مشكلة الإدمان وكيمياء دماغ الإنسان

كان «جيف» شابا ناجحا في عمله، كثير الأصدقاء، يعيش حياة نشطة ممتعة تعد بمستقبل مهني واجتماعي مشرق، لكن فجأة اخذ كل شيء بالتغير نحو الأسوأ.

فقبل ثماني سنوات، جرب هذا الشاب الأميركي «۳۰ سنة» أثناء وجوده في حفلة «متعة» الهيروين، وأصبح بسرعة مدمنا عليه. وفي البداية حاول إخفاء إدمانه عن المحيطين به، لكن سرعان ما اكتشفت صديقته سره، وتركته، كما اخذ اصدقاؤه بالابتعاد عنه، وشيئا فشيئا اخذ يهمل في عمله حتى افلس. وفي النهاية عندما أصبح بدون عمل او نقود اتجه ليعيش مع اخته، وكان خائفا جدا من التوقف عن تعاطي الهيروين لمعرفته بآلام الانسحاب التي سيعيشها.

ونتيجة ليأسه من وضعه، اتجه جيف الى تناول عقاقير مضادة للادمان غير قانونية، فعانی من مضاعفاتها الجانبية قبل ان يتجه الى مركز مختص في معالجة الادمان ساعده في العودة تدريجيا الى حياته الطبيعية.

حالة «جيف» هذه مثال على واقع حال ملايين الشباب في مختلف انحاء العالم الذين عانوا او يعانون من مأساة الادمان بمختلف أشكاله. وتشير الإحصاءات الاميركية مثلا عن عام ۲۰۰۰ الى وجود 65.5مليون أميركي مدمن على التدخين و 57.3 مليون مدمنين على القهوة، و 15.4 مليون على الكحول، و3.3 مليون على الكوكايين، و۹۸۰ الفا على الهيروين.

كما تشير هذه الاحصاءات الى ان اعداد الوفيات «بشكل مباشر أو غير مباشر» من هذا الادمان بلغ 430 الفا من التبغ و110 الاف من الكحول و 4864 من الكوكايين و 4۸۲۰ من الهيروين و۲۰۳۸ من المهدئات و 1745 بسبب مضادات الاكتئاب.

اما عن الكلفة السنوية للادمان بما في ذلك كلفة الرعاية الصحية وانخفاض الإنتاجية في العمل والرعاية والاجراءات القانونية فتبلغ 184 بليونا للكحول و 143 بليونا للمخدرات و۱۳۸ بليونا للتبغ.

من ناحية اخرى وفيما يتعلق بفهم كيفية حدوث الادمان، وتطوير عقاقير مضادة له، فقد تحقق تقدم كبير في هذا المجال في ضوء التقدم الكبير الذي تحقق في فهم وظائف وكيمياء الدماغ في السنوات الأخيرة.

ويقول العلماء أن الفهم الكامل لآلية الدماغ سيوفر لهم امكانية تطوير عقاقير للتخلص من الادمان دون التأثير في الاحساس بمتعة الحياة عند الانسان. ويدعم اندفاعهم في بحوث الدماغ الأمل والرغبة بتحسين حياة عشرات ملايين الأميركيين المدمنين على طيف واسع من المواد من الدخان والقهوة الى الكحول والمخدرات المختلفة.

وعلى حد قول فرانك فوكي مدير ادارة بحوث العلاج والتطوير في المعهد الوطني الاميركي لإساءة استعمال العقاقير، فان الادمان يرافق الكثيرين، وتمثل العقاقير التي يجري تطويرها محاولتنا الحقيقية الأولى للحد منه.

في الوقت الحاضر توجد عشرات مشاريع البحث الكبير في مجال تطوير هذه العقاقير (60 مركبا يجري تطويرها مثلا لمعالجة ادمان الكوكايين)، وهي تجري في جامعات ومراكز بحث مشهورة منها جون هوبكنز وايموري وهارفرد وبنسلفانيا والمعهد الوطني لاساءة استعمال العقاقير. ولعل مشروع بروكهافن الذي يعمل فيه عشرات العلماء بميزانية تصل إلى خمسة ملايين دولار هو الأكثر طموحة فيها، اذ يعمل فيه العلماء لرسم خريطة أنشطة الدماغ المدمن باستخدام تكنولوجيات تصوير متقدمة جدا. والهدف
الرئيسي يركز على مادة دوبامين الشهيرة.

والدوبامين، كما يعرفه طلبة المدارس والجامعات، هو واحد من النواقل العصبية التي تنقل المعلومات بين خلية عصبية وأخرى في الدماغ. فعندما يمر سیال عصبي في خلية عصبية يفرز الدوبامين من مخازنه وينتقل الى الخلية العصبية التالية ليرتبط بمستقبلات خاصة به على غشائها، منبها حدوث سیال عصبي فيها.

والوظيفة الرئيسية للدوبامين هي نقل المعلومات الخاصة بالالم والمتعة بين الخلايا العصبية، فالمتعة والبهجة اللذين يشعر بهما الإنسان عند تناول طعام شهي او سماع عبارات إعجاب ومديح، او عند الفوز بجائزة او مسابقة، يرتبطان جزئيا بالدوبامين. لكن مؤخرا فقط تعرف العلماء على الجانب الاخر المظلم من الدوبامين، وهو ذلك المرتبط بالإدمان.

في الأحوال العادية بفرز الدماغ الدوبامين بتراكيز ثابتة مناسبة، لكن بتأثير عقار مثل الكوكايين يفرز الدماغ مقادير هائلة من الدوبامين. ويسبب ذلك تنشيط جميع مستقبلات الدوبامين على اغشية الخلايا العصبية والنتيجة شعور الانسان بالنشوة والخفة، في الوقت الذي يحاول فيه دماغه ضبط الأمور باغلاق بعض مستقبلات الدوبامين وعندما ينتهي تأثير العقار «الكوكايين مثلا» فان قلة من مستقبلات الدوبامين في الدماغ تكون عاملة، مما يجعل الانسان في مزاج سيء مقارنة بمزاجه في الوضع الطبيعي وقبل أن يتناول الكوكايين. وعندها تبدأ آلية طبيعية في الجسم بالعمل، وهي ما يسمى التغذية الراجعة السلبية والتي تؤدي الى الإدمان، اذ يضطر الإنسان في كل مرة الى تناول كميات اكبر من العقار المخدر للحصول على النشوة والمتعة كما يكون في مزاج اكثر سوءا عند انتهاء تأثير العقار.

وفي النهاية يصبح الأمر كما في حالة مسرحيات الدمى المتحركة اي يتحكم الكوكايين بمستويات الدوبامين في الدماغ، ويضطر الانسان لتناوله لمجرد أن يشعر انه انسان. هذا وقد أشارت دراسات حديثة الى انه عند توقف المدمن عن تعاطي المخدر فان مستقبلات الدوبامين المعطلة في الدماغ قادرة على اصلاح نفسها.

بتشريح ادمغة الحيوانات توصل العلماء إلى ان مسار الدوبامين هو نفسه عند متعاطي أنواع العقاقير المختلفة جميعها. لكن مع ظهور تكنولوجيا التصوير الطبقي بانبعاث البوزيترون في عام 1997، أصبحت نورا فولكو مديرة مختبر علوم الحياة في مشروع بروکهان اول عالم يوضح آلية الادمان في الانسان الحي. فقد استخدمت فولكو هذه التكنولوجيا التي تظهر نشاط الدماغ في الوقت نفسه الذي يحدث فيه للمساعدة في دراسة حالة۱۷ مدمنا على الكوكايين، ووجدت انه كلما زادت اعداد المستقبلات العصبية للدوبامين العاملة في الدماغ، فان شعور الانسان بالنشوة يزداد.

العالم ستيفن ديوي زميل فولكو توصل من تجارب على قردة البابون الى ان تناول عقار الصرع Vigabatrin يشل فعالية الكوكايين في زيادة نشاط الدوبامين في الدماغ، وهو يخطط لتجربة العقار على مدمني المخدرات، ومن النتائج غير المتوقعة لتجارب دوي ما يرتبط بظهور الرغبة في الشراب او تناول المخدرات نتيجة التعرض لمشاهد او سماع اصوات مألوفة، ومن ذلك رؤية قطعة ثلج في كوب زجاجي او سماع صریر شفرة على مرآة. وقد كان العلماء يعتقدون أن هذه الاستجابات ترتبط بسلوك متأصل، لذا كانت النصيحة لمن يتعالجون من ادمان المخدرات بعدم الاختلاط باصدقاء قدامي من الفترة التي بدأ ادمانهم فيها. الا ان تجارب ديوي على الجرذان اظهرت ان الادمان يرتبط بمشکلات مادية في الدماغ، وبالتالي فان المعالجة التي تعمل على احداث تغييرات في كيمياء الدماغ هي المفتاح التحقيق النتيجة المرجوة، وكما تقول فولكو ان الأمر كله يرتبط بتغيير بروتين هنا او هناك.

وتعتقد فولكو انه يتوفر لدى بعض الناس استعدادا للإدمان، وان هذا العامل يرتبط بوراثتهم لعدد من مستقبلات الدوبامين في الخلايا العصبية اقل من الطبيعي، او ان أدمغتهم فقدت هذه المستقبلات مع الوقت نتيجة تعرضهم لتجارب حياتية قاسية. وتقول ان هولاء الأشخاص هم ضحايا لنقص في مستقبلات الدوبامين جعلتهم عرضة للإدمان، إضافة إلى أن إدمانهم تسبب في فقدانهم لإعداد اكبر من هذه المستقبلات.


وفي دراسة حديثة ظهرت نتائجها في مؤخرا، تبين أن 15 مدمنا لديهم 10% – 16% اقل من مستقبلات الدوبامين بالمقارنة مع ۲۰ شخصا غير مدمنين.

فريق بحث بروکهافن اعلن مؤخرا نتائج دراسة أظهرت أن نقصان أعداد مستقبلات الدوبامين عند المدمنين يرتبط بنشاط ايضي منخفض في ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن أداء عدة مهمات في الوقت نفسه. الا ان تطبيقات هذه النتائج غير واضحة حتى الآن، بالرغم من اعتقاد البعض أن النتائج قد تؤدي إلى تحديد أدق لتلك الأماكن في الدماغ التي يجب توجيه عقاقير معالجة الإدمان إليها.

مصدر الصورة
pixabay.com

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

زيت الزيتون وفوائده الصحية ودوره في حماية القلب ومكافحة الأمراض

يُعدُّ زيت الزيتون من أبرز المكونات الغذائية التي تشتهر بها منطقة الشرق الأوسط، ويحتل مكانة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *