تقع أكثر اللحظات حرجا في حياة الطفل عندما يقرر القيام بمحاولة لإقناع والديه ان الشيء الخطأ الذي يود القيام به صحيح تماما كما يقول روبرت دي براين.
ويضيف: وقد يبدأ محاولته بطلب السماح له بالقيام به وكأنه امر عادى، ولكنه اذا فشل قال لهما: ان كل طفل آخر يقوم به ما عداه، وقد يقول لوالديه ان فلانا او المعلم الفلاني ذكر له انه عمل صحيح. واذا لم ينجح فانه يصرخ ويبكي ويحدث ضجة عالية ويضرب الارض بقدميه أو يدخل في نوبة غضب قوية للحصول على ما يريد، فاذا نجحت تكتيكاته وحصل على ما يريد، فانه يتعلم عددا من الدروس الخطأ، لعل اكبرها او اخطرها تبرير الخطأ عندما تتعلق المسألة به. السلوك الذى قد يستمر معه طيلة طياته. من هنا تنشأ المعايير المزدوجة او الكيل بمكيالين عند الانسان.
القدوة وما ادراك ما القدوة
يوجد عدد قليل من المعلمين والمعلمات لا يميز بين الخطأ والصواب. والحقيقة ان التمييز بينهما هو احد الدروس التي نبذل فيها اعظم الجهد لنتعلم ذلك ونعلمه. إن التمييز بينهما هو احد اكثر الامور الحاحا في حياتنا، لأن كل واحد منا يدعي انه على حق او صواب.
ومع هذا يتعامل كثير من المعلمين والمعلمات الذين يفترض فيهم تعليم التمييز بين الخطأ والصواب، بمعايير مزدوجة او يكيلون بمكيالين: واحد لهما، والثانى لتلاميذهما، مما يقضى على جميع الجهود المبذولة لتعليمهم اسس او اصول التمييز بين الخطأ والصواب او الحق والباطل.
طبعا يوجد عدد من الاسباب التى تجعل عددا من المعلمين والمعلمات يختلق معايير مزدوجة دون أن يقصدوا الحاق الاذى بتلاميذهم، لكنهم يختلقونها لتوكيد كونهم على حق دائما، او للسيطرة على التلاميذ والتحكم بهم، او لتجنب الفوضى والالتباس.. بل ان بعضهم يلجأ الى التسلح بالقاعدة الخطأ التى تقول: ان الغاية تبرر الواسطة.
وقد تصل الازدواجية ببعضهم حد انتقاد الزملاء على ازدواجية معايرهم وتبريرها لانفسهم. إن عليهم ان يتذكروا عندما يشعرون بالإحباط والالتباس لرؤية المعايير المزدوجة عند الغير، مشاعر تلاميذهم نحو هذه الازدواجية.
نعم، قد يجد المرء نفسه مضطرا – في بعض الاحيار – الى الازدواجية أو الكيل بمكيالين، لكن هذا النوع من الخلق ليس قويما ولا نريد للتلاميذ ان يتعلموه. ومع هذا فان الادعاء بأن التلاميذ لا يتعلمونه غير صحيح، فنحن عندما نتحدث – كمعلمين ومعلمات – عن الضرورة المطلقة للتقيد بوقت الدوام او بداية الدروس او اللعب او الامتناع عن التدخين ولا نتقيد بهما فاننا نعلمهم الازدواجية بالقدوة.
وعندما نبين لهم اهمية احترام الاخرين، وتحمل المسؤولية نحو زملائهم في الصف وساحة المدرسة واللعب. . ثم نسخر منهم اذا اساءوا التصرف او نصرخ عليهم ونقرّعهم، فاننا نعلمهم الازدواجية بالقدوة.
وعندما تجعلنا الغطرسة او العجرفة نرفض المساءلة عن خطأ قمنا به تجاه تلميذ، فإننا نعلمهم الازدواجية بالقدوة. وعندما نعاقبهم على التدخين فيما نحن ندخن فإننا نعلمهم الكيل بمكيالين وهكذا، متى يتعلم التلاميذ الكيل بمكيال واحد إذا كان مثل هذه الممارسات يقع كل يوم في المدرسة؟ وفي المنزل، وفي المجتمع؟
الحق اقول لكم ان المدرسة لم تعد مكانا لتعليم التربية الخلقية وقيم العدل والانصاف والمحبة، وربما يجب علينا أن لا نتوقع ذلك منها بعد اليوم
ان لمعظم التلاميذ خبرة مؤلمة مع المعلمين والمعلمات في الازدواجية، أي عندما كانوا على خطأ وكانوا كتلاميذه على صواب، وكيف اصبح المعلمون والعلماء مع ذلك – على صواب لأن معظمهم يعتبر الاعتراف بالخطأ امام التلاميذ وتحمل تبعاته الادبية والمالية ضعفا او كسرا لكلمتهم، او حطا لكرامتهم، وليس مصدر قوة لهم لو يدركون ان تسعين في المائة منهم او اكثر يمر بهذه الخبرة، وربما كان على المعلمين والمعلمات ان يستنتجوا انهم لن يكسبوا شيئا بهذا الموقف بل يفقدون الاحترام وقد لا يستعيدونه ابدا.
قال: لقد آليت على نفسي منذ عملت في سلك التعليم واي عمل آخر – تطبيق القاعدة نفسها على نفسي ما كانت مفروضة على التلاميذ او مطلوبة من العاملين معي، لان فلسفتي الاخلاقية او التربوية تقوم على اعتبار القانون الاخلاقي واحدا للجميع، لا فرق فيه بين مدير ومعلم وتلميذ او طالب، او بين كبير وصغير، او رجل وامرأة، لأن الاخلاق لا تتجزأ، ومن يجزئها انتهازي او مزدوج المعايير كما يقال في هذه الايام.
وقد كنت ارى في الامتيازات التي تمتعت بها كمدير او رئيس مزيدا من الاعباء وليس امتيازات اخلاقية ابدا، وقد حصلت من ذلك على أعظم الاحترام من تلاميذي والعاملين معي.
وتزداد مشكلة الازدواجية في المدرسة تعقيدا واحراجا إذا قام التلميذ المغبون بازدواجية المعايير عند المعلم بالشكوى او الحديث عن ذلك مع المدير او المرشد او معلم اخر. انهم عندئذ يشعرون بالحرج الكبير او تأخذه العزة بدعم المعلم بالتصرف – بغير حق – في غير مصلحة التلميذ.
إن كلا منهم يضع نفسه في موضع الشك إذا ايد الزميل على حساب التلميذ. كما يعززون تعليمه: ان الخطأ هو الصواب اذا كنت معلما او راشدا او مسؤولا، والصواب خطأ اذا كنت طفلا او تلميذا.
ان التعليم بالقدوة مهم جدا، ولكن عندما نقول شيئا ونعمل بعكسه فان ذلك يضر بنزاهتنا ومصداقيتنا، وثقة تلاميذنا بنا. ولا تصدقن ان التلميذ حتى وإن كان في مرحلة الروضة لا يدرك اللعبة ولا ينتبه اليها. ولسوء الحظ فان التلاميذ يقلدون – اجمالا – معلميهم ومعلماتهم كالببغاوات عندما يصبحون راشدين بدلا من التعلم من الخبرات السلبية والامتناع عن تكرارها.
ان التعليم ليس مهنة أو مكان كل من يدخل صفا ولا يميز بين الخطأ والصواب بصورة معيارية واحدة. انه ليس من اهله او القادرين على حمل رسالته. وإذا كان المعلم حسب قاعدة الغاية تبرر الواسطة فان كل صحيح يعمله او صواب يسلكه يلغى بها ويتبخر. وعندما نفشل في ايقاف أنفسنا اننا دائما على حق بينما نحن مخطئون، فان ذلك يجعلنا نخسر جميع الادعاءات بالنضج وبقدرتنا على التواضع امام تلميذ نضحي به بعجزنا.
في كل السنوات التي قضيتها كمعلم – يقول معلم – لم اسمع قط تلميذا او معلما او مديرا يتكلم بصورة سيئة عن معلم كان صريحا او محترما لنفسه فاعترف بالخطأ امامه.
كما لم اعرف عن احد قوي مركزه بإصراره. على الادعاء انه على حق، مع انه كان بكل المقاييس مخطئا.
حسني عايش