتمد ذلك بالطبع على نوعية الجهاز الإداري الذي يهيمن على التربية ، وعلى من يتخذ القرارات ويضع السياسة التربوية ، أهو الوزير ، ام مجالس التربية المحلية ، ام مدير المدرسة ؟
التغيير في اتخاذ القرارات:
ويعني ذلك قلب ميزان القوى والمسؤوليات في المؤسسات التربوية . وقد يعني قلب النظام الاداري من مركزي الى لامرکزي ، وقد يعني المشاركة في المسؤولية في بعض النشاطات المدرسية بين المدرسين و الطلاب ، وقد يعني كذلك اشتراك المعلمين والطلاب في التخطيط للمناهج الدراسية . وقد أظهرت التجارب انه نتيجة لهذه المشاركة نتج تخطيط تربوي واقعي جيد.
التخطيط القريب المدى ، والتخطيط البعيد المدى :
يظهر بأن التطور في التربية يتخذ اتجاهين رئيسيين : الاتجاه القريب المدى كتطوير المناهج والكتب المدرسية ، والاتجاه البعيد المدى الذي يستهدف وضع عدة مجالات الاختيار وتحليل ما يحتويه كل مجال من قيم وأهداف حتى تصبح العملية التربوية ذات معنى .
عملية التخطيط :
نوهنا بأنه من الأفضل ، وحيثما أمكن ذلك، أن يشترك في عملية التخطيط المدرسون، والطلاب ومديرو المدارس ، والموجهون التربويون ، والمركز . والقول بأننا كلنا مخططون ينطبق تماما في حقل التربية والتعليم، ذلك لأن التخطيط هو من مستلزمات التغير . فبدون تخطيط لا يمكن أن نتغير او نتطور . ومن الواضح بأن هنالك حاجة ماسة إلى وجود وحدات للتخطيط على عدة مستويات في المؤسسة التربوية ، اذا أردنا أحداث أي نوع من انواع التغير المرغوب . وهذا يعني ضرورة تعليم الطلاب أساليب التخطيط ، ومساعدة مديري المدارس في تخطيطهم بوساطة مركز محلي للتطوير والتخطيط . ويعني كذلك تخطيط الأنظمة الرئيسية للعملية التربوية على المستوى المركزي او الوزارة .
ماذا يبقى للمخطط التربوي ؟
اذا سار الحال على هذا المنوال ، فما الذي يبقى للمخطط التربوي ؟ أجل ، يبقى له دور كبير : يبقى له وضع الاحتمالات المتعددة للتطور في المؤسسة التربوية وبلورة قيمها وأهدافها ، و جعل هذه المؤسسة مؤسسة متطورة متجددة .
صحيح أن المخطط التربوي هو خبير في التعامل مع الأرقام، ولكننا نريد منه أن يكون أخبر في التعامل مع الناس ، فالناس والأهداف التربوية ، حتى و العملية التربوية نفسها كلها أمور متطورة ، وكلها أمور متغيرة ، ومن الصعب أن نحصر تطورها وتغيرها كميا .
انه يتعامل مع أبعاد ديناميكية ، فمن واجبه أن يكون في صميم العملية التربوية ، لا جزء منها فقط . عند ذلك يستطيع رسم إطار لمجالات الاختيار ، ويمكنه أن يتصور النتائج بالنسبة إلى المستخدمين والموارد ، والزمن
كل هذه الأمور يتم انجازها حاليا في المؤسسات التربوية ، ولكن بشكل غير مرض .
إن مفهوم التخطيط « النوعي » يؤكد على ضرورة توزيع النشاطات التخطيطية ، وعلى اعطاء المدارس حرية أكثر لتفهم مشكلاتهم المتغيرة . وليست أساليب التخطيط من حق الوزارات فقط ، وانما يجب ان تلم بها بقية الأجهزة التعليمية ، حتى اذا دعت الحاجة الى اشراكها في اتخاذ القرارات او تنفيذ ومتابعة التغييرات التربوية ، كانت مستعدة للقيام بدورها على اكمل وجه .
أن التخطيط التربية متغيرة متجددة يغدو ذا معنى اذا كان انعكاسا لحاجات المتعلم ومتطلبات مجتمعه ، واذا تبادل فيه المخطط والمنفذ و المنتفع الخبرات التعليمية ، عند ذلك ، وعند ذلك فقط نستطيع أن نقول بأن مؤسساتنا التربوية تقوم بالواجب الملقى على عاتقها على خير وجه .
ترجمة و تلخیص : جميل ابو میزر