تخيل مجموعة من العلماء منكبين على تصميم وتصنيع مختبر من أكثر مختبرات العالم تقدما، و عندما ينتهون من إنجازه يبتلعه احدهم. فهذا المختبر لن يزيد حجمة عن حجم حبة دواء عادية ، لكنه يشتمل على معدات تحسس وقياس وارسال دقيقة ومتطورة.
يتعاون في العمل في مشروع المختبر الصحي المنمنم «البالغ الصغر» علماء من جامعات غلاسکو، ادنبرة، وستراثكلايد، في بريطانيا. وهم يدمجون أنظمة فيزيائية كيميائية مصغرة متنوعة في روبوت (انسان آلي) بالغ الصغر، پرسل داخل الجسم ليقيس مظاهر معينة مثل درجة حموضة المعدة، ثم ترسل المعلومات عبر جدار المعدة الى مستقبل خارجی. وقد طور الباحثون كاميرا منمنمة توضع داخل هذا المختبر المتمثل في حبة الدواء التي تسمى الرابوط الطبيب (Robodoc) وتسير في انحاء الجسم لتشخص الامراض وتبلغنا عنها.
تسمى هذه التكنولوجيا «التكنولوجيا المنمنمة» Nano _ technology ( النانومتر = جزء من بليون من المتر) وهي تمثل سباقا يشبه سباق الفضاء الذي انشغل به الروس والاميركان في القرن العشرين. أنه سباق فضاء من نوع جديد . کشف الفضاء الداخلي باستخدام مرکبات فضائية بالغة الصغر، كما أن العلماء المشتركين في هذا السباق ينتمون إلى دول عدة.
لا مستحيل في عالم التكنولوجيا المنمنمة ، فقد اجتمع مستثمرون في شركة تكنولوجيا حيوية بريطانية صغيرة قرب اكسفورد، ليعرفوا كيف صرفت الشركة أموالهم. فشاهدوا جهاز فحص مخبري يبدو وكأنه مأخوذ من أفلام الخيال العلمي، وضعت قطرة دم على شريحة وأدخلت في الجهاز، وفي بضع ثوان اعطى الجهاز تحليلا للدم، ويمكن معرفة عناصر مختلفة من عينة الدم اعتمادا على نوع الشريحة التي توضع عليها قطرة الدم، ومن ذلك مثلا تحديد مستوى الكوليسترول في الدم والذي يحتاج حاليا للانتظار لبضعة أيام.
ورغم التعقيد البالغ لهذه التكنولوجيا ولاجهزتها، فان الانتاج المكثف قد يهبط بسعر الشريحة الخاصة بهذا الفحص الى نحو 15 بنسا في المستقبل.
ويعتقد بعض العلماء أنه في مستقبل ليس بالبعيد، سيمكن زرع ادوات قياس في الجسم، تحذرك من اي مرض وشيك، او تزرع في ساعة اليد لتنذرك بأن نبضك مرتفع اكثر مما يجب وانك قد تكون معرضا لنوبة قلبية وشيكة.
في عام 1959 قال الفيزيائي الشهير ريتشارد فينمان في محاضرة له أن التقدم الكبير في الفيزياء سيكون في العالم المنمنم، وبعد سنوات شاهد الناس الفيلم المثير Voyage المعتمد على رواية لاسحق ازيموف، وهو يعرض لقصة فريق جراحي جرى تصغير افراده وإدخالهم في جسم رجل يحتضر لازالة جلطة دموية في دماغه.
في عام 1989 توصل العلماء بعد جهد كبير الى تكوين الحروف IBM من 30 ذرة من الزينون في
درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق (- 270 درجه سلسیوس). وبعد عشرة أعوام حققوا ذلك في غضون دقائق فقط وفي درجة حرارة الغرفة.
في اوساكا، توصل العلماء الى صنع اصغر نظام ميكانيكي حتى الان، وهو زنبرك له ذراع سمكها 300 جزء من البليون من المتر، وصنع آخرون عجلات مسننة اصغر من رأس الدبوس، وروافع منمنمة للتعامل مع اجزاء صغيرة من مادة الوراثة DNA وملاقط منمنمة لالتقاط جزيئات لا ترى بالعين المجردة.
في جامعة الينوي يعمل العلماء لصنع «اقراص دواء ذكية» لا ترى بالعين المجردة، تحمل الدواء في مخازن منمنمة، تفتح فقط وتفرغ هذا الدواء عندما تصل إلى الخلايا المريضة المستهدفة في الجسم.
ماده
وعلى حد قول البروفيسور بيتر دوبسن المختص في التكنولوجيا المنمنمة في جامعة أكسفورد فان افاق هذه التكنولوجيا واعدة جدا خاصة في المجال العلاجي.
الأفاق الواعدة للتكنولوجيا المنمنمة ادت الى اهتمام شعبي وحكومي متزايد بها في العالم المتقدم، فمثلا تنفق الجامعات في كاليفورنيا اكثر من 500 مليون دولار سنويا على الأبحاث فيها، واعلنت اليابان أن هذه التكنولوجيا تمثل مسارا استراتيجيا للمستقبل فيها، كما أعلنت كوريا انها ستستثمر بمئات الملايين من الدولارات في ابحاث التكنولوجيا المنمنمة على مدى الاعوام العشرة القادمة، وكذلك الحال مع الألمان والصينيين.
وفي بريطانيا، يعمل الباحثون في معهد التكنولوجيا المنمنمة في مجالات بحث عدة منها تطوير اساليب توصيل الدواء الى خلايا الجسم المريضة واصلاح انسجة الجسم المصابة وتطوير ادوات مساعدة للسمع تزرع في داخل الاذن ولا تعتمد على مصدر طاقة خارجي.
اما في عالم المختبرات فالامثلة لا حصر لها، فقد أعلن باحثون في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا انهم يجرون تجارب على رقاقة منمنمة تحتوي على 34 مخزنا للدواء، لكل مخزن منها غطاء ذهبي يتحلل عند مرور تيار كهربائي فيه، والرقاقة مصممة لتزرع في الجسم، وتبرمج لتحرر الدواء فيه حسب الحاجة.
كما اعلن مهندسون في جامعة طوكيو عن صنع رابوط طوله 8 ملم وله رأس معدني قادر على تدمير النسيج المريض في الجسم وهو يتحرك بدفع مغناطيسي، ويوجد به نموذج مجوف لتوصيل الدواء الى المكان المطلوب.
من جهة أخرى فقد طور باحثون من شركة Olympus Optical اليابانية كبسولة منمنمة ذكية والتي تحتوي على كاميرا يمكن التحكم بها عن بعد، وعلى ادوات عمل مختلفة، وسيمكن لهذه الكبسولة التجول في القناة الهضمية والأوعية الدموية والقيام بمهمات علاجية متنوعة.
ترجمة : حسام مدانات
مصدر الصورة
.justscience.in