التكنولوجيا لدى العرب: هوية وإبداع

الدكتور مصطفى شقيب

في العام 802 م، عاد سفير شارلمان إلى بغداد محمّلا بهدايا الخلفية هارون الرشيد، خاصة الساعة المائية الثمينة التي وصفها بإعجاب الكاتب ايجينهارد:
” حركة الساعات الاثني عشر ناتجة عن ميكانيزم هيدروليكي. كريات من البرونز تسقط في إناء. تُعلم كل مرة أن ساعة قد انقضت. اثنا عشر فارسا يقفون وراء اثني عشر بابا مغلقا، كلما دقت ساعة، نفس عدد الأبواب يُفتح، نفس عدد الفرسان يخرج…”
تشهد هذه الساعة المزودة بالآليات على التقدم التكنولوجي للحضارة العربية بين العامين 500 و 1500،”كانت كل فروع التكنولوجيا تقريبا تأتي من الشرق الأدنى، كل السلع الأكثر اتقانا والأكثر تقدما…”.يلخص مؤرخ العلوم شارل سينغر (1876-1960 ) ، مؤلف “تاريخ التكنولوجيا” “A history of technology”

اكتشافات تقنية

من بين الآلات المخترعة والمطورة من طرف العرب، تأتي في المقدمة تلك التي تهم مجال “السقي”. فتزويد مدن كبغداد، دمشق أو قرطبة كان يتطلب تطوير الزراعة، وبالتالي الموارد المائية النادرة في هذه المرتفعات. ولبلوغ هذه الغاية، كان المهندسون يتوفرون على مكسب هام: آلات تعمل على رفع الماء مثل “الشادوف”، “الساقية” أو “الناعورة”.

فالإسلام ، في القرن السابع الميلادي، إضافة إلى امتلاك الميراث العلمي لليونان، والميراث التقني لفضاء شاسع محصور بين مصر في الغرب وإيران في الشرق والذي جمع لوحده 20℅ من سكان العالم، كان في تقدم كبير على باقي العالم.

يفسر غابرييل مارتينيز غروس، متخصص في الحضارة العربية الإسلامية، أستاذ ب ” باريس 20 نانتير”.
سيعمل المهندسون العرب على تحسين مردودية هذه الآلات المختلفة، كانو يبحثون خصوصا على تعويض القوة البشرية والحيوانية بالماء كمصدر للطاقة. وقد تميز عالمان كبيران هما: الجزري وتقي الدين.

كان الأول هو أمير المهندسين العرب، فقد همّت أعماله المجالات المختلفة جدا، مضخات الماء و الساعات الآلية. كان يعيش في بلاط ملك دمشق آنذاك، تحت حكم مملكة الأتراك في أواخر الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر. وجمعت اكتشافاته في الكتاب المرجع “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”. .

مخطوط لكتاب الجزري في القرن الثالث عشر بالمكتبة السليمانية باسطنبول

لم يكن للكتاب أي مثيل، لا في الشرق ولا في الغرب ، بدقة الوصف و الرسومات التقنية.
من بين أجهزة رفع الماء، كان يعتمد على استعمال مضخة سفافة تعمل باسطوانتين وفق حركة تناوبية. ثلاث قرون فيما بعد في القرن السادس عشر، سيصف تقي الدين مضخة هيدروليكية بست اسطوانات .

وقد اظهر العرب إبداعاتهم خصوصا في مجال الساعات والآلات الاتوماتيكية، فتلك الآلات الفائقة الدقة هي الصناعات الدقيقة للعصر الوسيط.، وهذا مثال يشهد على التقدم التقني للحرفيين والمهندسين العرب في هذا المجال، ففي القرن الحادي عشر كانت ساعتان كبيرتان مائيتان على ضفاف طليطلة صنعهما العالم الأندلسي الكبير “الزرقالي” تكونتا من خزانين بمستويات:

-يملأ الخزانان عندما يهّل القمر، ويفرغ عندما يختفي .-
كانت الساعتان تعملان عندما استولى المسيحيون على طليطلة العام 1085 م ، فطلب الملك الفونس الرابع من أحد علمائه صناعة ساعة مشابهة، فقرر هذا الأخير تفكيك ساعة الزرقالي، لكنه لم يكن قادرا على إعادة تركيبها .

براعة الصانع العربي

على المستوى التقني، منذ القرن الحادي عشر، كانت هذه النجاحات تعتمد على إتقان تكنولوجيا الساعات بالوزن المحرك الذي يقود سلسلة من المسنَّنات يمكن ربطها بآلات ذاتية الحركة، كالساعة الفيل التي صنعها الجزري، على ظهر الحيوان توجد حجرة كبيرة بتنين .

“الساعة الفيل” الدقيقة من أشهر آلات الجزري، تعتمد على ميكانيزم مخبأ داخل جسم الفيل يعمل بالماء، على راس كل نصف ساعة يضرب سائس الفيل ،وهناك روبوطات ترتدي العمائم العربية وتتحرك حركات متزامنة.

وأحيانا لا ترتبط الآليات بأي نظام ساعاتي وإنما لإظهار براعة الصانع العربي ونيل إعجاب الجمهور، كاختراعات إخوان بني موسى في القرن التاسع.

آليون – متقنون

أغلب هذه الآلات كانت تعمل بفضل مراقبة دقيقة لضغط الهواء و الماء، لكن الجزري بعد أربعة قرون، لجأ إلى تقنيات أكثر تشذيبا .” كان آليوه يستغلون بدرجة أكبر الإرسال الميكانيكي أو الهيدروليكي المباشر انطلاقا من مجرد تغييرات دقيقة للضغط” يشرح ‘دونالد هين’، الاختصاصي في التكنولوجيا الإسلامية التي خصص لها كتابا مرجعيا. ومن بين الآليين الأكثر شهرة –هذه الخادمة التي تسكب الماء في نافورة.بطة تشرب الماء وتعيده إلى خزان–الذي يحتوي على الميكانيزم المحرك لنظام العمل.-

كيف نفسر هذا الاهتمام بالآلات الذي يظهر أن غايتها هي الترفيه ؟

لا أبدا، حسب جورج ساليبا، اختصاصي الحضارة العربية الإسلامية، البروفيسور بجامعة كولومبيا، مؤلف “العلوم الإسلامية وصناعة النهضة الأوروبية” هذه الآلات هي ذات جذور عكس مايبدو .

بعضها هي أمثلة لمبادئ فيزيائية تمت تجربتها، ففي مقدمة، كتابه يطرح الجزري بوضوح أن هذه الآلات تمت بلورتها لإبراز مبادئ فيزيائية توجد في الحالة الافتراضية. أخصائيون آخرون في تاريخ التكنولوجيا يدلون بفكرة علاقة الآلة الخاصة مع الحضارة الإسلامية، إذ ليس هناك كما في الغرب انفصام بين الأنشطة السامية للفقه والرياضيات وبين الأنشطة التقنية حسب البروفيسور غونالان ناداراجان “مفهوم التوحيد، وحدة الإله، الأساسية جدا في الفكر الديني الإسلامي، يجعل التميز مستحيلا وهذه المجالات المختلفة للمعارف قد تكون تجليات للقدرة الإلهية العليا . طريقة للتفكير لا توجد في الغرب” .

الجزري

الجزري

بديع الزمان أَبُو اَلْعِزِ بْنُ إسماعيل بْنُ الرِّزاز الجزري الملقب بـ الجزري (1136-1206). أحد أعظم المهندسين والكيميائيين والمخترعين في التاريخ.

المساهمة العربية الإسلامية في مجال الاختراعات العلمية

الإسطرلاب: المفضل لدى العلماء الأوروبيين

الإسطرلاب آلة وأداة في نفس الوقت، هي مفخرة المعرفة التقنية للمهندسين و الصناع العرب. وقد أدخلوا عليه تحسينات عديدة. ففي العصر الوسيط وعصر النهضة، كان إحدى الأدوات الأكثر تفضيلا لدى العلماء الأوروبيين. فبفضل تدريجاته العديدة، بالإمكان تحديد بشكل سليم في أية لحظة، نجوم النصف الكروي الأيمن، وموقع الشمس والقمر وبالتالي الساعة والدقيقة في مكان معين، وليس هذا كل شئ، بتلك العناصر على ظهر الإسطرلاب بإمكان الفلكي انجاز قياسات كتحديد ارتفاع مبنى أو جبل، عمق آبار وعرض مساحة واسعة .

العالم الفلكي لطليطلة ابن خلاف أهم من أدخل عليه تحسينات في القرن 12 عشر، فقد اخترع مبدأ الإسطرلاب العالمي، والعلماء العرب هم أيضا وراء الإسطرلابات المتحركة التي تحاكي حركات الشمس والقمر .


الساعة: على مر الزمن

انكب العلماء العرب على صناعة ساعات مائية أكثر فأكثر تحسينا. ففي كتاب يعود إلى القرن الحادي عشر اكتُشف في سبعينات القرن الماضي، يصف’ المورادي’ حركة ناتجة عن حركات سيفونات متداخلة المركز ومرسلة بواسطة سلسلة من المسنّنات ذات تعقيد مبهر. كانت الساعات المائية تصلح لقياس ساعات الليل، وفي النهار من العادة الرجوع إلى لوح شمسي. وإن كان أنه منذ بداية القرن الثاني عشر طور الخازني ساعة قادرة على العمل 24 ساعة 24 ساعة.

chaqib@yahoo.fr

المرجع:

اعتمدت هذه المقالة أساسا على مقال حديث جدا في المجلة العلمية الفرنسية
Cahiers de science et vie
في عددها
132
لشهر
octobre 2012

عن مصطفى شقيب

كاتب ومترجم علمي وأدبي. ترجم العديد من المقالات والكتب والقصص. مهتم بمستجدات العلوم التجريبية والانسانية. chaqib@yahoo.fr

شاهد أيضاً

في المستقبل المزارع العمودية داخل بنايات المدن الحديثة

على غرار حدائق بابل المعلقة والتي اعتبرت من عجائب الدنيا، برزت فكرة بناء المزارع العمودية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *