العولمة والهوية الثقافية للمجتمع

تتباين الآراء حول ماهية العولمة وتأثيرها على المجتمعات البشرية وخصوصا مجتمعات العالم الثالث والمجتمعات المحافظة بشكل عام.

المقال التالي للكاتب زيد ابو زيد يتناول فيه العلاقة ما بين الثقافة والعولمة وتأثيرها على المجتمع بشكل عام.

تشعب الجدل وكثر الحديث حول العولمة ، بين من يعتقدها غولا يوشك أن يفتك به ، ومن يعتبرها سبيلاً للخلاص وطريقاً للتقدم إلى المستقبل ، وجسراً عماده التقنية والعلم والمعرفة، ولا شك في أن الرأيين محقان للوهلة الأولى ، ولأن المصطلح فضفاض والطريق إلى ولوجه صعب لا بد من تحليل مدلولاته قبل حسم أمر التعامل مع عناصره ، فالعولمة مصطلح جديد في اللغة العربية جاء ترجمة للمصطلح الإنكليزي Globalization ،وأصل المصطلح لاتيني ويعني (Glob)الذي يعني الكرة الأرضية.و لم يظهر المصطلح قبل ستينيات القرن العشرين ، وكان يصف في بدايته ، ظواهر أصبحت أممية عالمية بعد أن كانت قطرية أو قومية، وكانت تقصد في أغراضها بداية الثورة المعلوماتية والتقدم العلمي التقني ، ولكنه أتخذ مضموناً اقتصادياً في بداية تسعينيات القرن الماضي ، وأصبح مفروضاً في التحليل الإقتصادي ، وتعني العولمة أيضاً عند بعض المحللين والباحثين العالمية و الشمولية وجميعها تعني مجالات العولمة.

فهل العولمة حركة علمية موضوعية لا سبيل إلى التخلص منها، ولا بد من التعامل معها، أو هي حركة سياسيه لنا فيها حرية الاندماج، أو الرفض والمقاومة؟ وهل هي سبيل للخلاص من الهيمنة والتبعية والاستغلال، ؟ أوهي قيد جديد وطوق يزيد الهيمنة ؟ هل نحن أمام أمركة العولمة ؟، أم التعددية الحضارية والثقافية، والسياسية الانفتاحية على العالم، وهل لدى العالم الثالث مقومات الاندماج فيها؟ وكيف يمكن لنا أن نتجنب مخاطرها؟ هل العولمة هي نتاج للرأسمالية، وأحد وجوهها؟ وهل هذا المصطلح بدلالاته الرومانسية يمثل أحلام الفلاسفة بأن يتحول هذا العالم إلى قرية صغيرة يتآخى فيها البشر وتذوب فيها خلافاتهم في ظل التقدم والإزدهار، أوهي مدخل لمزيد من الخلافات والتشرذم والحروب في إطار الفكر الجديد المعتمد على إذابة الحدود وتقلص دور الحكومات والقرار السيادي الوطني ، وهل تبني الثقافة الغربّية شرط لا بد منه للدخول إلى العولمة؟ وما هي الأبعاد السياسية، والثقافية للعولمة؟، كلها أسئلة بحاجة إلى إجابة ، والإجابة قد تكون بعيدة وقد لا تكون ، و لنعترف بداية أن التعاميم القديمة لم تعد مجدية ، لو عرض التجديد على رواد الثقافة التقليدية بجميع اتجاهاتها الإقتصادية والاجتماعية والسياسية اليوم لما رفضوه ، ولكن بأي اتجاه.

هذه هي أهم الأسئلة التي يجب الرد عليها من خلال مناقشة مفاهيم :” ثقافة العولمة”، و”عولمة الثقافة”، ومفهوم التبعية ، ونظرية المؤامرة ……..الخ المصطلحات والمفاهيم ذات الدلالة.

وبداية أود الحديث عن أن ثمة تمييز في الجانب النظري على الأقل ، بين العولمة والهيمنه رغم ما بينهما من تداخلات ، فالعولمة نتاج للثورة المعرفية والتقنية ولما تحقق من إنجاز في قطاع الإتصالات، مما أتاح امام الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية واليابان باقتصادياتها العملاقة وشركاتها ومصارفها من فرض سياساتها وإعادة رسم خريطة العالم إستنادا إلى تفوقها، وهذا لا يعني أن ندفن الرأس في الرمال، بل يعني اللحاق بالتقدم العلمي من أجل قهرالتخلف واللحاق بركب العلم والمعرفة ، بشروط الفضاءات الجديدة لا بشروط الفضاءات المضادة.

ما يجب أن نتفق عليه هو أن نقد مسَّمى “ثقافة العولمة” كمصطلح مفروض من الغرب، على العالم الثالث لا خيار فيه، والآخر استنهاض مفهوم اصطلاحي مضاد هو “عولمة الثقافة” ويهدف إلى إرساء ثقافة جديدة ترفض الهيمنة، والاستعمار، وقائمة على مبدأ عدم رفض التباينات، واحترام الخصوصيّات، من أجل “إقامة حضارة إنسانية عالمية صحيحة قائمة على الديمقراطية الحقيقية ، الديمقراطية التي تعني حكم الشعب بواسطة الشعب ولمصلحة الشعب ، لا تلك النماذج البالية التقليدية المعتمدة تغييب الشعب والحلول مكانه” الديمقراطية التي تحقق المساواة، وعدم التهميش للآخر، وكل هذا لن يتم “في ظل استمرار سيادة المفاهيم السائدة والمطبقة في غير ذي مكان والتي تكرس التراكم الرأسمالي” الحاليّ وتعطية دوراً جديداً كلما تعمقت أزماته.

والعولمة تعني في أحد جوانبها أيضاً خضوع البشرَّية لتأريخية واحدة، مما يعني سيرورتها في مكانية ثقافية واجتماعية، وسياسية موحدة، وحتى نقرب المفهوم أكثر نلخصها في كثافة انتقال المعلومات، وسرعتها، وكأننا نحيا في عالم موحَّد.. أو في (قرية كونية) – بتعبير مكلوهان- أما المضمون الرئيسي للعولمة فهو انتقال البشرية من التاريخ الخاص إلى التاريخ الواحد، ذي الثقافة الواحدة، والنمط الإنتاجي الواحد المتحقق على مستوى الكرة الأرضية، وهذا لم يتحقق، لا سيما على مستوى الدول القومية، والاندماج الجغرافي، والزماني للمجتمعات الإنسانية وفرض الثقافة الواحدية.

مؤكدين هنا البعد الموضوعي للعولمة (إرادة السيطرة الدولية)، ودافعين حاثين على البعد الذاتي الذي يعني المقاومة من خلال استراتيجية التحكم الذاتي بآليات البنية الجديدة التي تفرزها العولمة، محذرين من الخطر الكامن وراء الانقطاع عن العولمة، ورفضها، دون الاستسلام لها بدون ضوابط ومعايير؛ لأن التسليم دون شرط يعني الإهمال، والتخلي عن جزء أساسي من آليات الاحتفاظ بالفاعلية التاريخية، لأن حقيقة ما تمثله العولمة من فرص تحررية مختلفة نتيجة التفاعل معها، ومن ذلك تجاوز العقبات التي تعيق كثيراً من تقدم الشعوب، لاسيما العربية، وتقديم فرص للتقدم من خلال التدفق الحر ، للمنتجات والمعلومات والأفكار، والمخترعات . وهنا لابد من الحذر لأن الإتاحة التحررية للفرص ليست كلها متاحة، أو تلقائية للجميع لارتباطها بالدول، أو بالسياسات الكبرى للبلدان الغربية، بما يعني الوقوع تحت سنابك هذه السياسات شئنا أم أبينا.

وهنا الخوف أن تتحول العولمة إذا أخذت دون ضبط أو تمحيص إلى سلعة مسيطرة. فإلحاق الثقافة بالعولمة على سبيل المثال ، يتجه بالذهن إلى كلمات جديدة مثل أمركة الثقافة ، أي تعميم النموذج الأمريكي للحياة، و(السلعنة) ، أي تعميم قيم السوق على الفعاليات الثقافية، وتحويل الثقافة إلى سلعة، وتهديد الهوية الثقافية.

فإذا فُقد التميز الثقافي لمجتمع ما فإنه يندمج في غيره ثقافياً، ويفقد هويته، والخشية دائماً قائمة من الذوبان في النموذج العالمي الوافد .وهنا أؤكد أن لا ثقافة مستقلة تماماً، وليست هناك من صيغة ثابتة جامدة ، لأن في القناعة بذلك دونما سند منطقي إلغاء متعسف للتطور التاريخي، فالافكار و السلوكات تتغير عبر الزمن وتنتقل من بعد إلى آخر ، ولا بد من تفاعل الثقافات ، فالثقافات المسيطرة لا تتأتى سيطرتها من المنظومة الأخلاقية لها، أو الدينية، مثلاً، وإنما تتأتى هذه السيطرة من التفوق المادي (العسكري، والاقتصادي، والسياسي). سيطرة الثقافة ليس معناه سلب الثقافات الأُخرى “اتساقها الداخلي، وقدراتها الإبداعية” إذْ يمكن الحدّ من تلك السيطرة بطرق عديدة ثقافية أيضاً.

ونحن عندما نتناول هذا الموضوع لما شكله في السنوات الأخيرة ، من محور أساسي لعدد كبير من الندوات والملتقيات الفكرية والثقافية

إضافة إلى عشرات المؤلفات والدراسات والأبحاث ، وكان الإجماع منعقداً على أن العولمة تمثل تحدياً كبيراً في عصرنا بصرف النظر عن الاختلاف في منطلقات المقاربة وزوايا النظر ونقاط التركيز خاصة بالنسبة للبلدان النامية والشعوب التي تعتز بقيمها الثقافية والحضارية المستمدة من منابع وفضاءات روحية كونية شمولية كالشعوب العربية و الإسلامية.

ورغم ذلك نقول أن العولمة هي ثقافة تحكم النزعة الاقتصادية في العالم بالدرجة الأولى ، لدرجة تهديد مصيره ومصير الحياة على الأرض، فالعولمة الرأسمالية ثقافة متكاملة عملت وتعمل للقضاء على الثقافة الغربية وعلى باقي ثقافات العالم بما فيها الثقافة العربية والإسلامية والعمل لتحويل جميع الثقافات إلى نوع من الفولكلور الشعبي الذي لا قيمة حقيقية له على المستوى الحضاري ، فهذه الثقافة (العولمة الرأسمالية) هي ثقافة ضد الثقافة، لأنها تقلص معنى الوجود إلى وظيفة واحدة، و تؤدي إلى إستعباد وقتل الثقافات الأخرى ،ومن هنا كان التأكيد على الأخذ بالمعرفة والعلم والتقنيات والتفاعل مع الثقافات مع بناء النموذج الحضاري الفكري والسياسي الذي يقف ضد الهيمنة .

وعلى العموم فإن العولمة عملية معقدة وشاملة تنطوي على مجموعة متشابكة من العناصر المتنوعة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والفكرية والثقافية تتحرك وتؤثر في تحقيق العولمة بطريقة متزامنة تقريباً وإن برز أحدها لكن بروزه لا يلغي فعل العناصر الأخرى في حركتها الضمنية.

إن العولمة عملية (صيرورة) تحصل حالياً بعد أن بدأت منذ حوالي أربعة عقود، ومن ثم هي حالة متغيرة باستمرار ويعيشها البشر فعلياً. وهذه الصيرورة تمليها بشكل أساسي متطلبات ناشئة في ميدان الاقتصاد العالمي. والعولمة بما هي حركة راهنة ومستمرة فهي تسعى إلى إقامة نظام عالمي جديد يحل محل النظام العالمي الذي كان سائداً زمن (الحرب الباردة)، وتنطوي على التكامل الصارم في الأسواق وفي الدول والأمم، لكنها من الناحية الثقافية هي انتشار للأمركة،(الثقافة والفكر السياسي الأمريكي)، إذا أخذت على علاتها، والثقافة من منظور عدم الجمود تتساير وتتماشى دوماً مع حركة الفكر الإنساني،و ترسم ملامح التعبير إزاء أي ظاهرة جديدة ، وتنسجم مع حركة التاريخ بأبعاده الزمانية والمكانية، فالثقافة لا تتضاد مع الجديد في كل الحقول والميادين، بل تتفاعل مع المكتشفات الفكرية ، وتنسج سماتها التنويرية، وتشكل مجساتها التي تتحرى الأثر وتتماثل مع الآخر، الثقافة إسهام جمعيٌ للمنتج المعرفي في تحديث الرؤية والموقف من الآني والمتوقع، وتجسير لحالة الوضوح والتناغم مع المتغير، وكذلك العولمة مفردة منتجة لحالة تحول بارزة في تأريخ الحدث الحياتي، ولأن حالة التحول تلك تشكل تضاداً مع القراءة الأولى لحقيقة الجديد، وبينهما ينشأ التوافق والإختلاف ، فكل جديد يسهم في تدوين مفهوم المغايرة في الخطاب الثقافي، ودائماً تحدث حالة التفاوض أو حالة المهادنة التي تفضي إلى تحديث الشعار الثقافي ليحتوي الأبعاد الجديدة للمنتج الفكري سواء كان هذا المنتج منبثقاً من ماضيه أو مبتكراً من حاضره، ولأن الثقافة هي حالة استشرافية قائمة مع كل التحولات الجديدة فلابد لها أن تتواءم ومفهوم العولمة كي ترصد حالة التأثير والأثر بين الجديد كمنتج فكري وحالة الآن الزمانية والمكانية.

في هذا التداعي لو أنّ القطيعة فيما لو حدثت ستكون ذات أبعاد خطيرة ومخيفة في آن واحد ، فقطيعة التاريخ والتراث والقيم الأخلاقية تعني نشوء جيل بدائي في مفهوم التراكم المجتمعي، جيل بحاجة إلى هوية وهذه الهوية قطعاً تنزع للبحث عن قوالب معرفية وأيديولوجية جديدة كي تسهم في توضيح الملامح الأولية لتلك الشخصية المتشكلة من فجوة الانفصال عن الأسس والحاضنات الحياتية، لأن العولمة لا تؤمن بحركة التاريخ الذي سبق اختراع لغة الماكنة، والعولمة لا تؤمن بمنظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية بقدر إيمانها بلغة التقنية التي هي لغة العولمة الفعلية.


وأمام هذا الطرح الذي بدأنا نقرأ تفاعلاته مع حالة التحديث التي أفرزت عدّة معطيات يمكن من خلالها صياغة الكثير من الاستفهامات ورسم خطوط ولو افتراضية لحالة التصادم المتوقع بين نزعة تجديدية استحوذت على الخطاب المعرفي وبدت تتدخل في تشكيل مفاهيم فكرية واجتماعية وأخلاقية من خلال منظور واحد ألا وهو المنظور التقني العلمي البحت وبين منظومة معرفية أوجدتها حركة الفعل الحياتي وواكبت جميع مراحل وتجليات الفكر البشري. هنا هل نستطيع أن نعيد تشكيل الواقع وهل نستطيع اعادة الاعتبار لثقافتنا بواقع فكري جديد مستلهمين من الفكر التبشيري للنظرية العالمية الثالثة بواقع مشرق للبشرية فيما لو أخذنا الديمقراطية المباشرة طريقاً للتحرر من النظم التقليدية البالية وفي ذلك حصانة من هيمنة الآخر وانسجاماً مع ثورة العصر المعرفية.

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

استكشاف أفضل طرق التعلم

تتعدد طرق التعلم من شخص الى آخر، كما تختلف باختلاف المواضيع الدراسية التي يراد تعلمها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *