نظرية ماسلو و احتياجات الإنسان المتصاعدة

د. محمد فتحي عبدالفتاح أمين

للإنسان احتياجات متنوعة يسعى إلى تلبيتها، بمساعدة المجتمع الذي يعيش فيه… وقد تعوقه هذه أو غيرها من الاعتبارات… ولأن صحة الفرد وصحة المجتمع وتقدمهما مما يعتمد على تلبية هذه الاحتياجات يجب أن نأخذ المعارف الخاصة بها في الاعتبار. وهنا محاولة لوضع نظرية الدافعية الإنسانية (Human motivation theory) لآبراهام ماسلو – وهي واحدة من أرقى وجهات النظر بصدد احتياجات الإنسان – في مجال الرؤية.

لعل أكثر ما تميزت به نظرية ماسلو أنه حاول دراسة الشخصية الإنسانية من خلال الصحة… من خلال حالات اكتمالها وتفوقها، وليس من خلال حالات قصورها أو نقصها أو مرضها أو ضعفها أو تفككها، وهو مدخل معاكس لما هو سائد لدى كثير من الاتجاهات النفسية الشائعة.

وجهة النظر العضوية التي كان رائدها كورت جولدشتين أخصائي الطب العصبي والنفسي الألماني تؤكد وحدة وتكامل وتماسك الشخصية السوية. وتعتبر أن الاتساق النسقي هو الحالة الطبيعية للكائن العضوي، وأن اختلال هذا الاتساق هو ما يؤدي إلى المرض، ويأتي خلل الاتساق بتأثير البيئة غير المواتية، التي تفرض على الإنسان ما يتنافى مع طبيعته.

وتعتبر هذه الوجهة الكائن العضوي نسقا كليا متسقا، يستحيل فهمه عن طريق دراسة أجزاء أو قطاعات منفصلة، أو عن طريق اختزاله إلى العناصر المكونة له، ذلك أن الكل يؤدي وظائفه وفقا لقوانين لا يمكن استخلاصها من الأجزاء.

وتفترض وجهة النظر العضوية أن ما يحرك الفرد قوة دافعة رئيسة هي «تحقيق الذات»، بما يعني أن الإنسان يحاول دائما أن يحقق إمكاناته الكامنة والأصيلة بكل الطرق المتاحة، وما يبدو من تعدد في حاجات أو دوافع الإنسان لا يعدو أن يكون تعبيرات مختلفة ومتنوعة لهذه القوة الدافعة الأساسية نحو غاية (أو غايات)، وأن هذه الغاية هي التي تحدد اتجاه حياة الإنسان وتمنحها وحدتها.

ومن حيث المنهج يرى أصحاب هذا الاتجاه أنه يمكننا أن نتعلم كثيرا من خلال الدراسة الشاملة لشخص واحد أو عدد محدود من الأشخاص.

ومن هذا التوجه العام تنطلق نظرية الدافعية الإنسانية لآبراهام ماسلو التي ترى أن للإنسان حاجات وإمكانات وميول لها أساسها التكويني النشوئي، بعضها يميز الجنس البشري بأسره، على طول الثقافات وعرضها، وبعضها الآخر خاص بكل فرد على حدة مقصورة عليه وحده… وتتصور أن النمو الكامل المنشود يقوم على تحقيق هذه الإمكانات وإشباع هذه الحاجات وفي النمو باتجاه النضج.

وقد حاول ماسلو أن يصيغ في نظرية «الدافعية الإنسانية» نسقا مترابطا يفسر من خلاله طبيعة الدوافع أو الحاجات التي تحرك السلوك الإنساني وتشكله. وفي هذا النسق يفترض ماسلو أن الحاجات أو الدوافع الإنسانية دوافع فطرية ولادية، تنتظم في هرمية أو تدرج متصاعد (Hierarchy) من حيث الأولوية أو شدة التأثير (Prepotency)، فعندما يجري إشباع الحاجات الأكثر أولوية أو الأعظم قوة وإلحاحا فإن الحاجات التالية في التدرج الهرمي تبرز وتطلب الإشباع، ذلك أن إشباع المستوى الأدنى يساعد في التهيؤ للتفكير في المستوى الأعلى من سلم الدوافع، وهكذا حتى نصل إلى قمته.

وهذا يعني أن الإنسان نادراً ما يصل في ضوء هذا التصور إلى حالة الرضا الكامل، وأن الخاصية المميزة لحياته هي الرغبة في أشياء محددة، لكنه لا يلبث أن يفكر عند حصوله عليها في غيرها.

ولعل أكثر ما تميزت به نظرية ماسلو أنه حاول أن يدرس الشخصية الإنسانية من خلال الصحة… من خلال حالات اكتمالها وتفوقها وليس من خلال حالات مرضها أو ضعفها أو تفككها، وهو مدخل معاكس لما هو سائد لدى كثيرين من علماء النفس.

كما تميزت نظرية ماسلو أيضا بأنها ترى ضمن نسق الحاجات الإنسانية حاجات جمالية ومعرفية، وترى أنها حاجات ضرورية وهامة، وإن لم توضح مكان هذه الحاجات في تدريجها المتصاعد. وقد آثرت أن أتحدث عن هاتين الحاجتين في نهاية السلم، لكن واقع الحال لايبرر وجودهما في كانت تعيش تحت ظروف مادية قاهرة، معبرة بشكل فطري عن أن الجمال احتياج ضروري للوجود الإنساني.

ولا بأس بعد هذه العجالة من وقفة أكثر إسهابا عند هذه الحاجات.

1 – الحاجات الفسيولوجية الأساسية (Basic physiological needs)

مثل تجنب الجوع والعطش والألم، والسعي إلى الإشباع الجنسي، وغير ذلك من الحاجات التي تخدم البقاء البيولوجي بشكل مباشر.

2 – حاجات السلامة أو الشعور بالأمان (Safety needs)

وتشمل مجموعة من الحاجات المتصلة بالحفاظ على درجة معقولة من الاستقرار والأمان المادي والمعنوي والنظام واليقين في البيئة الخاصة بالفرد، والاعتماد على مصدر مشبع للحاجات… وتظهر هذه الحاجات في أجلى صورها في اعتمادية الرضيع فالطفل، ومع تقدم العمر والنضج و على تنظيم الحياة في شكل كلي متماسك له معناه، ويساهم في توفير الأمن النسبي. ويتجسد ضغط مثل هذه الحاجات في شكل مخاوف من المجهول، ومن الإحساس بالغموض والفوضى واختلاط الأمور، أو الخوف من فقدان التحكم في الظروف المحيطة.

3 – حاجات الحب والانتماء (Love&Belonging needs)

وت موقع مناسب في العائلة وداخل الجماعات المرجعية الأساسية التي ينتمي إليها المرء كالأصدقاء وزملاء العمل وما شابه من جماعات.

ويشعر الفرد الذي يتوق إلى عضوية الجامعة، بالوحدة والعزلة وافتقاد الصداقة والنبذ الاجتماعي والرفض إذا سيطرت عليه فكرة غياب الأصدقاء والأقارب والزوج والأطفال. وفي المجتمع الذي يتسم بالحراك المرتفع تسود السطحية العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، بشكل يحبط حاجات الحب والانتماء، وينتج عن ذلك سوء التكيف والأمراض النفسية والاجتماعية. وهناك علاقة جوهرية وارتباط قوي ما بين خبرات الطفولة الدافئة والصحة النفسية خلال الرشد، فالحب شرط أساسي مسبق للارتقاء الصحي لدى الإنسان.

وبالنسبة للحب بصفة خاصة يفوق ماسلو بين نوعين أو مستويين لهذه الحاجة: المستوى الأدنى أو مستوى الحب الناشيء عن النقص وفيه يبحث الإنسان عن صحبة أو علاقة تخلصه من توتر الوحدة وتساهم في إشباع حاجاته الأساسية الأخرى مثل الراحة والأمان والجنس… إلخ.

والمستوى الأعلى أو مستوى الكينونة وفيه يقيم الإنسان علاقة خالصة مع موجود آخر مستقل يحبه لذاته دون رغبة في استعماله أو تغييره لصالح احتياجاته هو.

4 – حاجات المكانة والتقدير والاحترام (Esteem needs)

وهذا النوع من الاحتياجات له جانبان:

أ- احترام النفس أو الإحساس الداخلي بالقيمة الذاتية من خلال تملك الكفاءة أو التمكن أو الاقتدار، وذلك إضافة إلى الثقة في النفس وقوة الشخصية والإنجاز والاستقلال والحرية. وهذا يعني أن الفرد يحتاج إلى الشعور بأنه جدير ببعض الأشياء وأنه قادر على التفوق في عمله، وقادر على اجتياز التحديات خلال الحياة.

ب- الحاجة إلى الشعور بالاحترام من جانب المجتمع المحيط، واكتساب تقدير المحيطين به مما يعني المكانة الاجتماعية واعتراف الآخرين به وتقبلهم له وانتباههم إليه، كما يعني المركز الاجتماعي والشهرة والسمعة الطيبة. و…

ويرى ماسلو أنه بتطور السن والنضج الشخصي يصبح الجانب الأول أكثر قيمة وأهمية بالنسبة للإنسان من الجانب الثاني.

5 – حاجات تحقيق الذات والحاجات العليا

Self – actualization needs & Metaneeds

وهنا يصف ماسلو مجموعة من الحاجات أوالدوافع العليا التي لايصل الإنسان إليها إلا بعد تحقيق إشباع كاف لما يسبقها من الحاجات الأدنى. وتحقيق الذات هنا يشير إلى حاجة الإنسان لاستخدام كل قدراته، وتحقيق كل إمكاناته الكامنة، وتنميتها إلى أقصى مدى يمكن أن تصل إليه.

وهذا التحقيق للذات يجب ألا يفهم في حدود الحاجة إلى تحقيق أقصى قدرة أو مهارة أو نجاح بالمعنى الشخصي المحدود. وإنما يشمل السعي نحو قيم وغايات عليا مثل الكشف عن الحقيقة، وخلق الجمال، وتأكيد العدل وغير ذلك. ومثل هذه القيم والغايات تمثل حاجات أو دوافع أصيلة وكامنة في الإنسان مثلها في ذلك مثل الحاجات الأدنى، وهي جزء لا يتجزأ من الإمكانات الكامنة في الشخصية الإنسانية، والتي تلح من أجل من أجل أن تتحقق لكي يصل الإنسان إلى مرتبة تحقيق ذاته والوفاء بكل دوافعها أو حاجاتها، وإلى أن يكون كائنا حقيقيا يعيش في سلام خاص مع نفسه.

وعملية تحقيق الذات ليست عملية سهلة أو تلقائية بطبيعة الحال فهي تتطلب أن يعيش المرء دوما في حالة من التطلع الحماسي والتوجه نحو أهداف معينة، وعلى رغم أنها تدفع في طريق الإنجاز، فهي تجلب معها المسؤولية والالتزام ومواجهة غير المعروف بما يتضمنه ذلك من توتر وصراعات ومخاوف.

6 – الحاجات الجمالية Aesthetic needs

وهي تشمل فيما تشمل عدم احتمال الاضطراب والفوضى والقبح، والميل إلى النظام والتناسق والحاجة إلى إزالة التوتر الناشيء عن عدم الاكتمال في عمل ما، أو نسق ما. وهناك وقائع كثيرة تؤكد فطرية هذه الحاجة… لقد ذكرنا واقعة المرأة التي ضلت عن قبيلتها في الإسكيمو.

لكن الوقائع في هذا الصدد ترجع حتى إلى رسوم الكهوف الأولى، بل وإلى استخدام الإنسان الأول للحلي!! وقد وجدت الاحتياجات الجمالية تأكيدا لها بالطبع مع زيادة رفاهية الإنسان وتطور الفنون.

7 – الحاجات المعرفية (Cognitive needs)

وتشمل الحاجة إلى المعرفة والفهم والاستكشاف، وقد أكد ماسلو على أهمية هذه الحاجة فيما يخص الإنسان، بل والحيوان. وهي في تصوره تأخذ أشكالا متدرجة تبدأ في المستويات الأدنى بالحاجة إلى معرفة العالم واستكشافه بما يتسق مع إشباع الحاجات الأخرى، ثم تتدرج حتى تصل إلى نوع من الحاجة إلى صياغة الأحداث في نسق نظري مفهوم، أو خلق نسق معرفي يفسر العالم والوجود. وهي في المستويات الأعلى تصبح قيمة يسعى الإنسان إليها لذاتها، بصرف النظر عن علاقتها بإشباع الحاجات الأدنى.

الحاجات الدنيا في مقابل الحاجات العليا

ويفرق ماسلو في نظريته بين نوعين من الحاجات:

الحاجات الدنيا التي تشمل الحاجات الفسيولوجية وحاجات الأمان والحب والانتماء والتقدير.

وهذه الحاجات تتسم بأنها تخدم إشباع حالات النقص التي يحسها الكائن الحي، وتهدف إلى خفض التوتر الناشيء عن هذا النقص. وعند هذا المستوى من الحاجات يكون الإنسان في حالة اعتماد على الآخرين أو الأشياء الخارجية التي يرتبط بها إشباع حاجاته، ويكون مجرد مستجيب لما حوله يغلب على سلوكه طابع رد الفعل للمؤثرات: لضغوط الحاجات… للثواب والعقاب والألم والخوف من فقد مصادر الإشباع. وعموما يمكن وصف سلوكه في هذا المستوى بأنه أميل إلى النكوص والدفاعية والاعتماد.

ومن ناحية أخرى هناك الحاجات العليا وهي تتمثل في حاجات تحقيق الذات أو تجاوزها، وتبدأ في الظهور بعد أن يتحقق قدر كاف من إشباع الحاجات الأدنى. وهي لاتدفع في اتجاه إشباع نقص ما… وإنما تدفع في اتجاه نمو وتطور نحو قيم وحاجات عليا. وإشباع هذه الغايات بأي درجة لا يؤدي إلى خفض التوتر وتوقف الدافع كما هي الحال مع الحاجات الأدنى وإنما قد يزيد من شدة الدفع نحو المزيد من السعي. عند هذا المستوى من الحاجات يكون الإنسان أكثر استقلالا في تفاعله مع بيئته، ويكتسب المبادرة، ويصبح سلوكه متوجها نحو حالات أرقى من الوجود.

وماسلو يرى أن الحاجات الإنسانية لها طابع غريزي مؤكد، ولكنه لا يعتبرها غرائز بالمعنى الكامل للغريزة (أي ذلك النوع من الاستجابات المحددة سلفا بشكل كامل ومستقل عن أي تعلم مكتسب، وهو ما يعرف في سلوك الحيوانات الأدنى من الإنسان) فالإنسان في رأي ماسلو لا يملك غرائز كاملة وإنما ميول غريزية، يتدخل التعلم والاكتساب في تشكيلها وصياغة صورتها الظاهرة إلى درجة كبيرة.


وفي مقابلته بين الحاجات الدنيا والعليا لايفصل ماسلو بينها بشكل استقطابي حاد. فالإنسان لا يكون إما في مرحلة الدوافع العليا وإما العكس، وإنما يمكن أن يكون سلوك الإنسان في وقت ما محصلة لتفاعل أو صراع النوعين من الدوافع.

ويحدد مدى نمو ونضج الشخصية أي الاتجاهين يغلب على تشكيل السلوك. وقد يسعى الإنسان نحو قيم وغايات عليا على رغم القصور الشديد في إشباع حاجات دنيا. ومثال ذلك الإنسان الذي يجاهد في سبيل مبدأ ما ويتحمل من أجله الجوع والألم وانعدام الأمان و…، ذلك أن الإشباع الناشيء عن الحاجات العليا يكون قد تقوى بدرجة تجعله قادرا على التضحية بالحاجات الأدنى، وعلى تحمل عدم إشباعها على نحول كامل ولفترات قد تطول.

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

طرق التربية بين الماضي والحاضر

لطالما كانت التربية أحد الأسس الرئيسية لتشكيل شخصية الإنسان وتطوير المجتمع. ومع تغير الزمن، شهدت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *