في مشهد طبيعي يبدو للوهلة الأولى غير مترابط، تلعب الصحراء الكبرى، بأراضيها القاحلة والممتدة، دورًا حيويًا في بقاء واحدة من أكثر النظم البيئية خصوبة على وجه الأرض، الا وهي غابات الأمازون المطيرة، التي تقع في الطرف المقابل من المحيط الأطلسي في قارة أمريكا الجنوبية.
إذ أظهرت دراسات علمية حديثة أن الرياح القوية التي تهب على شمال إفريقيا تحمل جزيئات دقيقة من الرمال والغبار من منطقة تُعرف بـ”منخفض بوديلي” في تشاد، لتقطع آلاف الكيلومترات عبر المحيط الأطلسي وتصل إلى أمريكا الجنوبية، حيث تسقط فوق غابات الأمازون، مغذية تربتها الفقيرة طبيعيًا.
هذه الظاهرة الفريدة تُظهر كيف أن الأرض ترتبط بيئيًا عبر قاراتها في شبكة معقدة من التفاعلات الطبيعية.
منشأ الرمال: منخفض بوديلي في تشاد
الرمال التي تُهاجر من الصحراء الكبرى نحو الأمازون لا تأتي من كل أنحاء الصحراء، بل تحديدًا من منطقة تُدعى “منخفض بوديلي” (Bodélé Depression) الواقعة شمال شرق تشاد.
هذا المنخفض الجاف كان في الماضي بحيرة ضخمة، ومع مرور الزمن تبخرت مياهها، مخلفة وراءها كميات هائلة من الرواسب الغنية بالفوسفات والنترات، وهما عنصران مهمان لنمو النباتات.
وبفعل التيارات الهوائية الموسمية والدوامات الصحراوية، تندفع هذه الجزيئات الدقيقة نحو الأعلى وتحملها الرياح عبر السماء لتبدأ رحلة طويلة عبر المحيط الأطلسي.
رحلة الرمال عبر الأطلسي
تقطع جزيئات الرمال حوالي 5000 إلى 7000 كيلومتر، عبر المحيط الأطلسي، في مسار يمتد من إفريقيا إلى أمريكا الجنوبية، وتحديدًا نحو حوض نهر الأمازون.
هذه الرحلة تستغرق عدة أيام وتحدث في الغالب خلال فصل الشتاء في نصف الكرة الشمالي (بين ديسمبر ومارس)، عندما تكون الرياح السائدة أكثر قوة.
وبواسطة الأقمار الصناعية مثل “كالوبس” (CALIPSO) وبيانات وكالة “ناسا”، أصبح بالإمكان تتبع حركة هذه السحب الغبارية بدقة، ومعرفة الكميات التي تصل سنويًا إلى غابات الأمازون.
كيف تُغذي الرمال تربة الأمازون؟
تربة غابات الأمازون رغم خصوبة نباتاتها، تُعد من الناحية الكيميائية تربة فقيرة بالمغذيات، بسبب الغسل المستمر للعناصر المعدنية بفعل الأمطار الغزيرة.
وهنا يأتي دور الرمال القادمة من الصحراء الكبرى، والتي تعمل بمثابة “سماد طبيعي جوي”، يعوّض النقص في الفسفور وبعض العناصر الدقيقة في التربة.
وتشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 182 مليون طن من الغبار الصحراوي يُنقل سنويًا من إفريقيا إلى أمريكا الجنوبية، وأن نحو 22 ألف طن من الفسفور المترسب في الأمازون يأتي من هذه الرمال، وهو ما يُعادل تقريبًا الفاقد السنوي من الفسفور نتيجة جريان المياه.
التأثيرات المناخية والبيئية
ظاهرة هجرة الرمال لا تقتصر على تغذية الغابات فحسب، بل تؤثر أيضًا في المناخ المحلي والإقليمي.
فعلى طول طريقها، يمكن أن تؤثر جسيمات الغبار على تكوين السحب، وتعكس جزءًا من أشعة الشمس، مما يؤثر على درجة حرارة الأرض والمحيط.
كما أن وصول كميات كبيرة من الغبار إلى منطقة الكاريبي قد يؤدي إلى تدهور جودة الهواء، وتفاقم مشاكل الجهاز التنفسي لدى السكان.
التغير المناخي ومستقبل الظاهرة
مع ازدياد ظواهر التغير المناخي، تتغير أنماط الرياح ودرجات الحرارة في مناطق عدة من العالم، وهو ما قد يؤثر على كمية الرمال التي تُنقل سنويًا إلى الأمازون.
إذا قلّت كمية الرمال، فقد تتأثر خصوبة الغابة على المدى الطويل، مما يُنذر بتداعيات بيئية كبيرة على النظام البيئي للأمازون، والذي يُعد أحد أهم “رئات الأرض” بفضل قدرته على امتصاص ثاني أكسيد الكربون.
إن ظاهرة هجرة الرمال من الصحراء الكبرى إلى غابات الأمازون تُعد من أروع الأمثلة على ترابط النظم البيئية على كوكب الأرض.
فالصحراء القاحلة تُغذي الغابة الخضراء، والغبار الصحراوي يصبح مصدر حياة لنباتات تبعد آلاف الكيلومترات.
هذا الترابط البيئي العجيب يُذكرنا بأن حماية البيئة لا تكون مجزأة، بل هي مسؤولية عالمية مشتركة، لأن ما يحدث في منطقة نائية قد يكون له صدى عميق في مناطق أخرى من الكوكب.
المهندس أمجد قاسم
X@amjad