عماد عدلي: الطبيب الذي عالج المجتمع بروح الإصلاح وأيقظ الوعي المتوسطي

القاهرة – كتب محمد التفراوتي

على هامش المنتدى المتوسطي للبيئة والعمل المناخي في القاهرة، المنعقد تحت شعار من الوعي إلى الفعل، التقى الحضور بالدكتور عماد عدلي، رئيس شبكة رائد وأحد أبرز رموز المجتمع المدني في الساحتين العربية والمتوسطية.

هو طبيب اختار أن يتجاوز حدود الجسد إلى تشخيص أمراض المجتمع، وأن ينقل رسالته من العيادة إلى رحاب الإنسانية، مؤمناً بأن الإصلاح مسؤولية تتجاوز المهنة إلى الرسالة. يوصف بأنه أيقونة العمل المدني العربي، لما يجمعه من توازن نادر بين الفكر والممارسة، وبين العلم والإيمان بالفعل، واضعاً الإنسان والبيئة في معادلة واحدة عنوانها: الحياة الكريمة على كوكب متوازن.

في رؤيته، لا تُختزل البيئة في معادلات علمية أو تقارير تقنية، بل تُفهم كمنظومة قيم وسلوك حضاري، كما لا يرى المجتمع المدني قطاعاً ثالثاً هامشياً، بل القلب النابض للوعي الإنساني والعلاقات المشتركة.

كان الحوار معه أشبه برحلة فكرية من الوعي إلى الفعل، ومن الفعل إلى الرؤية، وصولاً إلى خريطة طريق متوسطية تؤمن بأن التغيير ممكن عندما تتوحد الإرادات الصادقة.

وحين اختتمنا حديثنا، بدا الدكتور عدلي كمن يرسم خريطة أمل وسط العواصف، مؤمناً بأن التحول البيئي لا يتحقق بالتصريحات، بل بالإصرار والمبادرة، وأن بناء جسور التواصل بين ضفتي المتوسط ليس حلماً دبلوماسياً، بل واجباً إنسانياً واستراتيجياً.

كان يتحدث بعين الطبيب الذي يبحث عن جذور الداء لا عن مسكنات الأعراض، وبعقل القائد الذي يرى في المجتمع المدني مختبراً للأفكار ومنصة للتغيير، لا بديلاً عن الدولة، بل شريكاً في صناعة المستقبل.

في فلسفته، لا مكان لمفاهيم “الشمال المتقدم” و”الجنوب المتلقي”، بل لعائلة متوسطية واحدة تتقاسم الهواء والماء والمصير المشترك. أما الدبلوماسية البيئية، فيراها لغة حياة تعيد ترتيب الأولويات وتعيد الإنسان إلى مركز المعادلة.

ومن القاهرة، من قلب المنتدى المتوسطي، صدح صوته قائلاً:
لا يكفي أن نعرف الخطر… علينا أن نغير المسار، فالفعل هو أصدق أشكال الوعي.”

بهذه الرؤية، ترك الدكتور عماد عدلي بصمة جديدة تؤكد أن البيئة ليست ملفاً قطاعياً، بل مشروعاً حضارياً، وأن بناء جبهة مدنية متوسطية واعية هو الخطوة الأولى نحو مستقبل أكثر عدلاً واستدامة للأجيال القادمة.

الطبيب الذي عالج البحر المتوسط: حوار مع مهندس الجبهة المدنية البيئية

من هذه الانطلاقة الفكرية، نغوص في تفاصيل حوار يضيء معالم الطريق:

السؤال  : كطبيب يجيد قراءة الأعراض قبل تشخيص المرض، كيف تقرأ اليوم “أعراض” المنطقة المتوسطية بيئيا؟

الجواب: المنطقة تعاني من أعراض مزمنة: جفاف في الموارد، واحتباس في السياسات، ونقص في “الأوكسجين التشاركي” بين الفاعلين. تشخيصي أن الحل ليس في وصفة سريعة، بل في علاج شامل يبدأ من تعديل السلوك الجمعي، وتفعيل الذكاء الجماعي للمنظمات، فالتحدي البيئي ليس مرضا بيولوجيا، بل خلل في علاقتنا بالحياة نفسها.

السؤال: تجمعون بين دقة الطبيب ومرونة القائد الجمعوي. ما سر نجاحكم في بناء جبهة مدنية عابرة للضفتين؟

الجواب: السر هو الإصغاء. لا يمكن أن تبني جبهة من دون أن تسمع نبض الآخر. حاولنا أن نحول الخلاف إلى اختلاف، والاختلاف إلى طاقة اقتراح. كل منظمة في شبكتنا ليست رقما، بل خلية حية داخل جسد متوسطي واحد، متنوع في لغاته لكنه موحد في نبضه الإنساني.

السؤال: في زمن تتسارع فيه التحولات المناخية، هل يكفي الوعي أم أننا بحاجة إلى “علاج صادم” لتغيير السلوك؟

الجواب: الوعي مرحلة تشخيص، لكنه لا يعالج وحده. نحن بحاجة إلى “علاج سلوكي مجتمعي”، يدمج التعليم والإعلام والسياسات العمومية في بروتوكول واحد. العلاج الصادم الذي أؤمن به هو إشراك المواطن لا كمستفيد، بل كصانع للتغيير، لأن التحول الحقيقي يبدأ حين يصبح الفعل البيئي عادة لا شعارا

السؤال: كثير من المبادرات تنهار حين تصطدم بالبيروقراطية أو تضارب المصالح. كيف تمكنتم من تحويل الحلم إلى شبكة فعالة؟

الجواب: واجهنا ذلك باعتماد “منهج الميدان قبل المنصة”. لم نبن الشبكة في المكاتب، بل في ورش العمل المشتركة والحوارات الميدانية. عندما يرى الناس الأثر، يؤمنون بالمشروع. لذلك، ركزنا على مبادرات ملموسة: إدارة المياه محليا، التعليم البيئي، الاقتصاد الأخضر. النجاح يبدأ من التفاصيل الصغيرة، لا من الشعارات الكبرى.

السؤال  : المنتدى المتوسطي في القاهرة الذي استضافه شبكة رائد حمل شعار “من الوعي إلى الفعل”. كيف تقرأ هذا الشعار بعد التجربة؟

الجواب: هو ليس شعارا بل وصفة حياة. الوعي بدون فعل يشبه تشخيصا بلا علاج. والفعل بدون وعي مغامرة بلا بوصلة. ما حدث في القاهرة هو تفاعل بين الاثنين: وعي علمي، وفعل جماعي، وإيمان بأن البحر الذي يفصلنا يمكن أن يكون الجسر الذي يوحدنا.

السؤال : القيادة في المجال البيئي ليست فقط إدارة مشاريع، بل توجيه ضمير جماعي. كيف تصوغون مفهوم القيادة التحويلية داخل شبكتكم؟

الجواب: نحن لا نبحث عن زعيم، بل عن صدى مشترك. القيادة عندي ليست فوقية، بل توزيعية. كل عضو في الشبكة قائد في مجاله. عندما نحرر مفهوم القيادة من المركزية، نصنع التمكين الحقيقي، ونخلق شبكة تفكر وتتحرك ككائن جماعي واحد.

السؤال : الشباب يشكلون اليوم القوة الصاعدة في التغيير المناخي. كيف يمكن تحويل حماسهم إلى طاقة مؤسسية دائمة؟

الجواب: بالاستماع قبل التدريب. الشباب لا يريدون أن يلقنوا، بل أن يمكنوا. لذلك نسعى لدمجهم في اتخاذ القرار لا في الهامش التطوعي فقط. نمنحهم أدوات التفكير النقدي، ومهارات التحليل البيئي، ونترك لهم مساحة التجريب. فالمستقبل لا يورث، بل يصنع معهم.

فيما يتعلق بدور الشباب، أود أن أوضح أننا، في إطار شبكة رائد، بدأنا منذ نحو عامين أو ثلاثة أعوام، وتحديدا منذ عام 2022، في تأسيس شبكة شباب رائد، وهي شبكة شبابية تعمل تحت مظلة المنظمة الأم (رائد) وتضم ممثلين عن المنظمات الأعضاء في الشبكة. وقد جاءت هذه المبادرة من قناعة راسخة بأهمية تمكين الشباب وإشراكهم بفاعلية في العمل العربي المشترك، وفي القضايا البيئية والتنموية التي تتبناها رائد. وهذا يتماشى تماما مع تاريخ الشبكة وفكرتها الأصلية، إذ أن المكتب العربي للشباب والبيئة الذي أطلق فكرة إنشاء شبكة رائد قبل أكثر من ثلاثين عاما، كان هو الجهة المبادِرة والمؤسسة، وما زلت أعتز بانتمائي إليه، إذ كان هو المنبع الأساسي لعملي ومسيرتي المهنية منذ أواخر الثمانينيات.

السؤال : في بيئة تتعدد فيها المبادرات وتتنافس فيها المنظمات، كيف نحمي الفعل البيئي من التشتت؟

الجواب: بالهندسة، لا بالحماس فقط. التشتت نتيجة غياب الرؤية المشتركة. نحن نعمل على “بوصلة متوسطية” تجعل كل مبادرة جزء من منظومة أكبر. لا نريد مبادرات متفرقة، بل نسيجا مترابطا. لذلك نعتمد على التشبيك الذكي الذي يحول الجهود المحلية إلى أثر إقليمي.

السؤال: العدالة المناخية شعار يتردد كثيرا، لكنكم تتعاملون معه كمنهج عمل. كيف تترجمونه إلى واقع؟

الجواب: العدالة المناخية ليست مطلبا أخلاقيا فقط، بل شرط للبقاء المشترك. نحن نعمل على خلق جسور تضامن بين الشمال والجنوب المتوسطي تقوم على تبادل المعرفة لا الإملاء، وعلى نقل التكنولوجيا لا الشروط. العدالة تتحقق عندما تصبح التنمية حقا بيئيا للجميع، لا امتيازا للبعض.

السؤال : الدبلوماسية البيئية باتت لغة جديدة بين الشعوب. كيف تنظرون إليها كأداة للسلام والالتقاء؟

الجواب: الدبلوماسية البيئية تعيد تعريف القوة الناعمة. حين نجلس حول طاولة الماء والهواء، ننسى الخلافات الجيوسياسية. البيئة تمنحنا لغة مشتركة لا تحتاج إلى ترجمة. أؤمن أن الدبلوماسية الخضراء ستكون مفاتيح المستقبل، لأنها تجمع بدل أن تفرق، وتبني الثقة حيث فشلت السياسة التقليدية.

عندما بدأنا المبادرة على مستوى حوض نهر النيل ضمن الشبكة العربية للبيئة والتنمية (رائد)، وكان ذلك في عام 2001، أي منذ نحو أربعة وعشرين عاما، كنت دائما ما أحرص على شرح فكرة الدبلوماسية الشعبية والتأكيد عليها في كل مناسبة.

فأنا أؤمن بأن الدبلوماسية الشعبية ليست مجرد وسيلة للحوار بين الشعوب، بل هي أيضا فرصة حقيقية لتجنب النزاعات والأزمات التي قد تنشأ بين الدول. فالحوار بين الشعوب، وبين منظمات المجتمع المدني، وبين المجتمعات المحلية ذاتها، يشكل عندما يتم عبر تواصل مباشر ومتبادل قوة إيجابية تحدث فرقا حقيقيا.

ومن هذا المنطلق، فإننا نمارس الدبلوماسية الشعبية أيضا على مستوى المنطقة العربية، وخاصة إذا ركزنا على المجال المتوسطي، لأن هذا الفضاء المشترك يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى دبلوماسية شعبية فاعلة تسهم في ترسيخ السلام وتعزيز التعاون بين ضفتي المتوسط، وبين الشمال والجنوب، وكذلك في إطار التعاون جنوب جنوب.

لذلك، من الضروري أن تكون لدينا دبلوماسية شعبية قوية ومستقرة، قادرة على بناء الجسور، وتقديم الحلول الواقعية التي تدعم السلام والتعاون في منطقتنا.

السؤال : التغير المناخي يضغط على الموارد، لكنه يكشف أيضا طاقات الإبداع. كيف توظفون هذا التحدي لإطلاق اقتصاد جديد؟

الجواب: التغير المناخي ليس نهاية، بل بداية لإعادة بناء اقتصاد أكثر عدلا. في الشبكة نؤمن أن كل أزمة تحمل بذرة فرصة. نعمل على تحفيز المشاريع الخضراء، وتدريب الشباب على ريادة الأعمال البيئية. البيئة ليست عبئا اقتصاديا، بل فرصة للابتكار والكرامة الاقتصادية.

السؤال: من خلال المنتدى في القاهرة، ما الذي يجب أن يبقى كرسالة إستراتيجية للأجيال القادمة؟

الجواب: إن الوعي وحده لا يكفي، وأن الفعل الفردي يمكن أن يحدث أثرا جماعيا. أن البحر المتوسط ليس فقط خطا جغرافيا، بل ذاكرة مشتركة ومسؤولية مشتركة. رسالتي: لن ننقذ البيئة بالنيات، بل بالشراكة، وبإعادة صياغة علاقتنا بالكوكب كمواطنين عالميين واعين ومبادرين.

 

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

الملوثات الكيميائية والهيدروكربونية في مياه شط العرب وتأثيرها البيئي

د. مهدي الكناني- العراق عضو الهيئة الاستشارية العراقية للأعمار والتطوير – لندن- المملكة المتحدة – …

اترك تعليقاً