السكان والموارد الطبيعية في الوطن العربي

البيئة في تدهور سيتواصل إذا ما استمرت عملية ازدياد السكان، وإذا لم تتخذ الدول كثيرة الولادات سياسات سكانية ناجحة للحد من زيادة السكان، فإن نسبة الفقر تزيد، وشح المياه يتزايد. وتقدر منظمة الصحة العالمية أن حوالي مليار نسمة في العالم يفتقرون إلى إمكانية الحصول على مياه نقية.

في الوطن العربي،تؤكد وزارة ألأعلام السورية بأنه لدينا الكثير من الدول العربية، التي بدأت باتباع سياسات سكانية ناجحة، مثل تونس التي وصلت إلى أعلى المراحل في هذه العملية، ونتمنى أن تسير كل الدول العربية بالطريق التي سلكتها في الإجراءات السكانية للوصول إلى مجتمع متقدم وللحفاظ على البيئة وللحد من انتشار الفقر، إذ يعيش حوالى (1,2) مليار شخص في العالم على أقل من دولار واحد يومياً ويفتقر حوالى (60%) من سكان الدول النامية إلى مرافق الصرف الصحي ويفتقر حوالي الثلث إلى المياه النقية والربع إلى السكن الجيد وحوالي 20% إلى الخدمات الصحية المتقدمة.

ومن المعروف أن نسبة الخصوبة مرتفعة في البلدان النامية مما يساعد في قلة الخدمات الصحية والتعليمية، ولاسيما بما يخص المرأة, مما يؤدي إلى ازدياد في نسبة الوفيات وقلة الخدمات في مجال الصحة الإنجابية.

ومعلوم أن تزايد السكان وارتفاع الخصوبة في المناطق الفقيرة يدفعان بالسكان نحو المناطق الهشة والضحلة نتيجة لنقص الأراضي الصالحة للزراعة.

ومع ذلك ستبقى المجتمعات الريفية تعتمد على الزراعة كمورد أساسي وسوف يؤدي التدهور البيئي إلى زيادة فقرها, ولهذا فإن الحفاظ على البيئة, والحد من الفقر, يشكلان هدفين أساسيين متوازيين لا يمكن الفصل بينهما.

الأردن مثالاً

تناولت د.علياء حاتوغ وزملاؤها المشكلة بتفاصيل وافية في مؤلفهم القيم “علم البيئة”.ومع أنهم لم يكونوا بصدد التحدث عن الإستغلال أو الإستهلاك البيئي الذي تقوم به الأعداد السكانية الحالية من ناحية زيادة إستهلاك الماء او الوقود والطاقة والكهرباء، او ما يسمى بالنمو السكاني مقابل الحاجة Population growth versus demand ،لكنهم قاموا بتحليل وسرد الواقع البيئي الطبيعي، وحالة الأنظمة البيئية الطبيعية وتفاعلها مع النمو السكاني.فالمشكلة الراهنة – كما يراها الخبراء-أنه يوجد تضخم سكاني مقابل مساحة وموارد محدودة، عذا عن ذلك، فان الدراسات المتعلقة بالتوزيع الحالي للمناطق السكانية تؤكد ان ما يقارب من ثلث سكان الضفة الشرقية ( حوالي 63 % لعام 1989) يقيمون في محافظات الوسط( عمان، الزرقاء، البلقاء) ويقطنون في 20 % من مساحة الضفة الشرقية، وأن 9 % فقط من مجموع السكان ييقيمون في محافظات الجنوب( الكرك، الطفيلية، ومعان) ويشغلون ما يقارب من نصف مساحة الضفة الشرقية( 40.8 %)، وان هذا التوسع ومن المشاهدات الميدانية المتكررة والإحصاءات الرسمية، يكون على حساب الأراضي المنتجة الزراعية الشمالية والوسطى من المملكة الأردنية وليست في المناطق الشرقية او الجنوبية التي تستدعي الأعمار والإستصلاح.

عدا عن ذلك تتميز الأنظمة البيئية في الأردن أنها أنظمة ضعيفة وهشة( لقلة وجود اتلغابات التي تختزن الطاقة وتحولها من شكل الى اًخر).وبغياب السيلاسات والستراتيجات الفاعلة لمنع التوسع الحضري على حساب هذه الأراضي، وسوف يواجه الأردن مشكلة بيئية خطيرة يمكن ان تؤدي الى زيادة نسبة المساحة الصحراوية.ومن ناحية اخرى تشهد معظم المملكة إزدياداً واضحاً في عملية هجرة سكان الريف الى المدينة.وتشير الأحصائيات ان المناطق الريفية المزروعة تشهد تراجعاً ي خصوبة الأرض بسبب تناقص عدد المزارعين ( عام 1980 من 10.4 نسبة المزارعين الى عدد السكان الى 6.3 عام 1989) وهبوطاً وتراجعاً في مساحة الأراضي المزروعة، وان عملية هجرة أهل الريف الى المدن يسببها عوامل تسمى بالعوامل الدافعة Push Factors التي تتمثل في تدني المستوى المعيشي للمزارع وإرتفاع الكلفة الزراعية مما دعا بالعديد من المزارعين الى ترك أراضيهم وبحثاً عن رزق ومعيشة أفضل في المدينة.

ماذا يعني ذلك بيئياً ؟ وما هو الخطر الذي يتحدث عنه البيئيون جراء هذه العملية في إنظمة بيئية ضعيفة كالموجودة في الأردن ؟

عند هجرة أي منطقة كانت مزروعة سابقاً تبدأ هذه المنطقة بالتعرض لما يسمى بـالتعاقب الثانوي Secondary Succession أي التراجع والتحول من طور الى اَخر ويساعد في عملية التحول هذه غزو المنطقة المهجورة لأنوان معينة من النباتات ( غالباً الأعشاب) والتي تكون بيئياً متكيفة للتعامل مع بيئة مهزوزة ةتربة متغيرة، حيث تكون التربة قد عولجت بالمواد الكيمياوية وتستوطن هذه الأعشاب وتسود وتكون المستوى الغذائي الإنتاجي الأول ضمن السلسلة الغذائية والهرم البيئي، وتستقطب هذه الأعشاب بدورها المستوى الغذائي الثاني ( المستهلكات)، حيث تكون عادة ملائمة ومتكيفة لنوعية هذه النباتات، ويبدأ الهرم البيئي في النمو.

الآن إذا نظرنا الى هذا الهرم البيئي وهذه السلسلة الغذائية نراها سلسلة غير مرغوب فيها وغير أصلية، ونراها أيضاً معرضة الى الزوال،أي أنها تتأثر بسهولة بالعوامل البيئية المحيطة من إنخفاض درجة الحرارة، تدني الرطوبة، أمطار غزيرة مفاجئة، فتكون بمثابتة مرحلة إنتقالية سلبية، لأن هذه الأعشاب تستقطب وتشجع الرعي الجائر.فإذا كانت العاشبات من المعاز وخصوصاً الماعز الأسود، فان هذه الكائنات الحية سوف تبيد البيئة، حيث لا تكتفي هذه الحيوانات بقضم الجزء الأخضر فقط، وإنما تصل الى الجذور، مسببة بذلك تفكك ذرات التربة وحبيباتها، وهنا تبدأ المرحلة الحرجة والتدهور البيئي، التي تؤدي غالباً الى مظاهر التصحر وتدني الإنتاجية الطبيعية للأنظمة البيئية.

يسعى العديد من المزارعين الى زيادة الإنتاجية الزراعية لرفع مستوى معيشتهم بإستعمال المخصبات والهرمونات المختلفة.فقد دلت الإحصائيات الأخيرة، وإحصائيات البنط الدولي ان الأردن رفع مستوى إستهلاك المخصبات من 87 ( 100 غرام للهكتار) عام 1970- 1971 الى 771 ( 100 غرام للهكتار) عام 1990، وهذا يعني ان الأردن زاد من إستهلاك هذه الكيميائيات 8 أضعاف عما كان يستهلكه عام 1970.
وفي دراسة للسيد أبو الرب من وزارة الزراعة الأردنية عام 1984 تبين ان الكمية المناسبة والمطلوبة من المخصبات للدونم الواحد للطماطم يتراوح من 10 – 15 كيلوغرام، للخيار من 8 – 10 كيلوغرام، والمحاصيل من 10 – 15 كيلوغرام للدونم.وفي الواقع أنه يوجد تجاوزات لهذه الكمية مما يسبب في دمار وتدهور التربة وقتل الكائنات الحية النافعة فيها.

تستوعب التربة كميات هائلة من العناصر الكيميائية، ولكن التأثير السلبي يبدأ بالخطوة الأولى، ألا وهي قتل الكائنات الحية الدقيقة النافعة والتي تعمل كمحللات.إن وظيفة المحللات في التربة هي تحويل المادة العضوية الى مادة غير عضوية ليتسنى للنباتات إمتصاصها، حيث ان النبتات لا تمتص المادة العضوية.لذا فان عملية قتل هذه المحللات يحرم النباتات البرية من غذائها المناسب.

أما الخطوة الثانية، فهي ان هذه المتبقيات Residues وعبر هجرتها من سطح التربة الى الأعماق تتبخر بسبب درجة الحرارة- وخصوصاً في مناطق الأغوار، مسببة بذلك تلوث الهواء المحيط،. عدا ذلك، فان المتبقيات تعمل كسموم وتقضي على كائنات حية برية.شاهدنا في مناطق الأغوار في أحدى الزيارات الميدانية عشرات من بيوض الطيور المهاجرة المتلفة، حيث ان بعض هذه الطيور يقوم بوضع البيوض والأعشاش على الأرض فتتسرب لهذه البيوض المبيدات المتبقية في التربة وتبيد قشرتها مما يؤثر على الكائن الحي في الداخل وتقتله ( حيث تصبح قشرة البيوض هشة وغير صالحة للنمو).

إن إستخدام المبيدات يعتبر الطريقة الأكثر شيوعاً لمكافحة الآفات وبالتالي رفع الإنتاجية الغذائية ورفع مستوى المعيشة لدى المزارعين الذين يعتدون في تحصيل قوتهم على ما تنتج لهم الأرض.ومعظم هذه المبيدات ليس متخصصاً في التأثير على الآفة التي إستخدم من أجل مكافحتها، بل يؤثر على العديد من الكائنات الحية الأخرى.وقد يتمثل هذا الضرر في كون هذه المواد سامة وبذلك تقتل العديد من الكائنات الحية او تكون ذو أثر فسيولوجي او سلوكي.

كما بينت الدراسات تعرض العمال الأردنيين للمبيدات قد سبب أمراض عديدة وظواهر غير صحية، مثل إنخفاض في نشاط أنزيم الكولين أستريز في دم العمال الزراعيين، ويمكن ان يصل الى 30 % مقارنة بنشاط الأنزيم في دم العمال غير الزراعيين، وينصح بأبعاد هؤلاء العمال عن العمل لمدة 2- 3 أسابيع حتى يستعيد الأنزيم نشاطه ويعود الى الوضع الطبيعي.وبينت الدراسات المختلفة ان حوادث التسمم بالمبيدات في العالم يشهد إرتفاعاً في عدد الضحايا.ويذكر الجميع ما حدث ي العراق في عام 1971 نتيجة تناول قمح مُعامل بمبيد زئبقي أدى الى وفاة ما يزيد على 400 شخص وتسمم قرابة 2000 مواطن.وكما أن وجود مادة Dioxin كمادة ملوثة في مبيدات الأعشاب (2,4 5 T) أدى الى ظهور حالات تشوه الولادات في فيتنام.ولعل ما حدث في الهند في عام 1984 في بوفال يعتبر من أخطر هذه الحوادث، حيث أدى تسرب حوالي 40 طن من المادة العالية التسمم Methyl Tsocyanate والتي تستعمل في إنتاج مبيد Carbaryl والذي يعتبر متوسط السمية في حد ذاته-أدى الى وفاة ما يزيد على 2000 شخص، وتسمم حوالي 200 ألف شخص.

وتتمثل الخطوة الثالثة في إستكمال هجرة هذه السموم لتستقر في باطن الأرض كلوثة المياه الجوفية ومؤثرة بذلك على حياة وإنتاجية المزارعين الذين يحتاجون المياه الجوفية لأغراضهم دافعة اياهم الى خسارة أخرى في الإنتاجية، وبالتالي الى ترك أراضيهم والهجرة الى المدينة بحثاً عن رزق حياة أفضل.


أن زيادة الكثافة السكانية في الأردن وزيادة الطلب على المصادر الطبيعية وغياب التشريعات البيئية أدى الى جفاف وتدهور أجسام مائية كثيرة بسبب الطلب المتزايد عليها، ولعل ما حدث لواحات الأزرق في شرق المملكة أفضل دليل على ذلك، فزيادة الضخ الذي تعرضت له المنطقة أدى الى هبوط في مستوى الماء مما أدى الى زيادة التملح.هذا التدهور البيئي أثر سلبياً ليس فقط على التربة، وإنما على الكائنات الحية الطبيعية والسلاسل الغذائية البيئية- وخصوصاً الطيور المهاجرة منها، حيث كانت تتواجد في مناطق الأزرق بالآلاف في زمن ليس بعيد، بينما لا يكاد نرى حالياً إلا القليل من هذه الطيور، علماً بأن الأردن يعتبر نقطة إلتقاء جغرافية- بيئية ومحور أساسي ومحطة لابد منها للطيور المهاجرة.

أ.د. كاظم المقدادي

عن الدكتور كاظم المقدادي

أكاديمي وباحث وكاتب بشؤون الصحة والبيئة

شاهد أيضاً

ندوة علمية حول تأثير نمط العيش على التغير المناخي ودور المسؤولية المجتمعية

أقيمت ندوة علمية في إطار سلسلة جلسات كرسي الألكسو للتربية على التنمية المستدامة بكلية علوم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *