إسهامات العلماء المسلمين في علم الفلك

كان علم الفلك من أول العلوم التي لفتت أنظار العلماء المسلمين ، وجلبت اهتمامهم وعنايتهم بها . ولم يكن الاهتمام بعلم الفلك مقصورة على العلماء المختصين وحدهم ، بل إن الكثيرين من خلفاء المشرق والأندلس في المغرب وبعض السلاطين السلاجقة والحانات المنحدرين من سلالة «جنكيز خان » أصبحوا شديدي الشغف والتعلق بهذا العلم .

وعلم الفلك يبحث عن الأجرام السماوية وما تحويه وما تنظمه من نجوم وكواكب، وعن فصول السنة ، واختلافها ، وعن الليل والنهار ، وتعاقبهما واختلافهما .

ولقد ظهرت المراصد الفلكية في كل مركز مهم من مراكز الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، واكتسبت مراصد بغداد ، والقاهرة ، وقرطبة ، وطليطلة ، وسمرقند ، والرقة ، ومراغة ، شهرة فائقة بقي أثرها مئات السنين . وكانت نتائج أبحاثها هي المرجع المعتمد عند علماء الفلك في القديم والحديث .

ويرجع تاريخ الفلك في بغداد إلى خلافة أبي جعفر المنصور العباسي وهو الخليفة الثاني . وقد كان هو نفسه عالنا في الفلك ولوعا في علم السماء وما خلق الله فيها من آیات باهرات .

وفي خلافة هارون الرشيد والمأمون ، حققت المدرسة البغدادية الفلكية إنجازات مدهشة. فقد نقحت النظرات الفلكية القديمة ، وأصلحت الكثير من أخطاء بطلیموس ، وصححت الجداول اليونانية . ويعزى إلى هذه المدرسة اكتشاف أن أبعد نقطة في محور الشمس عن الأرض تغير موضعها، ثم إيجاد قدر تقوس مدار الشمس البيضوي الشكل وانتقاصها المتوالي ، ودراسة طول السنة بدقة و تفصيل . ولاحظ علماء بغداد أن أعلى خط عرض للقمر غیر منتظم ، واكتشفوا اختلافا ثالثا للقمر يدعى التحول.

وقال هؤلاء العلماء بوجود بقع شمسية ، ودرسوا الخسوف وظهور النيازك و ظواهر سماوية أخرى ، وشكوا في ثبات الأرض ، بل قال بعضهم بحركتها . وسجلت مدرسة بغداد الفلكية نتائج ملاحظاتها هذه في كتاب الجدول الدقيق ، ويعد يحيي بن أبي منصور المؤلف الأول لهذا الكتاب .

ومن مشاهير علماء هذه المدرسة الفلكية والسابقين في هذا العلم « الشيخ البناني»، الذي يعد من أشهر عشرين فلكية عالميا في الدنيا . و «أبو الوفا »، الذي يعرف اسمه بإحدى قواعد علم الفلك ، وهي قاعدة « الانحراف القمري الثالث » . وقد تقدم في اكتشافه ، عشرة قرون ، على العالم الدانمركي « تيخو براهيه » الذي يعزى إليه هذا الاكتشاف خطأ .

ويعد ابن یونس ، مخترع الرقاص والمزولة وهو الذي أسس مدرسة القاهرة . وقد وكل إليه الحاكم الخليفة الفاطمي أمر إدارة المرصد الذي بناه على جبل المقطم.

ونشر «ابن يونس » الجداول المسماة باسم الخليفة الحاكم والتي فاقت في دقتها كل ما سبقها من جداول ، واستعيض بها عن « بطليموس »، و مقالات بغداد الفلكية في الشرق كله ، حتى الصين .

ولم تكن الدراسات الفلكية في الأندلس بأقل تقدما منها في المشرق ، ذلك أن أمير قرطبة ، عبد الرحمن الثاني ، وجه اهتماما خاصا نحو هذا العلم ، غير أنه لم يصل إلى أيدينا ، إلا النزر اليسير منه .

وكانت جميع آثار العلماء المسلمين الكبار قد اجتاحها الدمار في أثناء الحروب الصليبية الحاقدة ، التي أثارها الغرب ضد المسلمين في الأندلس ، وفي فترة الاضطهاد الديني الوحشية التي مرت على المسلمين في تلك العصور المظلمة ، وحسبنا أن نعرف أن المراصد الفلكية في الأندلس قد اكتسبت شهرة عظيمة في تلك الأيام من حكم المسلمين المشرق بأنوار العلوم .

وقد استمرت مدرسة بغداد في عملها بعد سقوط الخلافة العباسية السياسي وتقسيمها إلى دويلات ، ولم يتوقف نشاطها المبدع إلى حوالي منتصف القرن الخامس عشر الميلادي ، حيث تعدى أثرها إلى أواسط آسيا والهند والصين .

وقد عاش عبد الرحمن محمد بن أحمد البيروني – وهو أحد مشاهير العلماء المسلمين – في بلاط محمود الغزنوي (997 – 1030) حيث كون حلقة وصل متينة بين تراث بغداد وعلماء الهند . ومن أعماله العديدة التي نشرت «لوائح العرض والطول لأشهر مدن العالم» .

وكان السلطان السلجوقي ملك شاه (1072 – 1092) الذي اشتهر بعلمه ، وتقريبه العلماء والأدباء في مجالسه ، مشغوفة – إلى حد كبير – بعلم الفلك. والمراصد التي أمر بإنشائها أدت إلى تعديل التقويم ، وجعله أكثر دقة من التعديل الذي قام به « غريغوريوس » بعد ذلك بعشرة قرون.

وهكذا يتجلى لنا من هذا العرض المختصر أن العلماء المسلمين هم أول من اشتغل بعلم الفلك بعد اليونانيين القدماء ، وأول من ألف فيه الكتب والمصنفات الطوال وأول من اهتم اهتماما كبيرا بإنشاء المراصد الفلكية في العالم وخصص لها المخصصات الطائلة من بيت مال المسلمين و فرغ لها فطاحل العلماء يرصدون ويحققون ويؤلفون وينشرون .


ولقد أدت مراصد بغداد الفلكية – كما أسلفنا – في العهد العباسي الأول خدمات العلم الفلك ، ذكرها العديد من العلماء الفلكيين في القديم والحديث وشكروها ، بل إن هذه المراصد أضافت إلى علم الفلك إضافات مهمة ، بعد أن أدمجت فيها مجموعة ما رصد في هذه المراصد ، إذا عينت انحراف سمت الشمس بثلاث وعشرين دقيقة واثنتين وخمسين ثانية، وهو ما يعادل الرقم المعروف في الوقت الحاضر تقريبا. وقد أدى رصد الاعتدال الشمسي إلى تعيين مدة السنة تعيين دقيقة .

مصدر الصورة
pixabay.com

عن المهندس أمجد قاسم

كاتب علمي متخصص في الشؤون العلمية عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين

شاهد أيضاً

الجمال الغامض لسديم السرطان

يقع سديم السرطان Messier، ضمن النسيج السماوي لكوكبة برج الثور، ويمثل أعجوبة فلكية. تعود أصول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *