نشرت مجلة Brain Medicine في مايو 2025 مجموعة من أربع دراسات جديدة تسلط الضوء على علاقة مقلقة بين الميكروبلاستيك (Microplastics)، والأطعمة فائقة المعالجة (Ultra-Processed Foods – UPFs)، وتدهور الصحة النفسية.
تظهر الأدلة أن هذه الجزيئات البلاستيكية الدقيقة، المنتشرة بشكل كبير في المنتجات الصناعية، قد لا تكون ضارة فقط بالجسم، بل أيضًا بالدماغ والصحة النفسية، وهو ما يجب أن يدق ناقوس الخطر لدى الأطباء والمستهلكين على حد سواء.
ما هي الأطعمة فائقة المعالجة ولماذا ترتبط بالميكروبلاستيك؟
تتضمن الأطعمة فائقة المعالجة منتجات مثل المشروبات الغازية، رقائق البطاطس، الشوكولاتة، الآيس كريم، اللحوم المصنعة، والوجبات الجاهزة. تُعرف هذه الأطعمة باحتوائها على كميات عالية من السكريات والدهون المشبعة والصوديوم، وتُستهلك بكميات ضخمة حول العالم — تصل في بعض الدول مثل الولايات المتحدة إلى أكثر من 50% من السعرات اليومية للفرد.
لكن الجديد في الأمر هو ما كشفته الأبحاث حول تعرض هذه الأطعمة لمستويات عالية من الميكروبلاستيك، نتيجة لتغليفها بالبلاستيك، والمضافات الكيميائية، واستخدام معدات صناعية في تحضيرها.
على سبيل المثال، تحتوي قطع الدجاج المصنعة (مثل الناغتس) على ما يقارب 30 ضعف كمية الميكروبلاستيك مقارنة بلحم الدجاج الطبيعي.
هل يصل الميكروبلاستيك إلى الدماغ؟
الدكتور نيكولاس فابيانو Dr. Nicholas Fabiano من جامعة أوتاوا في كندا يوضح أن هذه الجزيئات الدقيقة قادرة على عبور الحاجز الدموي الدماغي، ما يعني أنها تصل إلى الدماغ وتتراكم فيه بكميات مقلقة.
في الواقع، أظهرت دراسات سابقة أن دماغ الإنسان قد يحتوي على ما يعادل “ملعقة صغيرة” كاملة من الميكروبلاستيك!
هذه الظاهرة تُعتبر مرعبة من ناحية طبية، نظرًا لأن الميكروبلاستيك يمكنه أن يؤثر على الخلايا العصبية من خلال التسبب في الالتهاب، وزيادة الإجهاد التأكسدي، وإحداث اضطرابات في أداء الميتوكوندريا، وأيضًا في أنظمة النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين.
العلاقة بين الميكروبلاستيك والصحة النفسية
الدكتور وولفغانغ ماركس Dr. Wolfgang Marx من مركز “الطعام والمزاج” في جامعة ديكن بأستراليا يرى أن مسارات الضرر البيولوجي التي تسببها الأطعمة فائقة المعالجة تتطابق بشكل مذهل مع تلك التي يسببها الميكروبلاستيك: من الالتهابات العصبية إلى التأثيرات على الجينات والنواقل العصبية.
ويضيف ماركس: “هناك تشابه كبير بين الأثر النفسي السلبي المعروف للأطعمة المصنعة والآثار البيولوجية التي يحدثها الميكروبلاستيك.
هذه النتائج تجعل الفرضية القائلة بأن الميكروبلاستيك يفاقم مشاكل الصحة النفسية جديرة بالبحث العاجل.”
ما الذي تشير إليه الأدلة الحالية؟
رغم أن الرابط بين الميكروبلاستيك وتدهور الصحة النفسية لا يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات التوسعية، فإن الأدلة الأولية مقلقة.
ارتفاع نسب الاكتئاب، والقلق، واضطرابات النوم — بالتزامن مع ازدياد استهلاك الأطعمة المصنعة — يدفع العلماء إلى التحقيق بجدية في هذا الارتباط المحتمل.
كما يشير الدكتور فابيانو: “حين نلاحظ الارتفاع المتوازي في استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة، وتراكم الميكروبلاستيك، وتدهور الصحة النفسية، لا يمكننا تجاهل العلاقة المحتملة. فكما يقال، أنت ما تأكله.”
كيف نقلل من تعرضنا للميكروبلاستيك؟
في ظل هذه المعطيات، من المهم أن يتبنى الأفراد والمجتمعات خطوات عملية لتقليل تعرضهم اليومي للميكروبلاستيك:
تجنب تسخين الطعام في أوعية بلاستيكية: فالميكروويف يطلق ملايين الجسيمات الدقيقة في الطعام.
استخدام أواني زجاجية أو معدنية للطهي والتخزين.
توقف تماما عن استخدام الملاعق البلاستيكية او المطاطية لتحريك الطعام او تناول الطعام وخصوصا الساخن منها,
الحد من استهلاك الأطعمة المعالجة والاعتماد أكثر على الأغذية الطازجة والكاملة.
ترشيح مياه الصنبور لتقليل دخول الميكروبلاستيك من مصادر المياه.
توصيات مستقبلية
في ضوء هذه النتائج، يُوصى بما يلي:
توسيع نطاق الأبحاث حول التأثيرات العصبية للميكروبلاستيك على البشر، لا سيما المراهقين والأطفال.
سن تشريعات تحد من استخدام البلاستيك في تغليف المواد الغذائية.
تشجيع تصنيع بدائل مستدامة للتغليف مثل المواد العضوية أو القابلة للتحلل.
زيادة حملات التوعية الصحية حول مخاطر الأطعمة المصنعة ليس فقط على الجسم، بل على العقل أيضًا.
ختاما ما كان في الماضي مجرد مادة تعبئة أصبح اليوم تهديدًا صامتًا لسلامة أدمغتنا.
اذ تشير الدراسات إلى أن الميكروبلاستيك، الذي نتعرض له يوميًا دون أن نشعر، قد يكون أحد العوامل الخفية وراء الأزمات النفسية التي تجتاح المجتمعات الحديثة.
إن إدراك حجم المشكلة هو الخطوة الأولى نحو حلها — والصحة النفسية تبدأ بما نأكله.
المصدر