الفهم الوظيفي للمفاهيم العلمية: مدخل نحو علمٍ تطبيقي فعّال

المهندس مجدي أبو زينه

المرء يمكن أن يتساءل!!!  كيف يتجاوز المتعلمون الحفظ إلى التفسير والتطبيق الواقعي؟

تُعد المفاهيم العلمية حجر الأساس في بناء فهمنا للعالم الطبيعي؛ إذ توفّر الأطر التي تمكّننا من تفسير الظواهر والتنبؤ بها والسيطرة عليها. ومع ذلك، فإن الاقتصار على المعرفة النظرية أو الحفظ لا يلبّي متطلبات هذا الفهم. فالمطلوب هو ما يُعرف بـ “الفهم الوظيفي” وهو فهم يتجاوز التكرار إلى التفسير والتطبيق والتحليل ضمن سياقات الحياة الواقعية. هذا النمط من الفهم ضروري ليس فقط لتعزيز الثقافة العلمية، بل أيضًا لحل المشكلات وتحفيز الابتكار في مختلف المجالات.

الفهم الوظيفي: ما هو؟

في جوهره، يعني إدراك الكيفية والسبب وهما وراء المبادئ العلمية. فعلى سبيل المثال، لا يكفي أن نعرف قوانين نيوتن للحركة، بل الأهم هو القدرة على تطبيقها في تصميم سيارة أكثر أمانًا وكفاءة. هذا النوع من الفهم يستلزم إدراك الصلة بين المفاهيم المجردة والواقع العملي، مما يضفي عليها معنى وقيمة حقيقية. ويُعد هذا النهج جوهريًا في تعليم العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات (STEM)، حيث يُشجّع الطلاب على التفكير النقدي وتطبيق المعرفة في مواقف جديدة.

دمج التخصصات: نحو تعلّم مترابط

يسهم الفهم الوظيفي في تسهيل التكامل بين التخصصات المختلفة. ففي مجالات مثل علوم البيئة أو الهندسة الطبية الحيوية، يحتاج الأفراد إلى دمج مفاهيم من الفيزياء والكيمياء والأحياء لمعالجة قضايا معقدة. وبدون هذا الفهم العميق، سيبقى الدمج سطحيًا وغير مثمر. فعلى سبيل المثال، تتطلب مواجهة تغير المناخ فهمًا مشتركًا لعدة علوم—كيمياء الغلاف الجوي، الديناميكا الحرارية، والأنظمة البيئية—وتطبيقها سويًا لتطوير حلول فعّالة ومستدامة.

تعزيز التفكير النقدي واتخاذ القرار

من الجوانب المحورية للفهم الوظيفي أيضًا دوره في دعم التفكير النقدي. ففي عالم غارق بالمعلومات، يتعرض الأفراد لادعاءات علمية مستمرة تتعلق بالصحة أو البيئة أو التكنولوجيا.

الفهم الوظيفي يُمكّنهم من تقييم تلك الادعاءات استنادًا إلى الأدلة والمنطق، والتمييز بين العلم الحقيقي والزائف. وهذه القدرة جوهرية لمواطنة فاعلة ومستنيرة، قادرة على المشاركة في صنع السياسات العلمية.

دعامة للتقدم العلمي والابتكار

لا يتوقف أثر الفهم الوظيفي عند حدود التعليم أو المواطنة، بل يمتد إلى صميم البحث العلمي ذاته. فالعلماء لا يكتفون بفهم النظريات القائمة، بل يطوّرونها ويعيدون صياغتها للوصول إلى آفاق جديدة من المعرفة. وهذا يتطلب مرونة فكرية وفهمًا عميقًا يُتيح الإبداع والتجديد

مجموعة من الأمثلة التطبيقية على الفهم الوظيفي للمفاهيم العلمية

  • في الفيزياء – قوانين الحركة

المفهوم: قوانين نيوتن للحركة

التطبيق الوظيفي:

تصميم خوذات رياضية أو سيارات بوسائد هوائية تُقلل من أثر الاصطدام عبر فهم مبدأ “القوة = الكتلة × التسارع”، مما يعزز السلامة في الحوادث.

  • في الأحياء – التمثيل الضوئي

المفهوم: عملية التمثيل الضوئي في النباتات

التطبيق الوظيفي:

تصميم أنظمة زراعية ذكية تعتمد على الإضاءة الصناعية لضمان إنتاجية عالية في البيوت المحمية، بناءً على فهم العلاقة بين الضوء ونمو النبات.

  • في الكيمياء – الحموضة والقلوية

المفهوم: مقياس pH وتأثيره على التفاعلات

التطبيق الوظيفي:

معالجة مياه الشرب عن طريق ضبط درجة الحموضة لتكون آمنة للاستهلاك، من خلال فهم أثر pH على المواد الكيميائية والمعادن المذابة في الماء.

  • في الجغرافيا والبيئة – التغير المناخي

المفهوم: العلاقة بين الغازات الدفيئة وارتفاع حرارة الأرض

التطبيق الوظيفي:

ابتكار حلول بيئية مثل زراعة النباتات الكربونية أو تطوير السيارات الكهربائية، باستخدام الفهم العلمي لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

  • في الصحة – الجهاز المناعي

المفهوم: آلية عمل الجهاز المناعي

التطبيق الوظيفي:

تطوير لقاحات جديدة، كما في لقاح mRNA، اعتمادًا على فهم دقيق لكيفية استجابة الجسم للمستضدات وكيفية تحفيز المناعة دون التسبب بالمرض.

  • في الهندسة – الجهد الكهربائي والتيار

المفهوم: العلاقة بين الجهد والتيار والمقاومة (قانون أوم)

التطبيق الوظيفي:

تصميم دوائر إلكترونية ذكية للأجهزة المنزلية أو لوحات الطاقة الشمسية بكفاءة عالية، استنادًا إلى الفهم العملي لكيفية التحكم بالتدفق الكهربائي.

إن الفهم الوظيفي للمفاهيم العلمية يمثل شكلًا حيًا وتطبيقيًا من المعرفة، يمنح الأفراد أدوات فعّالة للتفاعل مع العالم. فهو يحوّل المتعلّمين من متلقين سلبيين إلى فاعلين نشطين قادرين على استخدام المعرفة العلمية لفهم بيئتهم والتأثير فيها. ولهذا، فإن ترسيخ هذا النوع من الفهم يُعدّ ركيزة أساسية لبناء مجتمع مثقف علميًا، قادر على الإبداع والمشاركة البنّاءة في عالم يتغير بسرعة.

عن المهندس مجدي أبو زينة

باحث في مركز بحوث البيئة - الجمعية العلمية الملكية سابقا مسؤول مختبرات في مديرية لواء الجامعة سابقا

شاهد أيضاً

تاريخ الملح عبر العصور.. من مادة أساسية إلى أيقونة ثقافية

عرف الانسان منذ القدم فوائد الملح حتى اصبح أحد المكونات الغذائية الأساسية التي لا يخلو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *