إن المتدبر لقوله تعالى: ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ” ـ الملك: 2 ، يقف طويلا” متفكرا” أمام قوله تعالى: ” الذي خلق الموت والحياة” ، ويدور في فكره مجموعة من التساؤلات منها: كيف يخلق الموت وهو فى ذاته العدم ؟ وكيف يستقيم لفظ الخلق مع الموت ، ومن المعروف ان الخلق هو استحداث شيء على غير مثال سابق من العدم؟ ولماذا جاء خلق الموت سابقا” لخلق الحياة ؟ وأخيرا” لماذا جاء تزامن الموت والحياة معا”؟ الحقيقة ان العلم الحديث أستطاع الإجابة عن بعض هذه الأسئلة ، وعجز عن الإجابة عن البعض الآخر ، فقد أكتشف العلم الحديث ظاهرة ما يعرف باسم “موت الخلية المبرمج” او “انتحار الخلية” أو “الأستموات” ، وهى ظاهرة عرفت عام 1972 ، واشتق اسمها من اللغة الإغريقية القديمة بمعنى: “سقوط الأوراق” ، كناية عن فصل الخريف .
وهذه ظاهرة هامة ونشطة ، تحدث في الصحة والمرض ، ويعتمد عليها الجسم في التخلص من الخلايا الشاذة ، أو غير المرغوب فيها ، أو التي انتهى دورها بأداء وظيفة معينة ، وهى ظاهرة تحدث فى خلايا منفردة ، او فى جمع من الخلايا السليمة ، وكمثال على حدوثها طبيعيا” ما يحدث في مراحل النمو والتمييز الجنينى ، حيث تكون هذه الظاهرة مسئولة عن تخلص طور ابو ذنيبة من ذنبه وتحوله الى ضفدعة ، وكذا التخلص من الخلايا التائية لتثبيط تفاعلها المناعي على غدة التيموس ، وكذا ضمور وانكماش بعض الأنسجة المعتمدة على النشاط الهرموني ، مثل التخلص من الطبقة المبطنة للرحم مع كل دورة شهرية فى الأنثى .
أما في المرض ، فيحدث “موت الخلية المبرمج” أو “انتحار الخلية” ، عند تعرض الخلية للإشعاع ، أو الإصابة بالفيروسات ، كما يعتمد معدل نمو الأورام السرطانية على العلاقة بين معدل حدوث موت الخلية المبرمج ومعدل تكاثر الخلايا السرطانية .
وظاهرة موت الخلية المبرمج أجابت عن السؤال الأول: هل للموت خلق ؟ فكانت الإجابة: نعم ، فقد اكتشف العلم الحديث أن الموت والحياة يوجدان متزامنين داخل الخلية الحية ـ منذ بداية تكونها ـ وان عملية انتحار الخلية يحدث بسبب تسارع عمليات حيوية متتابعة داخل الخلية ، تشمل تغيرات جزيئية ، ينتج عنها تنشيط مجموعة من الأنزيمات الهدامة تسمى “إنزيمات الموت” ، والتي تتواجد في الخلية ـ منذ خلقها ـ في صورة أولية غير نشطة ، أي أن الخلية تحمل عوامل موتها وفنائها ، جنبا” إلى جنب ، مع عوامل حياتها وبقائها ، وهو ما يمثل تزامنا” حقيقيا” بين الموت والحياة ، كما أشارت إليه الآية القرآنية المعجزة ، وكما تزامن ذكر الموت والحياة في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز ، مثل قوله تعالى: ” وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ” ـ النجم: 44 .
فموت الخلية المبرمج يمر بأطواركما تمر مراحل حياة مصدر خارجي عن طريق تنشيط ما يعرف باسم “مستقبلات الموت” والتي وهى مستقبلات (بروتينات) تتواجد على السطح الخارجي لجدار الخلية ، وهذه المستقبلات تتبع لعائلة مستقبلات عامل نخر الأورام المعروفة في الطب ، والمميزة باحتوائها على الطور الأول، ويسمى “طور ما قبل الموت” ، وهو الطور الذي يتميز بتنشيط (إنزيمات الموت) ، الموجودة داخل الخلية في صورة أولية غير نشطة ، ويبدأ هذا الطور بتلقي الخلية أشارات من مصدرين أساسيين متفقين على هدف واحد ، هو قتل الخلية.
لقد عرف العلم الحديث ، أن عملية موت الخلية المبرمج تمر بطور يسمى “طور الإعدام” ، وفيه تقوم إنزيمات الموت المنشطة بعملية قتل للخلية ، حيث يكون من مصدر داخلي عن طريق الحبيبات الخيطية للخلية (الميتوكوندريا) ، فعن طريق زيادة نفاذيتها ، وإطلاق جزيئات ما قبل الموت إلى سائل الخلية الخلوي ، بدون مشاركة من مستقبلات الموت المتواجدة على الجدار الخارجي للخلية ، وهذه الحتمية فى الموت أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ” نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ” ـ الواقعة: 60 ، وقوله تعالى: ” قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ” ـ الجمعة: 8
فعملية الإعدام تلك تتم عن طريق مجموعة من إنزيمات تكسير البروتينات ، وهى إنزيمات لها المقدرة على تكسير أنواع معينة من البروتينات الحيوية ، اللازمة لبقاء الخلية ، مثل تكسير البروتينات النووية ، وقد عرف حتى الآن اكثر من 10 أنواع من بروتينات الإعدام ، والتي تقسم وظيفيا” إلى بروتينات مبدأه الإعدام (مثل برتين كاسباز ـ 8 ، وكاسباز ـ 9) ، وبروتينات منفذة للإعدام (مثل بروتين كاسباز ـ 3 ، وكاسباز ـ 6 ) ، وقد اكتشف العلم حتى الآن تكسر الحمض النووي (الشفرة الوراثية) لأكثر من 50 ـ 300 جزيء كبير ، والتي تنقسم مرة أخرى إلى 180 ـ 200 زوج قاعدي بواسطة إنزيمات محتوية على عنصري الكالسيوم والمغنيسوم ، كذلك فقد اكتشف العلم دخول الدهنيات الفسفورية في تكوين جدار الخلية المنتحرة الخارجي ، مما يجعله يعمل كالطعم ، يقود إليه الخلايا الأكولة ، فتقوم بالتهام الخلايا المنتحرة ، بدون حدوث تفاعلات التهابية في الخلايا المجاورة .
والسؤال الخطير: هل يمكن أن يفترض العلم الخلود للخلية وبالتالي للحياة؟ وللإجابة على هذا السؤال ، دعونا نتخيل أن هناك وسيلة ما عطلت عمل إنزيمات طور الإعدام داخل الخلية ، فعطلت بالتبعية عملية موت الخلية المبرمج ، عندئذ لا يصيب الخلية مرض أو شيخوخة أو موت ، بل حياة وشباب وخلود ، وهو ما سيحدث عند البعث وأشار إليه قوله تعالى: ” لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ” ـ الدخان: 56 ، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في حال أهل الجنة:”ينادى مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وان لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وان لكم ان تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وان لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا” ـ رواه مسلم ، وهكذا يتطابق العلم الحديث والدين في أهم قضية أزلية شغلت الإنسان ، وهى قضية الحياة والموت والخلود .
دكتور/صلاح احمد حسن
أستاذ العيون بطب أسيوط ـ مصر وعضو المجمع العلمي للقرآن والسنة