منذ خمسينيات القرن الماضي شهدت مدينة لندن تكون لضباب يختلف عن الضباب التقليدي الطبيعي، إذ أن هذا الضباب بسبب تراكم كميات كبيرة من الدخان الصناعي الناجم عن حرق الفحم الحجري ، ومنذ ذلك التاريخ ظهر مصطلح الدخان الفوتوكيميائي (Photochemical) أو الصناعي والذي يعبر عن تلك الملوثات المتشكلة في المناطق الصناعية بل وأبعد من ذلك بفضل التيارات الهوائية المختلفة والأهم أن عمر هذا الدخان الصناعي أو مخلفاته في الغلاف الجوي قد يتراوح من عدة أيام إلى عدة سنوات…. الدخان الصناعي بشكل عام ينتج عن تفاعل أشعة الشمس مع أكاسيد الآزوت ومع المركبات العضوية القابلة للتطاير في الغلاف الجوي، ونتيجة هذا التفاعل يتشكل الأوزون (Ozone) والمعلقات (الأيروسول) Aerosol الصناعية.
غاز الأوزون
الأوزون كما هو معروف جزيئه تقي الإنسان من أشعة الشمس فوق البنفسجية UV الضارة والتي تسبب سرطانات الجلد وغيرها. يوجد الأوزون في طبقة محيطة بالكرة الأرضية على ارتفاع 25 كم (أي في طبقة الستراتوسفير)…لنتخيل مدى هذه الارتفاعات والأبعاد يمكن أن نتذكر فقط أن الطائرات المدنية تطير على ارتفاعات 9-10 كم وبقية الطائرات وخلافه حتى 50 كم، الأقمار الصناعية المخصصة للبث التلفزيوني والإذاعي 250-300 كم، المحطات الفضائية 300-400 كم، الأقمار الصناعية المنخفضة 700-1500 كم، الأقمار الصناعية المرتفعة قرابة 36000 كم.
المهم أن الأوزون في طبقة الستراتوسفير مفيد جداً وصديق للبيئة ولكن في طبقة التروبوسفير وتحديداً في الطبقة الحدية التي نعيش فيها فهو ضار، بل وضار حداً وبالدرجة الأولى لجهاز التنفس وذلك لكونه فعال كيميائياً فهو ليس إلا جزيئة من ثلاث ذرات أكسجين O3 …. ووفقاً للمعايير الدولية (مؤشر نوعية الهواء Air Quality Index) فإن تركيز الأوزون في الهواء الذي نتنفسه يجب أن لا يزيد عن 85 ppb أي مايعادل 0.0000085 % ولمدة قصيرة لاتتجاوز الساعة…. ولنتخيل مقدار هذه القيمة لنتذكر فقط أن الهواء يتكون من 78% نيتروجين، 21% أكسجين، والـ 1% المتبقية يشكلها الكثير من الغازات المعروفة (أرغون، ثاني أكسيد الكربون، نيون، هيليوم، كريبتون، اكسينون، هيدروجين،…..) هذا بالاضافة إلى بخار الماء (رطوبة الغلاف الجوي) والمعلقات (الأيروسول) ولكن الطبيعة وليست الصناعية المذكورة أعلاه……. فتخيلوا مدى خطورة الأوزون وبهذه النسبة الضئيلة….. أما عن مصادر الأوزون الطبيعية وخواصه الأخرى والأهم انقسام العلماء بسببه فهو موضوع ممتع حقاً وربما يكون لنا عودة إليه ولكن الأهم الآن متابعة موضوع الضباب والقسم الثاني منه: المعلقات الصناعية وتأثيرها.
تصنف المعلقات إلى طبيعية (غبار، أملاح بحرية، مقذوفات براكين،…..) وصناعية (دخان صناعي،…… ). تلعب المعلقات دوراً كبيراً في الكثير من الظواهر الطبيعية: فهي نوى لتكثف البخار وتشكل الغيوم، تسبب الأمطار الحامضية التي تقضي على الغطاء النباتي، تحدد مدى الرؤية في الغلاف الجوي.
المعلقات ذات الأقطار أكبر من 10 ميكرومتر لا تبقى في الغلاف الجوي لأكثرمن ساعة وذلك بسبب الجاذبية، بينما المعلقات ذات الأقطار الصغيرة (أقل من 1 ميكرون) قد تبقى لعدة أسابيع ويتم التخلص منها بواسطة الأمطار.
إذا علمنا أن شعيرات الأنف والحلق يقومان بتصفية المعلقات ذات الأقطار الكبيرة فقط (أكبر من 10 ميكرومتر) فلنتخيل مدى تأثير المعلقات ذات الأقطار الأصغر والتي نتنفسها مع الهواء وذلك من خلال الحقائق التالية:
1 المعلقات ذات الأقطار 10 ميكرومتر تستطيع الوصول إلى القصبات الهوائية.
2 المعلقات ذات الأقطار 2.5 ميكرومتر تستطيع الوصول إلىالرئتين.
3 المعلقات ذات الأقطار 1 ميكرومتر تستطيع الوصول إلىالشعب الهوائية.
4 المعلقات ذات الأقطار 10 نانومتر تستطيع اختراق جدران الخلايا والوصول إلى خلايا الدماغ.
كل الانواع الأربعة المذكورة أعلاه ذات خطورة هائلة على صحة الإنسان بدرجات مختلفة تتحدد بشكل أساسي بالتركيب الكيماوي لهذه المعلقات (طبيعية أم صناعية) وتسبب السرطانات وأمراض الجهاز التنفسي المختلفة ولكن الأخطر هو النوع الرابع من هذه المعلقات والذي ينتج بشكل رئيسي من محركات الديزيل ويسبب أمراضاً أعراضها تشبه أعراض مرض ألزهايمر Alzheimer.
تأثير الملوثات على الوسط المحيط يمكن تصنيفه إلى نوعين: سمي و مناخي. فأما التأثير السمي فيظهر ليس فقط على الأحياء (انسان، حيوان، نبات) بل على غير الأحياء (أبنية، تجهيزات)
أما التأثير المناخي فيمكن تصوره من خلال الظاهرة المهمة التالية: بركان بيناتيبو Pinatubo في الفيليبين، والذي كان خامداً لأكثر من 460 سنة، بدأ بالنشاط منذ عام 1991. نتيجة هذا النشاط تم قذف ملايين الأطنان من الغازات والسوائل والأجسام الصلبة. التأثيرات المحلية لهذا النشاط البركاني كارثيه ولاشك ولكن الملاحظ أنه وخلال ثلاث سنوات بدءاً من عام 1991 تم ملاحظة انخفاض نسبة الأشعة الشمسية الواردة إلى سطح الأرض من 94% (وهي الحالة المستقرة الناتجة عن تأثير الغلاف الجوي) إلى 82%
هذه الملاحظة مبنية على قياسات محطة الرصد الموجودة في مدينة تومسك (سيبيريا) وكذلك محطة معهد ماكس بلانك (هامبورغ)…. أي في مناطق بعيدة جداً عن الفيليبين
التفسير هو أن الغازات المتصعدة من البراكين (مركبات الكبريت، أكاسيد النيتروجين، ..) ترتفع مع تيارات الحمل الحراري عالياً إلى طبقة الستراتوسفير وأثناء صعودها تتحد مع بخار الماء لتشكل غيوم من القطرات الشفافة وهي قطرات مستقرة في هذه الظروف الجوية بحيث أن فترة حياتها طويلة وذات أقطار توازن تبدد أشعة الشمس وتسبب الظاهرة التي تم ملاحظتها.
لذلك فعمر الملوثات في بعض الأحيان أهم من مدى سميتها: فلنتخيل فقط أن أحد أكاسيد النيتروجين وهو N2O) عمره أكثر من 25 سنة (مركب غير سام الإنسان لكنه مع الأمطار يشكل الأمطار الحامضية التي تقضي على الغطاء النباتي)، الميتان (CH4) أكثر من أربع سنوات (غاز طبيعي بنسبة 95-98% وفقط من 2-5% ناتج عن الملوثات)، أول أكسيد الكربون (CO) أكثر من ثلث عام (غاز يسبب تحلل الدم وهو ناتج عن محركات الاحتراق الداخلي بنسبة 50% وأما المصادر الطبيعية له (50% المتبقية) فمن البراكين، حرائق الغابات، وتحلل المواد العضوية. التركيز المسموح به للإنسان هو 0.8 ppm أي ما يعادل 0.00008% من الهواء الذي نتنفسه).
كما ذكرنا أعلاه فإن الأوزون في طبقة الستراتوسفير صديق للبيئة لأنه يحمي الإنسان من الأشعة فوق البنفسجية الضارة، ولنتحدث قليلاً عن هذا الموضوع.
من المعروف أن الطيف المرئي لعين الإنسان يمتد من اللون الأحمر (طول موجة حوالي 750 نانومتر) وحتى اللون الأزرق (طول موجة حوالي 300 نانومتر)، إلا أن أشعة الشمس التي تصل إلى سطح الأرض تحتوي بالإضافة لذلك الأشعة تحت الحمراء (يرمز لها بـ IR اختصاراً لعبارة Infrared، طول موجة أكبر من 900 نانومتر) وكذلك الأشعة فوق البنفسجية (يرمز لها بـ UV اختصاراً لعبارة Ultraviolet، طول موجة أصغر من 300 نانومتر). وهذه الأخيرة (الأشعة فوق البنفسجية) خطورتها عالية جداً وذلك لكون طاقتها ( أو بالأحرى طاقة الفوتون) عالية جداً وتقترب من طاقة الروابط بين الجزيئات، أي أنها قادرة على تأيين بل وتفكيك هذه الجزيئات، ومن هنا تنبع قدرتها على التسبب بالسرطانات
بشكل عام تقسم الأشعة فوق البنفسجية، حسب تأثيراتها البيولوجية، إلى ثلاث أقسام رئيسية:
1. الأشعة فوق البنفسجية A: طول موجتها من 380 وحتى 315 نانومتر.
2. الأشعة فوق البنفسجية B: طول موجتها من 315 وحتى 280 نانومتر.
3. الأشعة فوق البنفسجية C: طول موجتها أصغر من 280 نانومتر.
تقوم طبقة الأوزون بتصفية النوع الثالث والثاني بشكل أساسي لكونهما الأخطر، ويبقى النوع الأول الذي يشكل أكثر من 99% من الأشعة فوق البنفسجية التي تصل إلى سطح الأرض. بينما النوع الثالث هو المسؤول عن تشكل الأوزون في الطبقات العليا من الغلاف الجوي وذلك نتيجة تفاعله مع أكسجين الغلاف الجوي، وهنا يبدأ انقسام العلماء حول الأوزون: فهل هو الذي يحمي الإنسان أم الأكسجين؟
الأمر المهم هو أن منحني امتصاص جزيئات الـ DNA للأشعة فوق البنفسجية له قمتين: الأولى حوالي طول الموجة 265 نانومتر والثانية حوالي 185 نانومتر وهي الأقوى، نتيجة هذا الامتصاص تتفكك جزيئات الـ DNA وتتأثر الشيفرة الوراثية وهنا يبدأ السرطان.