فطر تشيرنوبل ومعالجة النفايات المشعة: الكائنات الحية في مواجهة الإشعاع

كارثة تشيرنوبل (Chernobyl Disaster) وتأثيرها البيئي

في السادس والعشرين من نيسان عام 1986، شهد العالم واحدة من أسوأ الكوارث النووية في التاريخ، تمثّلت في انفجار المفاعل الرابع في محطة تشيرنوبل للطاقة النووية في أوكرانيا (آنذاك جزء من الاتحاد السوفيتي).

كتب المهندس أمجد قاسم

أدّى هذا الانفجار إلى تسرب كميات ضخمة من المواد المشعة إلى الهواء، وتلوّث آلاف الكيلومترات من الأراضي.

تحولت المنطقة المحيطة بالمفاعل، والمعروفة باسم المنطقة المحظورة (Exclusion Zone)، إلى مساحة مهجورة من الحياة البشرية، ولكنها باتت مختبرًا طبيعيًا لتطور الحياة في ظل الإشعاع.

 

فطر تشيرنوبل (Chernobyl Fungus): كائن يتغذى على الإشعاع

 

في قلب تلك البيئة القاسية، ظهر كائن حي غير متوقع جذب انتباه العلماء: فطر أسود يُعرف باسم (Cladosporium sphaerospermum)، إلى جانب فطريات أخرى تحتوي على صبغة الميلانين (Melanin). .

ما ميّز هذه الفطريات هو قدرتها الفريدة والعجيبة على الاستفادة من الإشعاع المؤين (Ionizing Radiation) كمصدر للطاقة، في ظاهرة شبه بيولوجية تُدعى التغذي على الإشعاع (Radiotrophy)، وهي شبيهة بعملية البناء الضوئي (Photosynthesis) التي تستخدمها النباتات.

أظهرت الدراسات أن صبغة الميلانين لا تلعب فقط دورًا وقائيًا ضد الإشعاع، بل تُساهم في تحويل طاقة الإشعاع إلى طاقة كيميائية تُستخدم في النمو. وهذا يشير إلى قدرة هذه الفطريات على العيش في بيئات مشعة للغاية، بل والازدهار فيها.

 

تجربة في الفضاء: الفطر كدرع بيولوجي (Biological Shield)

 

في عام 2018، جرى إرسال الفطر الأسود إلى محطة الفضاء الدولية (International Space Station – ISS)، لدراسة تأثير الإشعاع في بيئة منخفضة الجاذبية وعالية الإشعاع.

وقد كشفت النتائج أن طبقة بسمك 1.7 ملم من الفطر قلّلت من الإشعاع الكوني بنسبة 2.17%. هذه النسبة الصغيرة تبدو واعدة للغاية، إذ توحي بإمكانية استخدام هذه الكائنات الحية كـ”درع بيولوجي” في المستقبل لحماية رواد الفضاء، أو حتى المساعدة في بناء مستوطنات بشرية على كواكب مثل المريخ (Mars)، حيث يتعرض السطح لإشعاعات شمسية وكونية عالية.

 

التكيف الحيوي (Biological Adaptation) في تشيرنوبل

 

لم يكن الفطر وحده الذي أظهر القدرة على النجاة، بل انضمت إليه نباتات مثل Arabidopsis thaliana، والتي طورت آليات فعالة لإصلاح الحمض النووي (DNA Repair Mechanisms) بسرعة تفوق ما هو معتاد في البيئات الطبيعية.

كما سجل العلماء تغيّرات ملحوظة في جينات بعض الحشرات، مثل تسارع دورة حياتها أو تطوّر مقاومتها للطفيليات، وهذه تحولات غريبة وغير متوقعة لدى تلك الحشرات.

هذه الظواهر تُبرز آلية الانتقاء الطبيعي السريع (Accelerated Natural Selection)، حيث يؤدي التعرض المستمر للإشعاع إلى زيادة معدل الطفرات الجينية (Genetic Mutations)، ما يُعطي الكائنات ذات الصفات التكيفية الأفضل فرصة للبقاء والتكاثر.

 

المعالجة البيولوجية (Bioremediation): استخدام الكائنات الحية للتخلص من النفايات المشعة

 

إحدى التطبيقات الواعدة التي أثارها اكتشاف فطر تشيرنوبل هي المعالجة البيولوجية للنفايات المشعة (Bioremediation of Radioactive Waste). وتشير هذه التقنية إلى استخدام كائنات حية – غالبًا بكتيريا أو فطريات – لتحليل أو احتجاز أو تحويل الملوثات السامة في البيئة إلى مواد غير ضارة.

 

كيف تعمل المعالجة البيولوجية؟

 

في حالات التلوث بالإشعاع، يمكن لبعض الفطريات السوداء الغنية بالميلانين أن تمتص الإشعاع وتحد من انتشاره، أو حتى تحلل بعض النظائر المشعة.

كما أن هناك أنواعًا من البكتيريا، مثل Deinococcus radiodurans، قادرة على العيش في بيئات مشعة وتساهم في تثبيت أو تحييد العناصر المشعة.

 

استخدامات مستقبلية:

 

  • تطهير المواقع الملوثة إشعاعيًا مثل تشيرنوبل أو فوكوشيما.
  • تثبيت النفايات في أماكن دفنها عبر إنشاء أغلفة بيولوجية.
  • إعادة تدوير التربة الملوثة لتصبح صالحة للزراعة مجددًا بعد معالجتها بالفطريات.

 

المعالجة البيولوجية للنفايات السامة (Toxic Waste Bioremediation)

 

لا يقتصر استخدام الكائنات الحية على النفايات المشعة فقط، بل يشمل أيضًا معالجة النفايات السامة (Toxic Waste) مثل المعادن الثقيلة (Heavy Metals) والمركبات العضوية الملوثة (Organic Pollutants).

 

أمثلة على الكائنات المستخدمة:

 

  • الفطريات البيضاء (White rot fungi) القادرة على تحليل مركبات عضوية معقدة.
  • البكتيريا المختزلة للكبريتات (Sulfate-reducing bacteria) التي تساهم في ترسيب المعادن الثقيلة.
  • النباتات الممتصة للمعادن (Hyperaccumulator plants) التي يمكنها امتصاص الزرنيخ والرصاص والزئبق من التربة.

 

آفاق مستقبلية: كائنات تعتمد على الإشعاع؟

 

من الناحية النظرية، ومع استمرار التكيف في البيئات المشعة مثل تشيرنوبل، قد تظهر كائنات حية جديدة تعتمد كليًا على الإشعاع كمصدر للطاقة. فهل يمكن أن نشهد في المستقبل القريب فطريات لا تحتاج إلى الضوء، بل تعتمد فقط على الإشعاع المؤين للبقاء؟ وهل ستوجد نباتات تتخلى عن الكلوروفيل وتستبدله بصبغات إشعاعية؟

ربما يكون الجواب نعم، فالحياة على الأرض أثبتت قدرتها الهائلة على التكيّف والتطور تحت أقسى الظروف.

 

بين الكارثة والأمل

 

كارثة تشيرنوبل كانت مأساة بشرية وبيئية بكل المقاييس، لكنها فتحت نافذة لفهم قدرات الكائنات الحية على التأقلم.

من الفطريات السوداء التي تتغذى على الإشعاع، إلى النباتات التي طورت آليات إصلاح وراثية خارقة، ومن بكتيريا مقاومة للنفايات النووية إلى إمكانية استخدام المعالجة البيولوجية، يبدو أن الحياة قادرة على إيجاد موطئ قدم حتى في أحلك الظروف.

في زمن تتزايد فيه الحاجة إلى حلول بيئية مستدامة، يمكن أن تمثل الكائنات الدقيقة والفطريات مستقبلًا واعدًا في معالجة النفايات والتغلب على آثار التلوث النووي.

 

المراجع :

  1. Dadachova, E., & Casadevall, A. (2008). Ionizing Radiation: How Fungi Cope, Adapt, and Exploit with the Help of Melanin. Current Opinion in Microbiology, 11(6), 525–531.
  2. Romsdahl, J., Blachowicz, A., Chiang, Y.-M., Singh, N., Stajich, J. E., Wang, C. C. C., & Venkateswaran, K. (2020). Characterization of the Space Radiation-Resistant Fungus Cladosporium sphaerospermum. Frontiers in Microbiology, 11, 1342.
  3. Singh, O. V., & Ward, O. P. (2004). Biodegradation and Bioremediation. Springer-Verlag.
  4. Lloyd, J. R., & Lovley, D. R. (2001). Microbial Detoxification of Metals and Radionuclides. Current Opinion in Biotechnology, 12(3), 248–253.

عن المهندس أمجد قاسم

كاتب علمي متخصص في الشؤون العلمية عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين

شاهد أيضاً

الميكروبلاستيك في الأغذية المصنعة: تهديد خفي للدماغ والصحة النفسية

نشرت مجلة Brain Medicine في مايو 2025 مجموعة من أربع دراسات جديدة تسلط الضوء على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *