انجازات الطبيب والعالم العربي ابن النفيس

ابن النفيس عالم عربي ، يزدهی به العلم في كل عصر، ظل أمر كشفه للدورة الدموية مجهولا مدى قرون وأجيال ، ونسب أمر هذا الكشف إلى «هارفي » الإنجليزي .

ابن النفيس هو علاء الدين أبو الحسن على بن أبي الحزم القرشي المعروف بابن النفيس . ولد في دمشق في أوائل القرن السابع الهجري ، وكانت دمشق في ذلك الوقت كعبة القصاد من رواد العلم والفن ، وكانت مظاهر نهضتها بالغة حد الروعة والبهاء ، تعلم فيها الطب ثم انتقل إلى القاهرة ليدير المستشفى النوری .

ولقد كان ابن النفيس سيئ الحظ بالقياس إلى علماء عصره ، فقد أهمل ابن أبي أصيبعة ، وهو مؤرخ الطب في ذلك العصر ذكره ، السبب لا نعرفه ، لولا أن ساعدت الظروف على كشف ترجمتين متشابهتين له في مؤلفين بدار الكتب المصرية ، الأولى في « مسالك الأبصار ، في أخبار ملوك الأمصار» للعمري ، والثانية في « الوافي بالوفيات » للفدى ، كما ورد ذكر ابن النفيس في مؤلفات أخرى كثيرة ، وقد تدرج في مناصب الأطباء ، وأشرف حينا على المستشفى النوری ولقب « رئيس أطباء مصر » في ذلك العهد .

وصفوه بأنه نحيل ، طويل القامة دمث الخلق ، رقيق الجانب ، لطيف الشمائل ، عاش عزبا لم يتزوج . كان واسع الاطلاع ، ومن أعلم الناس في عهده ، لا بالطب فحسب بل في مختلف العلوم ، درس الفلسفة اليونانية وطب ابن سینا ونحو الزمخشري وألف في الفقه عدة رسائل .

أما في الطب فكان نابغة عصره ، غير منازع ولا مدافع ، يقال إنه كان يحفظ کتاب القانون في الطب لابن سينا عن ظهر قلب ، كما درس مؤلفات جالینوس . وكان ابن النفيس أعظم أبناء عصره من حيث مركزه العلمي ، وتمكنه من الطب.

وكانت طريقته في العلاج تعتمد على الحمية ، وتنظيم الغذاء أكثر من اعتمادها على العقاقير . وكان يفضل الأدوية المفردات على الأدوية المركبة التي كان يصفها معاصروه من الأطباء ، حتى نفر منه الصيادلة ، لأن طريقته كانت كفيلة بكساد بضائعهم .

وكان سريع الخاطر ، إذا حلت ساعة الإلهام أمر بإحضار ما يلزم الكتابة ، وكان سريع التأليف والكتابة ، فكانت تبري له الأقلام ، فإذا حفي قلم رماه واختار آخر حتى لا ينقطع وحى الكتابة والإلهام .

ألف موسوعة في الطب كان يعتزم إصدارها في ثلثمائة جزء ، إلا أن المنية عاجلته فلم بكتب منها سوى ثمانین ، وجدت بعد وفاته في مكتبته ، وله كتاب في الرمد ، وثان في الغذاء ، وثالث في شرح فصول أبقراط وكتب أخرى كثيرة .

لقد حق للعرب أن يفاخروا بابن النفيس عالما من العلماء الأفذاذ الذين أحاطوا بمعارف عصرهم وبرزوا في كثير منها كالطب . ولقد تمیز عالمنا بإنكاره ما لم تره عينه ، أو ما لم يقره عقله ، ولذلك تجرأ على ابن سينا وجالینوس .

ويعد کشف ابن النفيس للحركة الدموية من أجل كشوفه ، وهو يخالف في ذلك جالينوس وابن سينا إذ يرى أن اتجاه الدم ثابت ، وأنه يمر من التجويف الأيمن إلى الرئة حيث يخالط الهواء . ومن الرئة يمر عن طريق الوريد الرئوى إلى التجويف الأيسر.

وقال عن هذا الوريد : « إن هذا العرق يشبه الأوردة ويشبه الشرايين . أما شبهة بالأوردة ، فلأنه من طبقة واحدة ، ولأن الجسم نحيف ، ولأنه على قوام ينفذ فيه الدم لغذاء العضو ، فلا بد أن هذا الدم إذا لطف نفذ في الشريان الرئوي إلى الرئة لينبث في جرمها وينفذ إلى الشريان الوريدي ليوصله إلى التجويف الأيسر ، ولذلك جعل الشريان الرئوي شديد الاحكام ذا طبقتين ، وجعل الشريان الوريدى نحيفا ذا طبقة واحدة ، وكذلك جعل بين هذين العرقين منافذ محسوسة . فكأن ابن النفيس قد عرف هذه المنافذ والمسام وما نسميه الآن بالأوعية الشعرية .

قال ابن سينا : « إن في القلب ثلاثة بطون » وخالفه في ذلك ابن النفيس بقوله « إن القلب له بطنان فقط أحدهما مملوء من الدم وهو الأيمن ، والآخر مملوء من الروح وهو الأيسر ، ولا منفذ بين هذين البطنين البته وإلا كان الدم ينفذ إلى موضع الروح فيفسد جوهرها ، والتشریح يكذب ما قالوه » .

لقد اعتمد ابن النفيس على التشريح مع تصريحه في بعض كتبه أنه حاد عن مباشرة التشريح بوازع من الشريعة ، وما في أخلاقنا من الرحمة ، فلعله حرص على عدم إثارة حنق رجال الدين ، كما حرص على عدم الجهر بمخالفة جالينوس بقوله : ( لم نخالفه إلا في أشياء يسيرة ظننا أنها من أغاليط النساخ ) ، ففضل أن يثير الشك في أمانة النساخ على أن يتهم علم جالینوس .

ويعد ابن النفيس أول من فطن إلى وجود أوعية داخل عضلة القلب تغذيها . وقد خالف في ذلك أستاذه ابن سینا مرة أخرى ، كما أنه مارس التشريح فعلا . وكان أول من وصف الشريان الإكليلي وفروعه وهو المعروف الآن باسم الشريان التاجي.

وعلى ذلك يكون ابن النفيس أول من كشف الدورة الدموية ، وأول من أشار إلى مرور الدم في الأوعية الشعرية سابقا « هارفي » بعدة قرون ، وإنما ظلت آرائه مطوية منسية بسبب القداسة التي كان يضفيها المعاصرون على تعاليم ابن سينا وجالينوس ، إلى حد أن أى انحراف عنها كان يعد بمثابة الإلحاد حتى قال قائلهم : إن أي اختلاف بين نتائج التشريح وقضايا جالينوس يكون مرده إلى تغيير طرأ على الطبيعة .

وقد نشرت بعد ابن النفيس ببضعة قرون آراء لعلماء غربيين ، تشبه إلى حد كبير آراء عالمنا ، ثم جاء بعد هؤلاء « هارفي » الإنجليزي الذي درس حيث درس هؤلاء ، ومن أسف أن كثيرين من شباب علمائنا وأطبائنا يعتقدون أن « هارفي» أول من اهتدى إلى كشف الدورة الدموية ، في حين أن ابن النفيس هو کاشفها الأول وعنه نقل الغرب ، حين ترجموا الكتب العربية ، ويظهر أن الأمانة العلمية لم تكن طابع هؤلاء القلة ، فنسبوا إلى أنفسهم ما لم يكن من عملهم ، وجحدوا فضل العالم العربي الأشهر : ابن النفيس .

وبعد، فهذه صفحة مشرقة من صفحات عالم عربي أصيل ، ظلت مطوية عدة قرون إلى أن أسلمتها يد الزمن إلى علماء جلوا ما عليها من صدا وقدروا فضله حق قدره ، وأنزلوه من نفوسهم منزلته الصحيحة الجديرة بعلمه وعبقريته .


وما أجدرنا بدراسة هذا التراث العلمي العظيم ، الذي خلفه لنا هذا السلف العظيم ، لتصحيح تاريخنا العلمي ، وليسير هذا التصحيح جنبا إلى جنب مع ما نحن بسبيله من تصحيح تاريخنا ، وما نشك في أن تاريخنا سيكون دفعة قوية لنهضتنا الحاضرة ، ليعلم العالم أجمع أن البيئة العربية ما زالت خصبة قادرة على أن تنتج فروعا كالأصول تغذي شجرة الحضارة لتتفيأ ظلالها الإنسانية جمعاء .

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

في المستقبل المزارع العمودية داخل بنايات المدن الحديثة

على غرار حدائق بابل المعلقة والتي اعتبرت من عجائب الدنيا، برزت فكرة بناء المزارع العمودية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *