ورد مصطلح الثقافة لأول مرة في منتصف القرن التاسع عشر في كتابات عالم الإنسانيات إدوارد تايلور ، وفيه إشارة إلى الصلة المعقدة بين الأشياء والأفكار التي تنتجها التجربة التاريخية للإنسان ، أما الأمريكيون فقد إستخدموه للإشارة إلى التمايز بين مسارات تكوين الشخصيات الاجتماعية ، ولكنها أصبحت فيما بعد نمط للأفكار والأفعال التي يظهرها سياق نشاط جماعة إنسانية من أجل تحقيق غاياتها ،ورغبتها بما يميزها عن جماعات أخرى .
والحال ، ” أنها تعبير عما وصل إليه المجتمع من مستوى حضاري ” ،فإذا كانت الثقافة عملية تاريخية لأنها تميز أولا سلوك الإنسان وتعاطيه مع أشياء الطبيعة كما تحدد أسلوب حياته ونمط تعامله مع البشر .
وعلى هذا النحو ، تتشكل الثقافة في إطار نظام معرفي لا يمكن عزله عن العلاقة بين السلطة السياسية وفئات المجتمع، لتتحدد على هذا النحو الثقافة النظامية السائدة وعلى هامشها إن صح التعبير يظهر الفكر المعارض الذي يحاول اختراق الأفكار السائدة وتغييرها , إن تسييس الثقافة لم ينشأ صدفة لأن أدوات السلطة وأجهزتها لا يمكن لها وحدها أن تضمن الاستقرار السياسي والاقتصادي بدون غلبة مفهوم الميل إلى قبول أو الاطمئنان إلى ما هو موجود .. إن الثقافة المسيسة عموما تعرض أشكالا من العلاقات غير قابلة للتغيير أو لا يستحسن تغييرها، لأنها العادة وتمنحها قوة البقاء بحكم القناعة أو القهر، إن لزم الأمر.
ولما كان المثقف عنصرا من عناصر المجتمع، فإن تحصيل الثقافة ونشرها من الأفعال الاجتماعية يترتب عليه إيجابيات وسلبيات تمس الآخرين أكثر من أي فعل آخر فقد يصدر عنه مقال يقرؤه آلاف الناس ويتأثرون به فيما الأفعال الأخرى قد لا يخرج تأثيرها عن نطاق فرد أو أكثر , على هذا النحو يظهر جوهر الثقافة في التزامها بقضايا المجتمع , إذ عندما يكون هناك حاجة للإعلان عن موقف بين العبودية والحرية لا مجال للحياد .. إن الذي يرفض محاربة الظلم وكبت الحريات وانعدام العدالة الاجتماعية ويرفض تبني قضايا مجتمعه وكفاحه من أجل إقامة مجتمع عادل وسعيد وحر .. والذي يدعي الحياد ويرفض الوقوف إلى جانب المحتاجين إليه من أنباء مجتمعه والمحتاجين إلى ثقافته في إنارتهم فإنه في حقيقة الأمر يقف إلى جانب أولئك الذين يظلمون مجتمعه ويكبتون حريته , وبدون هذا الالتزام يصبح الفعل الثقافي تكديس معلومات من هنا وهناك وبدون أي هدف , إذا استثنينا الفوضى وبلبلة الأفكار والحياد إزاء قضايا وهموم المجتمع .
والحال, إ ذا كانت الثقافة إحدى معالم نهضة المجتمع أو قابليته للنهوض وهي البناء النظري لعلاقاته ،فهي تزدهر بازدهاره وما يعنينا من مقولة ازدهار المجتمع ،لا كمية الإنتاج ونوعيته التي يوفرها ويعرضها المنتجون في السوق بغرض الإستهلاك لأن قيم السوق تظهر في ثقافة منحازة تقدس الملكية الفردية على حساب المجتمع و تحث على إطلاق مبادرة عنوانها ” الغاية تبرر الوسيلة ، و هدفها إنتاج التفوق “على حساب الحق والعدالة.
بناء على ما ذكر .. بهذا المعنى أصبحت الثقافة إشباعا لحاجة , ولا يمكن أن توجد ما لم توجد هذه الحاجة , ولكن مقياس هذه الحاجة هو وجود مستهلكين للمواد الثقافية لديهم الاستعداد لتحمل تكاليفها .. من هنا تظهر ضرورة لتحفيز الطلب على الثقافة من جهة وحمايتها بتدخل الدولة بمؤسساتها المختلفة من فوضى العرض والطلب أو لا وحماية قيم المجتمع وعلاقاته القائمة على الشراكة والعدالة والمساواة من الإفساد ثانيا وهذا ما يعنينا ونحن نشير إلى ثقافة تكرسها الحاجة إلى تطوير سلطة سياسية تتوافق مع نظام معرفي ينتج ثقافة يستحقها المجتمع.
وعليه ثمة ما يقال عن الغزو الثقافي .. إذ لا يمكن لمجتمع يشتق عاداته وأفكاره من الأساطير والتراث الخالص، ويعجز مثقفوه عن مواكبة تطور المجتمع بإنتاج فكري مناسب، لا يمكنه ادعاء الحصانة إزاء الثقافة الوافدة من المجتمعات الأخرى الأكثر تطورا حتى إذا كانت لا تناسب حاجاته ولا تقدم حلولا لمشاكله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.