الطريقة التقليدية في التعامل مع المحاضرة الجامعية

ما زال الكثير من الطلبة الجامعيين في جامعاتنا العربية ينسجون على منوال الطريقة التقليدية في متابعة محاضرة الدكتور «البرفيسور».. فهم يحرصون على تدوین کل او معظم ما يتفوه به أثناء إلقاء محاضرته المتعلقة بهذه المادة او تلك.

فهل هذه الطريقة تتيح لهؤلاء الطلبة استيعاب المحور الذي تركز عليه المحاضرة، وهم المشغولون على نحو آلي بألا يفوتهم تدوين أية كلمة ترد على لسان المحاضر؟

بالطبع، لا.. بل انها مشتقة – مع الأسف – من طريقة «الاستذكار» أو «الصم» – وهي الكلمة الدارجة على ألسنة الطلبة – وتلك الطريقة التي تشل فاعلية التفكير، وتبقي على ما تنجح الذاكرة في حفظه من عبارات قالها المحاضر، وهو يتناول موضوعا ما، ليس شرطا بالضرورة أن تأتي على جميع أبعاده.

إن «مداومة» أمثال هؤلاء الطلبة على اللهاث وراء كل مفردة ينطق بها أستاذ المادة، يدونونها في كراسة المحاضرة طريقة عقيمة في تخريج علماء حقيقيين، لأنها تلاشي الإبداع والابتكار والقدرة على حرية الفكر.

عكس ذلك يحدث في الجامعات الغربية التي تركز على ما يقدمه الطالب الجامعي من معلومات توصل إليها بجهده الذاتي، وما قام به من بحث واستقصاء، وهو يتنقل بين المكتبات والمؤسسات الثقافية.

وفرق كبير بين طالب جامعي لا يعفي نفسه من عناء البحث والمتابعة والفرز بين الآراء العلمية ليرسو في النهاية على رأي علمي يدافع عنه بمنهجية علمية تدعمها الحجج والبراهين، وبين طالب يعفي نفسه من هذه المسؤولية معتمدا على ما دونه في کراسته من أقوال وآراء أستاذه.

فالأول غاص في أعماق المصادر والمراجع العلمية يبحث وينقب ويلخص دعما وتأييدا لهذا الموضوع أو ذاك، بينما الآخر اعتمد على مفردات المحاضر، اعتقادا منه ان حفظها سيضمن له النجاح في المادة المقررة.

قد ينجح فعلا مثل هذا الطالب في امتحان المادة، ولكنه النجاح المحدود الذي لا يوحي – مع الأسف – بأية استنارة فكرية امتلكها.

ويحضرني هنا موقف لأحد أساتذتي الأجلاء في جامعة عربية معروفة.. فأشد ما كان يبغضه وهو يحاضر حول موضوع ما، أن ينهمك بعض الطلبة في التدوين السريع لكلامه، حتى انه فاجأنا ذات مرة قائلا: إذا حدث أن أجاب أي طالب عن احد أسئلة امتحان نهاية العام مستخدما وجهة نظري ومفرداتي كلها، فلن ينال أكثر من علامة النجاح بتقدير جيد في أفضل الحالات! بينما من اشتم من إجابته معلومة لم اقلها وجاءت في محلها تضيء جوانب علمية وموضوعية تتعلق بالسؤال، فسيكون هو المبدع الذي يستحق التميز عن غيره.

وعليه، فالمطلوب من طلبتنا الجامعيين أن يتخلوا عن هذه الطريقة التقليدية والاكتفاء فقط بتسجيل ابرز محاور المحاضرة التي تتضمن مجموعة مركزة من الملاحظات، يتم تسجيلها بلغة الطالب نفسه. حتى إذا ما انتهت المحاضرة ذهب كل واحد منهم إلى مكتبة الجامعة يسترشد بما ورد في هذا المصدر أو المرجع حول أفكار المحاضرة.

وحتى تتلاشى سلبيات هذه الطريقة التي يستسهلها الكثيرون من طلابنا الجامعيين، يحسن بأساتذة الجامعة أن يكلفوا طلابهم إعداد بحوث قصيرة تخدم هذا الموضوع أو ذاك، على ان ينحصر البحث في احدی الجزيئات المعينة، فهذا من شأنه تفعيل النشاط الفكري لدى الطالب.

مرة أخرى أقول: ان تنمية مهارة «الجهد الذاتي» لدى المتعلمين تساعدهم في المستقبل على إتباع هذا النهج العلمي الذي يعتمد على حرية التفكير والموازنة بين الآراء العلمية المختلفة، وما لم يتم تعهد هذه المهارة منذ البداية، فإننا لن ننجح في تخريج علماء باحثين يواصلون مشوارهم العلمي في الدراسة والبحث.

إن الانجاز الأكاديمي المتميز مطلب ليس سهل المنال كما يظن، فما اکثر حملة الشهادات الجامعية في مجتمعاتنا العربية، ممن – مع الأسف – لم يصل سقف معارفهم وعلمهم الحد المطلوب، مما حال بينهم وبين أي ابتكار او إبداع في حقل تخصصهم.

ودون تجن مني على امثال هؤلاء، فاني أكاد اجزم أنهم بعد حصولهم على المؤهل الجامعي انقطعوا في الغالب عن الاستزادة من العلم في المجال الذي تخصصوا فيه.

وفي هذا السياق يقول أحد علماء التربية الكبار، واسمه وليم جيمس: «… لقد بدأ عالم اليوم يدرك أن ثروة الامم الحقيقية، تكمن في عدد اللامعين عقليا فيها…


وهذا منطق صحيح، فأية ثروة أخرى غير ثروة العقول قد تنضب وتنتهي، كما أنها لا تستطيع وحدها أن تثري الحضارة الإنسانية، في عصر يشهد انفجارا معلوماتيا وتكنولوجيا لا حدود له.. وما لم يعش خريج الجامعة هذه الثورة العلمية بكل مضامينها، فسيظل على الهامش، بالرغم من الشهادة الجامعية التي حصل عليها.

د يوسف عبدالله محمود

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

استكشاف أفضل طرق التعلم

تتعدد طرق التعلم من شخص الى آخر، كما تختلف باختلاف المواضيع الدراسية التي يراد تعلمها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *