اهمية الابداع والتشجيع على الابتكار في المدارس

أصبح مفهوم الإبداع والابتكار حديث الأكاديميين والباحثين في كل المؤتمرات التعليمية عربيا وعالميا، لعلّ أبرزها مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم وايز، والذي أضحى مناسبة مهمة في البحث عن سبل تطوير التعليم من خلال مناقشة أفكار متجددة ومبادرات رائدة وعبر التوصيات التي تنتجها العديد من الورشات التي تجمع خبراء عالميين والمنظّمة من قبلهم.

يكمن التحدي اليوم في كيفية بلورة هذه الأفكار والتوصيات على أرض الواقع، وفي سبل تكييف المناهج الدراسية بما يتناسب وثورة التكنولوجيا الرقمية، كل ذلك من أجل تغيير الممارسة التعليمية وتطويرها من شكلها التقليدي القائم على تقييم التعلّم بناء على معايير وأهداف موضوعة مسبقا، إلى منهج تربوي حديث يحفز الإبداع والابتكار في المدارس ويشجع التفكير النقدي لدى الطلاب دون الخوف من الفشل أو الرسوب.

في هذا الصدد، تعتبر أبحاث بعض الأكاديميين أمثال “بول تورانس” E. Paul Torrance مرجعا هاما في فهم ماهية الإبداع وآلياته وتطوره عند الأفراد من جميع الأعمار. وقد صمّم تورانس اختبارا خاصا لقياس مستوى التفكير الإبداعي Torrance Tests of Creative Thinking (TTCT) يتم استخدامه بشكل واسع في الولايات المتحدة، وترجم إلى أكثر من 300 لغة. وقد حث في منشوراته على أهمية إدماج التدريب على تقنيات التفكير الإبداعي في البرامج التربوية بناء على أسس علمية تهتم بدعم نقاط القوة الفرديّة لدى كلّ متعلم بدلا من محاولة تصويب نقاط ضعفه. إذ يؤمن تورانس أنّ لكل فرد شخصيته الفريدة التي يجب احترام قدراتها والوثوق في إمكانياتها وإعطائها فرصة النجاح ولو تعرّضت للفشل أثناء المحاولات.

من جهة أخرى، يرى دايفيد هوجس David Hughes، مؤسس Decision Labs وبروفيسور لدىUNC Chapel Hill، أنّ الابتكار أصبح مهارة أساسية تؤثر بشكل غير مباشر في الاقتصاد العالمي، وأنّه من المؤسف أن تفتقر الأنظمة التعليمية التقليدية إلى تصور علمي قابل للتطبيق داخل الفصول الدراسية يجعل من الإبداع والابتكار معيارا هاما في سيرورة التعليم.

كل هذه الأبحاث والمعطيات تدفعنا إلى الاستنتاج أننا بتنا بحاجة إلى تطبيق استراتيجيات جديدة تركز على تعليم الأطفال الأساسيات، مع الإدراج المرحلي لمناهج دراسية يتم تكييفها عبر طرق تدريس مبتكرة، تجعل من الفصل مكانا لاستلهام الأفكار وإثارة التفكير الإبداعي. وهنا تبدأ مهمة المدرس الذي يمكنه فعل الكثير في هذا المجال، مستعينا بهذه النصائح والأفكار المتنوعة:

طرح الأسئلة المناسبة

توصي منظمات ومؤسسات عالمية مثل: CEE (Creativity, Culture and Education) المدرسين بضرورة فتح المجال أمام الطلاب لاكتشاف المفاهيم والمعارف بشكل مستقلّ من خلال طرح الأسئلة المناسبة على أن يكون هذا الهدف في قلب التخطيط الدراسي، وذلك بهدف خلق بيئة من التعلّم الفعال المتمركز حول المتعلّم. فدور الأسئلة لا ينحصر فقط على جمع المعلومات والحصول على المعرفة، بل يتخطاه إلى تنميةالتفكير النقدي والاستكشافي، خصوصا عند السماح بطرح الأسئلة غير المقيدة والتي تخاطب الفكر وتحفز على الإبداع.

البحث عن الجواب

يعرف هذا الأسلوب البيداغوجي أيضا بأسلوب بيستالوزي The Pestalozzi Method، وهو، على عكس النموذج التعليمي التقليدي الذي يتيح للطلاب معرفة الجواب الصحيح عقب كل نشاط صفي من خلال التقويمات التكوينية، ينمي في الطلاب التفكير المنطقي ويشجعهم على التعلم الذاتي والبحث عن الجواب بكل الطرق الممكنة بمساعدة من المعلم الذي يوفر الوسائل الديداكتيكية الضرورية Didactic Tools. ويؤمن مؤيدو هذا الأسلوب أنّه من الجيد فسح مجال أكبر للمتعلم لإطلاق العنان لمخيلته فربما يحدو حدو ألبرت آينشتاين الذي عرف بتطبيق هذا الأسلوب وهو صاحب المقولة الشهيرة: “المخيّلة أكثر أهميّة من المعرفة، فالمعرفة محدودة، أمّا المخيّلة فتطوّق العالم” – (Imagination is more important than knowledge. Knowledge is limited but imagination circles the world)

استخدام نظام الطاولات المستديرة في الفصل

والمعروف أيضا بأسلوب هاركنس Harkness method يهدف إلى تحويل قاعة الدرس إلى مكان للتفاعل والنقاش والحوار بدلا من النهج التعليمي العقيم الذي يعتمد أسلوب الإلقاء والتلقين. يوصي هاركنس في هذا الشأن باستخدام طاولات دائرية على غرار تلك الموجودة في قاعات الاجتماعات والمؤتمرات. ويمكن للأساتذة في المدارس ذات الموارد المحدودة كما في أغلب الفصول في الدول العربية، إعادة تنظيم الطاولات المتوفرة بناء على هذه الطريقة للسماح للتلاميذ بالعمل ضمن جماعات وبالنتيجة تحقيق الغرض ذاته.

كل فكرة هي براءة اختراع

يعتبر أغلبنا أن الابتكار محصور في فكرة جديدة وفريدة فقط. لكن في الحقيقة، يجب على المدرس أن يشعر الطلاب أنّ أفكارهم وإجاباتهم ومنتوجاتهم هي ذات قيمة كبيرة وتشكّل نوعا من الابتكار أو الاختراع إضافة إلى تشجيعهم على نقدها بهدف تطويرها أو تحسينها. فالحقيقة أنّ الطلاب بحاجة مستمرة إلى التحفيز والدعم العاطفي الذي ينمي روح التفكير الإبداعي والثقة بالنفس.

التعلم القائم على المشاريع

يساعد التدريس وفق بيداغوجيا المشروع على تنمية المهارات الاجتماعية، و تعزيز روح القيادة و الإبداع، و تحسين مهارات الكتابة و البحث. فمشروع الفصل الواحد قد يسمح للطالب بدمج المعارف التي تعلّمها مع مهاراته الفردية بمجرد الانخراط في مرحلة التخطيط بمعية زملائه، انتهاء بمرحلة تقييم نتائج المشروع ومقارنتها بالأهداف المسطرة له، حيث يبقى دور المعلم في نمط التدريس هذا توجيهيا ومساعدا فقط.

أدوات التفكير الإبداعي الرقمية

بالنسبة لطلاب اليوم، يمكن للتقنيات الحديثة أن تكون تلك الوسيلة الممتعة التي تحقق أهدافا تربوية، خصوصا إذا ما تم استخدامها داخل الفصول الدراسية. فهناك بالفعل الكثير من التطبيقات التعليمية الخاصة بالأجهزة اللوحية و برامج الحاسوب وغيرها، و التي من شأنها إثارة التفكير الإبداعي لدى الطلاب و تحفيزهم على التعلم الفعال. وهنا يأتي دور المدرس الذي عليه اختيار المناسب من هذه الأدوات وتصنيفها بناء على طبيعة المادة المُدرَّسة والمهارات التي تنميها.

ربط المعارف والمهارات بالحياة اليومية

من المهم إثارة مساعدة الطلاب على التنبه إلى العلاقة التي قد تربط بعض المفاهيم والمهارات والمعارف بالواقع المُعَاش، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمفاهيم مجردة كالرياضيات… فعندما يتم التطرق إلى علم الهندسة على سبيل المثال، يمكن إعطاء المتعلّم أمثلة حية ودفعه إلى ملاحظة عناصر معينة أو أشكال هندسية مناسبة، بحيث تمكنه هذه الطريقة من تجسيد ما يتعلّمه عبر معاينة الانتقال السلس من النظري إلى التطبيقي.

التقاطعات بين المواد الدراسية

إن استراتيجيات التعليم الحديثة تتجه لاستغلال التقاطعات والقواسم المشتركة بين مختلف المواد الدراسية متى كان ذلك ممكنا، فذلك يجعل التعلم قابلا للتطبيق وملموسا إلى حد ما بالنسبة للمتعلمين. فهناك في الحقيقة الكثير من الدروس في مختلف المواد والمقررات التي قد تمثل فرصة سانحة للدمج بين مكونين أو أكثر، الرسم والرياضيات مثلا، أو الجغرافيا والعلوم الطبيعية… ويمكن في هذا الصدد الاستئناس ببعض الأمثلة التطبيقية التالية:

أفكار لاستخدام الإبداع الفني في تحبيب الرياضيات للأطفال.
مشاريع صفية تدمج الإبداع الفني في التعبير الكتابي.
توظيف الفن في الرياضيات : درس التماثل نموذجا.

الاختراعات والابتكارات

يحب الطلاب معرفة تاريخ الاكتشافات والاختراعات عندما يتم التطرق إليها خلال الدرس، ولعلها فرصة جيدة لوضعهم في الصورة من الناحية التاريخية والعلمية، عبر التعرف على سيرة أصحابها والتركيز على الدوافع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت مثلا إلى اختراع جهاز ما أو تطويره، والربط متى أمكن ذلك، مع الثورة العلمية التي ساهمت في هذه الاكتشافات والاختراعات.

فضاء الإبداع والابتكار

عادة ما يحب المتعلمون عرض إبداعاتهم من أبحاث ميدانية أو تقارير صحفية أو كتابات أو رسومات أو أعمال يدوية أو أي شيء تم إنجازه في إطار الأنشطة المدرسية أو بمبادرة فردية منهم للتعبير عن آرائهم وإبراز موهبتهم. لذلك سيكون جميلا تخصيص مكان في الفصل يسمى مثلا: فضاء الإبداع، سترى أن الجميع سيسارع لإنتاج وعرض شيء مميز. حينها عليك كمدرس، تشجيع كل الأفكار والمبادرات وتقديم النصائح حيالها لتطويرها أو تحسينها.


الخاتمة:

أصبح الإبداع والابتكار اليوم مهارتين أساسيتين ستمكنان الطلاب من مواجهة تحديات المستقبل ومتطلبات سوق العمل المتنامية، والذي ستحتدم فيه المنافسة حتما بين شباب يمتلكون مهارات وقدرات متباينة ستُحدّد مدى أهليتهم لشغل مناصب ريادية، وذلك بناء على تفاصيل دقيقة يلعب فيها المسار الدراسي الدور الأهم بكل التعقيدات التي تتخلله، والتي تحددها جودة النظام التعليمي.
ونجد الأنظمة التعليمية الحالية بأمس الحاجة إلى ثورة إصلاحية على مستوى المناهج وطرق التدريس لتواكب ثورة العالم اقتصاديا وتكنولوجيا بشكل يتيح للمدرسين وسائل أكثر وحرية أكبر للإبداع في مهنتهم واختيار ما يناسب تطلعاتهم لتجهيز جيل المستقبل، جيل يُنتَظر منه الكثير.

اعداد : الأستاذ نجيب زها

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

التربية والمجتمع.. علاقة تكاملية وركيزة أساسية لتطور الأفراد

تُعد التربية والمجتمع من المحاور الأساسية التي تُشكل هوية الإنسان وتحدد معالم تطوره. إن العلاقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *