ما التقدم العلمي باكتشافاته واقماره الصناعية وقنابله. وما تزايد ثورة التكنولوجيا واتساع الانتاج الضخم، وتقارب المسافات ووصول الثقافة – بوسائلها كافة – الى أكبر عدد من الناس، الا تعبير عن قدرة العقل البشرى الذي ميز الله به الانسان عن سائر المخلوقات الأخرى.
فالعقل بما اوتي من حكمة وموهبة، وما اكتسب من خبرة ومران يجعل العلم ينمو، ويتفرع ويستكشف آفاقا جديدة.. كان الهدف منه ، توفير الرخاء والرفاهية والمنفعة للإنسانية جمعاء.
فالعلماء، قفزوا بالعلم من عصر الحجر الى عصر المعدن، ثم من عصر البخار الى عصر الطاقة والكهرباء ثم الى عصر الذرة وعصر غزو الفضاء الى عصرنا هذا عصر ثورة التكنولوجيا في حقبة زمنية قصيرة قياسا لعمر الانسان على الارض، تجمع خلالها كم هائل من المعارف العلمية. حتى ليقال ان العلم يصنع المعرفة.
ومن يدري فلعل علماء هذا العصر يقيمون حضارة انسانية متكاملة على سطح الكواكب، كتلك التي اقاموها في الارض؟ ومن هنا كانت أهمية العلم والعلماء في حياتنا.
وبهذا الصدد، نسأل: ما منزلة العلماء في مجتمعهم ايتبعهم الناس ام هم الذين يتبعون؟ قديما دعا افلاطون ان يتولى الفلاسفة شؤون المجتمع، حين اعتبرهم في الجمهورية مكان التوجيه والحكم، وان صاحب الفكر يجيء اولا ثم يأتي صاحب التنفيذ، وماذا يكون التنفيذ الا تنفيذا لفكرة، وماذا تكون الفكرة الا تخطيطا لعمل ينفذ فيسعد البشر.
فالله – سبحانه وتعالى – قد خص العلماء بالخشية لأنهم الاكثر ادراكا لعظمة الخالق ودقائق مخلوقاته، حين قال في محكم كتابه: «انما يخشى الله من عباده الله العلماء» كذلك انظر الى هذه الأحاديث النبوية، في اي منزلة تضع رجال العلم، حين يقول عليه السلام: «العلماء أمناء الله على خلقه» ويقول: العلماء مصابيح الارض، وخلفاء الانبياء، وورثتي وورثة الانبياء، وانظر الى هذا الحديث، كيف يحدد خصيصة من أهم ما يميز العالم حين يقول: لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فاذا ظن انه قد علم فقد جهل، وهو قول يقطع بان العلم طريق يسار عليه، وليس نهاية يوصل اليها، فالعلم منهاج قبل ان يكون نتيجة مقطوعا بصوابها، العلم تيار متدفق كل موجة، في حركة تدوم ما دام للعقل نشاطه، العلم لم يقصره الله عز وجل على فرد ولا على جيل، ولا على عصر ولا على أمة، ولكنه ما ورا هذا كله من خصائص علمية، ومقومات مجتمع، ومواقف بشر.
وما آراء إفلاطون من أن تكون الصدارة والريادة لأهل العلم، وان تكون الكلمة العليا في المجتمع كما عبرت عنه الأحاديث النبوية، الا خطوطا رئيسة تصلح أن تكون دستورا للحياة كلها، منهجا ومعيار فماذا نريد للروح العلمية معيارا أصلح من هذه المعايير، وكيف لا يكون هذا الذي رسمه الاسلاف لنا طريقا نحتذي به.
اما في الغرب، فقد ظل اعلام المنهج العلمي، يطالبون بان نشك اولا حتى يأتي اليقين محضا، انظر الى مقولة الفيلسوف والعالم الفرنسي ديكارت في القرن السادس عشر: انا افكر اذا انا موجود فهي صرخة في عالم البحث العلمي، ومنهج للوصول الى اليقين الذي لا يساوره شك .
ولئن كان هذا حال العلم والعلماء في العصور السابقة، فيجدر بنا ان نتوقف وقفة قصيرة، لنرى اين تسير حياتنا العلمية، فنجد ادعياء العلم يعدون بالألوف، ولا تكاد اعيننا تقع على العالم، الذي اشرب بتراث السلف، بحيث يزن قيمته العلمية، بميزان متابعته لطلب العلم، لا بالقليل الذي حصله، ومحال ان يكون قد حصل الا القليل؟
اما في مؤسسات التعليم العالي، التي يفترض ان تكون ميدانا لا يشتغل به الا اصحاب الفكر العلمي والادب التربوي، فنجد البعض فيها كثيرا ما ينحرفون عن جادة الحق، ويقولون ما لا يفعلون، اولئك المولعون بالمعرفة المجردة، المستهزئون بتطبيقاتها، الساعون وراء لذاتها، يطمئنون الى صاحب التصديق السريع، ويقلقهم ان يقف متشككا ليسأل قبل ان يجزم بالصواب فسريع التصديق عندهم أقرب الى الملائكة، والمتشكك اقرب الى الشياطين، اوليس التعلم من ظل يلح في السؤال والمعلم من يتعمق في البحث لتزداد معرفته، وما الحياة الجامعية الا هذا الالحاح في السؤال والالحاح في البحث؟ وهنا نورد قولا لابي عمرو بن العلا، حين سأله سائل: هل يحسن بالشيخ ان يتعلم؟ فاجاب قائلا: اذا كان يحسن به ان يعيش فانه يحسن به أن يتعلم.
وما هكذا تكون روح الحياة العلمية في الجامعات، وما هكذا تراثنا في تحديده للقيم، الا يكفي طلبة العلم ما عانوه في السنوات الطوال من كثرة الحشو اللفظي والهذر الذي لا يرقى الى مرتبة العلم، ولا يشفع ولا ينفع، وما قيمة اعادة طباعة الكتب الجامعية المصوغة بقيم بالية لا تحمل روح العصر وما يحمله من جديد، ولا تحقق لنا معاصرة وطابعا حديثا في آن واحد؟ ومتى يدرك البعض ان مؤلفاتهم لم تعد معقولة ولا مقبولة، ان التعليم في عموميته وخصوصيته – لا يشفى من علله بالسفسطة والشطط وترداد نظريات فارغة من كل قيمة، انما يشفى بالموضوعية والصدق والبحث العلمي الرصين.
ياسين الجيلاني