لغز الطاقة الكونية الداكنة

كان أول أنموذج واقعي للكون هو الأنموذج الذي وضعه الرياضي الروسي الكساندر فريدمان، عام 1922 على أساس المعادلات الأصلية غير المعدلة لاينشتاين في نظرية النسبية العامة. ويمكن القول ان هذا الأنموذج مازال هو الانموذج المعياري المتبع حتى يومنا هذا .

ويفترض هذا الانموذج أن مادة الكون متجانسة في توزيعها، وتعطي معادلات اينشتاين المجالية نتيجة مفادها أن الكون اما أن يكون مغلقا بحيث يتمدد من حالة النقطة المنفردة، حتى يصل حدا يتوقف عنده التمدد، ويبدأ بعدها الكون بالانكماش، واما أن يستمر بالتمدد الى ما لانهاية.

ويعتمد ذلك على كثافة مادة الكون. فاذا كانت دون حد معين ، يسمى الكثافة الحرجة، ظل الكون يتمدد الى ما لانهاية. أما اذا فاقت هذا الحد، توقف التمدد عند احد وبدأ الكون بعده بالانكماش.

ولكن، كيف نقيس كثافة مادة الكون؟

ابتداء كان هناك طريقتان تقدير عدد المجرات في الكون ومتوسط كتلها، أو قياس معدل تباطؤ تمدد الكون عبر مقارنة سرع المجرات البعيدة بسرع المجرات القريبة.

فالأولى تعبر عن سرعة تمدد الكون قبل مليارات السنين، في حين أن الثانية تعبر تقريبا عن الوضع الحالي لكن حركة المجرات وعناقيدها سرعان ما بينت أن الكون يعج بالمادة غير المرئية، وأن المادة المرئية أو المشعة لا تشكل سوى نسبة صغيرة من مجمل مادة الكون.

من ثم، برزت مشكلة تحديد كتلة المادة غير المرئية وطبيعتها، وتبين من دراسة نسبة الهيدروجين الثقيل في الكون أن جل هذه المادة من نوع مجهول يختلف نوعيا من المادة المألوفة التي تتكون منها المجرات.

ومن جهة أخرى، فقد ظلت عملية قياس بعد المجرات البعيدة جدا عنا تشكل معضلة كبرى طوال القرن العشرين، لذلك ، ساد الاعتقاد بأن مسألة حسم مآل التمدد الكوني مسألة جد معقدة وصعبة، وقد تكون أقرب الى المستحيل، لكن تطورات هائلة على الصعيدين النظري والتجريبي حدثت في نهاية القرن العشرين قلبت هذا الوضع رأسا على عقب.

لقد اتضح نظريا أن ما يسمى اشعاع الخلفية الذي يملأ الكون بصورة متجانسة يحمل في طياته معلومات كونية حول هندسة الكون وتوزيع المادة فيه وحالته الحركية.

لكن استخراج هذه المعرفة يستلزم دقة متناهية في القياس، الأمر الذي جعل الكثيرين في فترة من الفترات يعتقدون بان ذلك مجرد أضغاث أحلام نظرية، لكن العالم فوجئ، مع مطلع الألفية الثالثة، بابتكار أساليب جديدة للقياس مكنت العلماء من استخراج المعلومات الكونية اللازمة، وفي مقدمتها أن المكان غير منحن، اي مستو، بمعنى أنه يطيع هندسة أقليدس المستوية، وكأنه سطح مستو في ثلاثة أبعاد، وهذه النتيجة تدعم نظرية الانتفاخ الكوني.

فهلي تؤكد أن كثافة مادة الكون تساوي الكثافة الحرجة تماما بالضبط كما تتنبأ النظرية المذكورة.

لكن القياسات ذاتها تشير الى أن المادة الكتلية ، سواء كانت مرئية او غير مرئية، لا تتجاوز نسبتها الثلاثين بالمائة من الكثافة الحرجة.

ما طبيعة السبعين بالمائة المتبقية؟

ومن جهة اخرى، بدأت تطبق في نهاية الألفية الثانية، طرائق قياس في غاية الدقة علي المجرات البعيدة، وكم كانت المفاجأة كبيرة حين تبين أن التمدد الكوني اخذ بالتسارع، وذلك بعكس التوقعات جميعا.

اذ كان هناك اجماع على تباطؤ التمدد الكوني، وانصب الاختلاف على مدى هذا التباطؤ. لكن النتائج جاءت مغايرة لكل التوقعات.

والسؤال هو: ما الذي يدفع التمدد الكوني إلى التسارع، وكيف يرتبط ذلك بكون المكان غير منحن؟!

إن تسارع تمدد الكون يدفعنا لا محالة إلى فكرة أن الكون لا يحوي المادة الكتلية الجاذبة شبه المألوفة فقط، وإنما يحوي أيضا مادة غريبة نافرة، إن جاز التعبير، بمعنى أنها تؤثر بمجال جاذبي تنافري يدفع المكان إلى التسارع في تمدده بدلا من التباطؤ.

وقد أسميت هذه المادة الغريبة حقا الطاقة الداكنة. وفي ضوء التحليل أعلاه، فإن السبعين بالمائة المتبقية من مادة الكون المشاراليها أعلاه هي طاقة داكنة تدفع تمدد الكون إلى التسارع ومن ثم، فإن المادة المرئية لا تشكل سوى خمسة بالمائة من مادة الكون، في حين تشكل المادة غير المرئية الجاذبة حوالي خمسة وعشرين بالمائة ، اما حصة الأسد فتذهب إلى الطاقة الداكنة المسرعة للتمدد.


ولكن، ما هي بالضبط هذه الطاقة الداكنة؟

هناك العديد من الأفكار النظرية في هذا الصدد. فهناك من يقول إنها طاقة الخلاء، التي تتمظهر على صورة ثابت كوني في معادلات آينشتاين المجالية، وهذا الثابت هو المسؤول عن التسارع المشار إليه.

وهناك من يقول إنها مادة من نوع جديد، وقد أطلقوا عليها اسم الخلاصة أو الزبدة. ولا ندرى بالضبط ما هي، فالدراسات في هذا المضمار ما زالت في بداياتها وتعد بمفاجآت مذهلة لن يطول أمد تحققها.

الدكتور هشام غصيب

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

انفجارات النجوم العملاقة لوثت الأرض بالنظائر المشعة

كشفت أبحاث فلكية حديثة أن الأرض تعرضت لرشقات من النظائر المشعة نتيجة انفجارات نجوم عملاقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *