تُعد البدانة الوراثية من القضايا الصحية الكبرى التي تؤثر على ملايين الأشخاص حول العالم، وقد ظلت العوامل المؤدية إليها محط دراسة لسنوات طويلة.
وفي تطور علمي مهم، كشفت دراسة حديثة أُجريت في جامعة أكسفورد البريطانية عن رابط وثيق بين البدانة الوراثية والجينات، ما يسلّط الضوء على أسباب غير تقليدية لزيادة الوزن تتجاوز النظام الغذائي وقلة النشاط البدني.
الجينات والوزن: اكتشاف مفصلي في علم الوراثة
قام فريق بحثي من كلية الطب بجامعة أكسفورد بدراسة تفصيلية لأكثر من 40,000 شخص بهدف فهم دور العوامل الوراثية في تطور البدانة. ونجح الفريق في تحديد مورثة تُعرف باسم FTO gene، والتي تبين أن لها تأثيراً مباشراً على قابلية الفرد لاكتساب الوزن.
ووفقًا للنتائج، فإن الأشخاص الذين يحملون نموذجًا واحدًا من هذه المورثة يكون احتمال إصابتهم بالبدانة أعلى بنسبة 30% مقارنة بغيرهم، أما أولئك الذين يحملون النموذجين معًا فإن خطر الإصابة يرتفع إلى حوالي 70%. كما لوحظ أن حاملي النماذج الجينية المسببة للبدانة يزيد وزنهم بمعدل 3 كيلوغرامات عن الأفراد الذين لا يحملون هذه الطفرات الجينية.
البدانة الوراثية والتحدي في إنقاص الوزن
رغم أن العوامل البيئية مثل التغذية وممارسة الرياضة تظل مهمة في الوقاية من البدانة، فإن الدراسة بينت أن الأشخاص الذين يعانون من البدانة الوراثية قد يجدون صعوبة في فقدان الوزن حتى عند اتباعهم نمط حياة صحّي. وقد فسر الدكتور أندرو هارتلي، أحد الباحثين المشاركين في الدراسة، هذا الأمر بقوله: “ليس من العدل أن نحكم على شخص يواجه صعوبة في خسارة الوزن بنفس المعايير التي نحكم بها على شخص آخر، فهناك عوامل جينية تلعب دورًا خفيًا ومؤثراً”.
العلاقة بين البدانة الوراثية والسكري
أشارت الدراسة إلى وجود صلة واضحة بين البدانة الوراثية وزيادة خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني. إذ لاحظ العلماء أن الأشخاص الذين يحملون نوعًا خاصًا من مورثة FTO يعانون من زيادة في مقاومة الإنسولين، مما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بهذا النوع من السكري.
وتم التوصل إلى هذا الاستنتاج من خلال مقارنة الصفات الوراثية بين أشخاص مصابين بمرض السكري من النوع الثاني وآخرين أصحاء. وأكد الباحثون أن الطفرة الوراثية نفسها التي تزيد من خطر البدانة قد تكون مسؤولة عن تحفيز الأمراض الأيضية المرتبطة بها.
لماذا تختلف استجابة الأجسام للطعام؟
من المثير للاهتمام أن شخصين يتبعان النظام الغذائي نفسه ويمارسان القدر ذاته من النشاط البدني، قد يختلفان بشكل كبير في قدرتهما على فقدان الوزن. هذا ما أشارت إليه الدراسة الجديدة، حيث لفتت إلى أن البدانة الوراثية قد تفسر هذه الفروق في الاستجابة الفردية.
وقد أكد الدكتور هارتلي أن فارق 3 كيلوغرامات في الوزن الناتج عن العامل الوراثي، وإن بدا ضئيلًا، إلا أن له تأثيرًا كبيرًا على المدى الطويل، لا سيما في سياق تطور الأمراض المزمنة.
أمل جديد لفهم البدانة وعلاجها
يرى العلماء أن اكتشاف هذه المورثة سيفتح آفاقًا جديدة لفهم طبيعة البدانة من منظور علمي أدق، وقد يُسهم في تطوير استراتيجيات علاجية وقائية أكثر فعالية. وأوضح الدكتور فاروقي من جامعة كامبردج أن الدراسة تمثل خطوة كبيرة نحو فهم البدانة الوراثية، مشيرًا إلى أن معالجة هذه الحالة لن تكتمل إلا بفهم شامل للآليات الجينية التي تقف وراءها.
وفي السياق ذاته، عبّر الدكتور مارك ويلبورت، رئيس صندوق الأبحاث التابع لشركة “ويلكوم” الدوائية، عن أهمية هذه النتائج بالنسبة للصحة العامة، موضحًا أن واحدًا من كل ستة أوروبيين من ذوي البشرة البيضاء يحملون النموذجين الوراثيين المرتبطين بزيادة الوزن.
مستقبل العلاج: من الوقاية إلى التخصيص
بناءً على هذه الدراسة، يمكن تصور مستقبل للطب يُراعي التركيبة الجينية لكل فرد، بحيث يتم تصميم برامج غذائية ورياضية مخصصة حسب الخلفية الوراثية. وهذا النوع من العلاج التخصيصي (Personalized Medicine) بدأ يأخذ حيزًا متزايدًا في مجالات الطب المختلفة، وخاصة تلك المتعلقة بالأمراض المزمنة مثل البدانة والسكري.
إن فهم البدانة الوراثية يمثل تحولاً كبيرًا في النظر إلى السمنة كظاهرة معقدة تتشابك فيها العوامل الوراثية والبيئية والنفسية. وبينما يظل أسلوب الحياة مهمًا في الحفاظ على وزن صحي، فإن معرفة تأثير الجينات يمكن أن تساعد في تطوير استراتيجيات وقائية أكثر فعالية، ووضع حد للوصمة الاجتماعية المرتبطة بالسمنة.
المراجع:
- Frayling, T. M., et al. (2007). “A common variant in the FTO gene is associated with body mass index and predisposes to childhood and adult obesity.” Science, 316(5826), 889-894.
- Loos, R. J. F., & Yeo, G. S. H. (2014). “The bigger picture of FTO: the first GWAS-identified obesity gene.” Nature Reviews Endocrinology, 10(1), 51-61.
- Speakman, J. R. (2015). “The ‘Fat Mass and Obesity Related’ (FTO) gene: mechanisms of impact on obesity and energy balance.” Current Obesity Reports, 4(1), 73–91.