الزيادة السكانية وتأثيرها على الموارد البيئية

تاريخيا وجغرافيا نشأ الإنسان الأول في بيئات محلية تفيض مواردها عن متطلباته اللازمة من شتى الاحتياجات. وكان عدد القبائل والمستوطنات البشرية من القلة بمكان، وكانت تحد من توالي الزيادة العددية لهذه المستوطنات ما كان يصيبها حينذاك من شتى الأمراض والأوبئة، التي حصدت الآلاف.

وفي القرن الثامن عشر انبعثت الثورة الصحية ضمن الثورة العلمية والتكنولوجية، كنتيجة لما استحدثه الإنسان من مختلف العلوم والاكتشافات والتقنيات. فابتكرت الثورة سبل الوقاية، ومنها التطعيمات، الى جانب الرعاية الصحية، وخاصة للمواليد الجدد، لتضيف صبغة إيجابية على نوعية الحياة. فكانت النتيجة ان انخفضت معدلات الوفيات، ولاسيما بين الأطفال الصغار، وصاحبها ارتفاع في متوسط الأعمار عند الكبار، وبدأ التعداد البشري في النمو تدريجياً.

وكان من الطبيعي ان ترافق هذه الزيادة في التعداد السكاني زيادة في الطلب على الموارد البيئية. واتجه الإنسان في محاولة للمحافظة على توازن معادلة السكان- الموارد، والى رفع الإنتاجية الزراعية، خوفاً من اضطراب ميزان الأمن الغذائي العالمي. ومع الازدياد المتسارع للبشرية، وما صاحبه من نتائج الثورة الزراعية والصناعية، أخذ الإنسان يستنفذ ما في البيئة من مواد وطاقة، وخاصة استنزاف الموارد البيئية غير المتجددة، مثل البترول والمعادن والمياه الجوفية. ومع ازدياد المصانع والمرافق الزراعية وغيرها، ازدادت الملوثات، التي ساهمت في تردي حالة البيئة المحيطة، وما ترتب عليه من تلوث الهواء والتربة والمياه والغذاء.

حيال هذا أصبحت المجتمعات البشرية، والمحافل العلمية البيئية، تضع نصب أعينها مشكلة القضية السكانية، وذلك بسبب العلاقة التبادلية الهامة بين السكان ومسيرة التطور الاجتماعي والاقتصادي. وبينت البحوث العلمية الميدانية، في كثير من المجتمعات، إن عدم أخذ العامل السكاني بعين الاعتبار في التخطيط التنموي والبيئي يؤدي الى حدوث خلل تنموي، بحيث تغدو المجتمعات عاجزة عن تلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للأفراد.

وللتدليل على خطورة ظاهرة التزايد السكاني العالمي، وما يتبع التزايد السكاني من عملية استنزاف للموارد، فان عدد سكان العالم يقترب من 6.5 مليارات نسمة، ومن المتوقع أن يصل العدد الى أكثر من 10 مليارات نسمة عام 2025،إذا استمر معدل النمو السكاني الحالي، والذي يساوي أكثر من 2 % سنوياً.

ومن النتائج الناجمة عن معدلات الزيادة السكانية في العالم أيضاً، ارتفاع نسبة فئة الأعمار من 1 – 24 سنة، مشكلة ما مجموعه 50 % من عدد سكان العالم عام 2000، وإزدياد معدلات الهجرة من الريف الى المدينة في الدول النامية، وزيادة معدلات الكثافة السكانية والإزدحام في المدن الكبرى.

ولو عدنا الى إشكالية البيئة والتنمية،فإن توفر الموارد البيئية يعتبر- كما نعلم- الأساس في دفع عملية التنمية. وتوفر الموارد البيئية يمكن ان يُحسنَ الفوائد البيئية التي تحققها التنمية في نوعية الحياة.وبالمثل يؤثر حجم السكان، ومعدل نموهم، وتوزيعهم، في حالة البيئة، بقدر ما يتحكم في درجة التنمية وتكوينها. وحتى الآن لا يزال بناء نموذج إجمالي عالمي أو أقليمي وحيد، يضم جميع المتغيرات في معادلة: السكان-الموارد- البيئة- التنمية، يمثل تحدياً للمجتمع العلمي.

ولا يزال السؤال الذي طُرِحَ في مؤتمر ستوكهولم عام 1972 ،وارداً وقائماً حتى اليوم دون إجابة: هل هناك أي وسيلة لتلبية حاجات وتطلعات المليارات الستة ونصف من البشر، الذين يعيشون الآن على الأرض، دون أن تتعرض قدرة الأجيال القادمة،سكان الغد، الذين تتراوح تقديراتهم بين 8 و 10 مليارات نسمة، لخطر يحول دون تلبية حاجاتهم وتطلعاتهم ؟

إن النمو السكاني ليس معناه بالضرورة تخفيض مستويات المعيشة، أو الأضرار بنوعية الحياة، أو إحداث تدهور بيئي،لاسيما وقد كان نمو سكان العالم،مصحوباً، في الماضي، بزيادة مطردة في قدرة العالم على توفير متطلبات التفاوت الشاسع بين الأغنياء والفقراء، في إستهلاك أنماط الحياة المختلفة.فالطفل الذي يولد في بلد صناعي غني، وفي أسر ثرية في بلد نام، حيث نصيب الفرد من إستهلاك الطاقة والمواد مرتفعاً، يُلقيْ على الكوكب عبئاً أكبر بكثير من العبء، الذي يلقيه طفل في بلد فقير، فيستهلك الأفراد الذين يعيشون في القمة(أي وسط الأغنياء) الحصة الأكبر من موارد الأرض، ويخلفون كميات هائلة من الفضلات.أما من يعيشون في القاع (أي وسط الفقراء)ويمثلون أعلى معدلات الخصوبة، ففي سعيهم الى البقاء على قيد الحياة هم مسؤولون،شاءوا أم أبوا، عن جزء كبير من التدمير البيئي.

إرتباطاً بهذه المشكلة الكبرى، أُقتُرِحت،خلال العقود الثلاثة الماضية، أدلة عديدة لقياس نوعية الحياة، ومنها، مثلاً: النوعية المادية لدليل الحياة، ودليل المعاناة البشري، ودليل التنمية البشرية،وهذا الأخير أدخله برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وقد ركزت هذه الأدلة على الفجوات المتزايدة بين الشمال والجنوب. فالبلدان النامية، التي يقطنها 77 % من سكان العالم تحصل على 15 % من دخل العالم فقط، وإستناداً الى دليل التنمية البشرية فان حوالي مليارين من البشر يعيشون في أدنى مستوى من التنمية البشرية، ومعظمهم من أفقر سكان العالم.

مشكلة اخرى يجب التطرق اليها، وربطها بطريقة مباشرة مع المشاكل السكانية، هي عملية تعثر غالبية بلدان العالم، تحت وطأة الإقتصاد العالمي القاسي، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، حيث أتبعت العديد من الدول النامية سياسات التكييف الهيكلي. وإتخذت هذه السياسات عادة شكل كبح الطلب على المواد الغذائية الأساسية، وخفض قيمة العملة، وإعتمدت الخفض الحاد في الإنفاق الحكومي، معتقدة ان ذلك ذو جدوى. ولكن..سرعان ما إتضحت الآثار السلبية لهذا النوع من السياسات، حيث أظهرت دراسات قام بها صندوق الأمم المتحدة للطفولة ( يونيسيف) عام 1991 ً إنخفاض الإنفاق على المدارس للفرد بحوالي 25 % في 27 بلدا في الثمانينيات. كما إن الإنفاق الصحي للفرد قد إنخفض في أكثر من 75 % من بلدان أفريقيا وأمريكا اللاتينية، مما زاد في وفيات الأطفال الرضع، وزادت الإصابات بسوء التغذية وتداعياته.

ومن المساهمات السلبية أيضاً التي تؤثر على مشكلة السكن والبيئة في العالم النامي، هي الديون الأجنبية التي ترهق هذه الدول الفقيرة، وتعيق عملية التنمية.

كل هذه المشكلات نعتبر مقدمة بسيطة لما يعانيه السكان في مناطق العالم الثالث. بيد إنها تؤدي،كلها، بلا شك، الى تفاقم عملية النهب والإستنزاف البيئي من أجل الحياة، مما يؤدي بدوره الى صعوبة تحقيق الإصلاح الإقتصادي والهيكلي.

ومن أهم الأخطار البيئية التي تهددها عملية النمو السكاني العشوائي والموارد البيئية، هي:

الاكتظاظ السكاني في المدن، وما يتبعه من مشاكل بيئية وإجتماعية وصحية.
الهجرة من الريف الى المدينة، مما يُخلي الريف من المزارعين، وتتدهور التربة.
توسيع المدن والمراكز على حساب الأراضي الزراعية المنتجة.
الإستعمال الخاطئ والعشوائي للمبيدات والمخصبات من قبل المزارعين.

من جهة أخرى، وبالرغم من الإنجازات الحضارية التكنولوجية التي يسرت للإنسان في البلدان المتقدمة، وفي بعض البلدان النامية، ان يعيش ويعمل في مباني عالية ( التوسع العمودي)،والحد نسبياً من التوسع الأفقي، مايزال النمط الشائع للنمو الحضاري، في كثير من بقاع العالم، هو التوسع العشوائي.وهنا تكمن الخطورة، حيث ان التوسع في كثير من الأحيان يكون على حساب الأراضي المنتجة، وعلى حساب الأنظمة البيئية، وتوازنها، وإستقرارها، حيث يبتلع هذا الطراز من النمو الأراضي الخصبة. فقد قدرت تقارير الأمم المتحدة للسكان عام 1990 بان حجم المناطق الحضرية في البلدان النامية تضاعف من 8 ملايين هتكار الى أكثر من 17 مليون هكتار في نهاية القرن العشرين، ويعني ذلك بيئياً ان خسارة هذه الدول ليست فقط إقتصادية ( حيث تدني مستوى الفرد)، وإنما جاء على حساب الأنظمة البيئية أيضاً. وتؤدي خسارة الأرض هذه الى مزيد من التدهور وخصوصاً في المناطق الريفية، كما تخلق العديد من المشاكل، ومنها: مشاكل الإمدادات بالأغذية للمناطق الحضرية التي تعتمد عادة على المزارع القريبة للتزود بمختلف الحاجيات الزراعية والغذائية.

وثمة أضرار أخرى للنمو الحضري- العشوائي، ومنها الطلب المتزايد على الموارد الطبيعية، والزيادة في التدفق الداخلي والخارجي لمختلف المواد والمنتجات، وإمدادات الطاقة والمياه، والنفايات، وغير ذلك.

وقد أظهرت دراسة عن إستخدام حطب الوقود في كينيا،مثلاً، بان أحد العوامل الرئيسية التي تسهم في إزالة الأحراج، هو تحويل الأخشاب على نطاق واسع الى فحم نباتي، لبيعه لسكان المدن.

إن إزالة الأحراج والغابات تعتبر بيئياً من أعقد وأفدح المشاكل التي تواجه الأنظمة البيئية نتيجة للتوسع المدني وتفاقم مشكلة السكن.فمن المعروف ان الغابات ليست مصدراً مهماً للخشب، فحسب، ولكنها تعتبر أيضاً قاعدة للعمليات الحياتية والبيئة. علماً بان الغابات تحتل حوالي ثلث مساحة العالم، مسيطرة بذلك على العمليات الحيوية البيئية وتبادل الغازات. ولا عجب ان سميت الغابات، وخصوصاً الماطرة الإستوائية منها، بـ”رئة الأرض”.

وعدا ذلك، تعتبر الغابات المخزن الأصلي للنباتات والحيوانات والتنوع الحيوي، وكذلك المخزون الوراثي الطبيعي على سطح الكرة الأرضية، عدا عن حفاظ الغابات للتربة ومنع إنجرافها.كما تساهم الغابات في مد الطاقة الطبيعية للكرة الأرضية وللبشر، حيث يستفيد الناس من الغابات بالفحم والوقود. وتقدر الإحصائيات العالمية ان حوالي 200 مليون شخص يعتمدون في حياتهم حالياً على الغابات ومنتجاتها. واثبتت الإحصائيات والبيانات الأخيرة ان 70 % من الدول النامية تعتمد على الكائنات الحية التي تعيش في الغابات، كمصدر للغذاء. وتشير تقارير وإحصائيات رسمية أخرى ان عدداً كبيراً من الدول النامية تقوم بتسديد ديونها الخارجية عن طريق التقايض بالغابات والأخشاب، مما أثر بشكل سلبي على حياة الناس في تلك البقاع- حيث الكثافة السكانية العالية، والإزدياد المتسارع في النمو السكاني، والإعتماد شبه الكلي على الغابات.وفي إحصائية أخرى لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 1984 عن علاقة التصحر بالسكان وحياتهم، تبين ان 850 مليون شخص مهدد بسبب تراجع وتدهور الغابات الطبيعية، حيث تشكل هذه الغابات مأوى وطراز معيشي، عدا عن كونها مصدر قوتهم.

ومن المعروف علمياً ان الناتج البايولوجي الأول لعملية إزالة الغابات وتعرية التربة، هو زيادة نسبة ملوحة التربة، حيث تصبح التربة غير صالحة، أو غير مؤهلة بيئياً لإستقطاب النباتات الأصلية والتغيرات البيئية الناتجة عن هذه العملية التراجعية. ويمكن تلخيص العملية في النقطتين التاليتين:

أ- اما أن تستقطب هذه التربة المعراة نباتات ثانوية Secondary Species غير أصلية، وتكون غير ملائمة، تختفي مع أول مؤثر بيئي.


ب- وإما لا تستقطب هذه التربة أي نوع من النباتات، وتتم عملية تعرية التربة بشكل واضح ومتسارع. وبما ان جذور النباتات عادة تساعد ذرات التربة على التماسك والإلتحام، فانه في حالات التعرية تصبح ذراتها متباعدة، وغير مترابطة، مع هبوط واضح في مستوى المادة العضوية Organic matter، وزيادة سريعة لنسبة الأملاح. ويطلق على هذه المرحلة التملح Salination .بعد ذلك تصبح هذه الحبيبات غير المتماسكة عرضة للمتغيرات الجوية، فتضعف، وتفقد مقدرتها على الإنتاجية، وتبدأ المرحلة الخطرة، والتي تعرق بالتصحر Desertification ( التصحر بالمعنى العلمي يعني: تحويل الأراضي المُنتِجة الى أراضي غير مُنتِجة). وعلى الصعيد العالمي،ينظر الى موضوع التصحر بصورة جدية كمشكلة قائمة، حيث لا يمكن فصل العوامل التي تؤدي الى التصحر عن بعضها البعض. فمكونات هذه العوامل هي سكانية- إجتماعية – إقتصادية وبيئية. جميعها مترابطة، وتعتمد على بعضها البعض.فما حدث في السودان،مثلاً، من تدهور في الإنتاجية والتصحر، هو نتيجة لهذه العوامل والمكونات جميعه.

أ.د. كاظم المقدادي

عن الدكتور كاظم المقدادي

أكاديمي وباحث وكاتب بشؤون الصحة والبيئة

شاهد أيضاً

مبادرة الحزام الأزرق لحماية التنوع البيولوجي للمحيطات

محمد التفراوتي من الجميل أن تلتف القارة الافريقية بحزام الاستدامة وحماية التنوع البيولوجي البحري، والاجود …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *