أ.د. كاظم المقدادي
أدى التزايد السريع في معدلات الهجرة من المناطق الريفية الى المناطق الحضرية الى خلق مشكلات إقتصادية وإجتماعية وبيئية متنوعة،لأن البنية الأساسية وإقتصاديات المناطق الحضرية لم تتمكن من إستيعاب هذه الزيادة.
وفي غالبية الأحوال إستقر المقام بمن هاجروا من القرية الى المدينة في مناطق فقيرة مزدحمة بالسكان ومناطق هامشية وعشوائية يقطنها السكان بوضع اليد.وهذه المناطق أو الجيوب التي يطلق عليها جميعها تعبير ” المناطق العشوائية” تشترك في عدة صفات، أهمها الكثافة السكانية العالية والمكدسة في منازل دون المستوى، النقص في مياه الشرب وفي خدمات الصرف الصحي المناسبة، والنقص في الطرق الممهدة، ونقص عمليات جمع القمامة كلية او لدرجة كبيرة، نقص الخدمات العامة، خاصة الخدمات الطبية الأساسية والتعليمية والمواصلات وإنتشار البطالة والأمية.
ولقد أدت المشاركة في هذا البؤس الى تحويل معظم هذه المناطق الى مجتمعات شبه كغلقة أصبحت تشكل مصادر رئيسية لأعمال غير مشروعة، مثل الإتجار بالمخدرات والأدمان والسرقة وغيرها، بالإضافة الى ذلك ترتفع في هذا المناطق معدلات الصابة بالأمراض نتيجة التلوث البيئي.
ويلعب تدهور الأراضي الزراعية دوراً هاماً في تشجيع الهجرة خارج الحدود الوطنية.فعلى سبيل المثال تركت أعداد متزايدة من المزارعين المصريين أراضيهم ومهنتهم الأصلية ( فلاحة الأرض) لمزاولة أعمال أخرى أكثر ربحية في دول المهجر، مما أدى الى إنخفاض العمالة الزراعية وإرتفاع أجورها وترك اَثاراً سلبية على المزارع والتجارية الصغيرة.
وفي المناطق التي يصيبها الجفاف المتكرر أو طويل المدى أدى تدهور إنتاجية الأراضي الزراعية والمراعي الى إنتقال مئات الآلاف من الرعاة الرحل مسافات طويلة.فعندما أصيبت منطقة الساحل الأفريقي،مثلاً، بفترات الجفاف الطويلة في السبعينات من القرن الماضي إنتقل كثير من هؤلاء “اللاجئين البيئيين” عبر الحدود الوطنية الى دول في غرب أفريقيا، حيث إستقروا في مدن الصفيح أو الأحياء الفقيرة. ولم يتم التمكن كثير منهم من البقاء على قيد الحياة، فلقد ساهم الجوع والأمراض المعدية في الأسراع بوفاة مئات الآلاف.وتشير تقديرات متحفظة الى ان جملة الوفيات المرتبطة مباشرة بالجفاف وتدهور الأرض في أفريقيا بلغت نحو نصف مليون نسمة بين عامي 1974 و 1984.
وتقدر الخسائر المادية للتصحر في العالم بنحو 42 مليار دولار سنوياً، منها 9 مليارات في أفريقيا، 21 مليار في اَسيا، 3 مليارات في أوستراليا، 1.5 مليار دولار في أوربا، 4.8 مليارات في أميركا الشمالية، ونحو 3 مليارات في أميركا الجنوبية.
هذا وقد حذرت دراسة للامم المتحدة من ان التصحر قد يخرج عشرات الملايين من الاشخاص من ديارهم، غالبيتهم من أفريقيا جنوب الصحراء ووسط اسيا.وبينت الدراسة الصادرة عن جامعة الامم المتحدة والتي تقع في 46 صفحة ان النازحين بسبب التصحر يشكلون ضغوطا جديدة على الموارد الطبيعية وعلى المجتمعات الاخرى القريبة، ويهددون الاستقرار الدولي.وقال ظفار اديل- المحرر الرئيسي في الدراسة ورئيس الشبكة الدولية للمياه والبيئة والصحة التابعة لجامعة الامم المتحدة : ” هناك سلسلة من التفاعلات… تؤدي الى اضطراب اجتماعي”.
وحثت الدراسة الحكومات على ايجاد سبل لابطاء زحف الصحاري، الذي تسببه عوامل، مثل تغير المناخ، وانهاك الاراضي بالافراط في استخدامها. وقالت الدراسة ان وسيلة افضل لزراعة المحاصيل والغابات بالقرب من الاراضي الجافة يعتبر اجراء بسيطا يساعد على وقف التصحر.
وقالت الدراسة :” ظهر التصحر كازمة بيئية على مستوى عالمي، وحاليا يؤثر على ما يقدر بنحو 100 الى 200 مليون شخص، ويهدد حياة ومصادر ارزاق عدد اكبر بكثير”.
وجاء في الدراسة “فقدان التربة للانتاجية وتدهور انشطة دعم الحياة التي تقدمها الطبيعة تشكل اخطارا وشيكة على الاستقرار الدولي”.واستقت الدراسة مادتها من عمل 200 خبير في 25 دولة.وذكرت الدراسة ان 50 مليون شخص بما يعادل عدد سكان جنوب افريقيا او كوريا الجنوبية معرضين لاحتمال الاضطرار الى ترك منازلهم بسبب تصحر لا يمكن السيطرة عليه في العقد القادم.
وقال اديل: “اكبر منطقة هي على الارجح الصحراء الكبرى في افريقيا حيث ينتقل الناس الى شمال افريقيا او الى اوروبا… المنطقة الثانية هي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في وسط اسيا”.ومضى يقول ان من الصعب عزل التصحر عن عوامل اخرى تجعل الناس يتركون اماكن سكناهم، مثل الفقر او الصراعات المسلحة.وقال ان اقليم دارفور في السودان هو أحد الامثلة.ويقول خبراء دوليون ان نحو 200 الف شخص لقوا حتفهم وان 2.5 مليون شخص نزحوا عن ديارهم في اربع سنوات من الصراع.
يقول السودان ان 9000 شخص ماتوا.وحث التقرير الحكومات على تنسيق الجهود قصيرة الامد غالبا لوزارات الاقتصاد والزراعة والبيئة لمكافحة التصحر.وقد تستطيع عمليات زراعة محاصيل محسنة وغابات في الاراضي الجافة التي تغطي أكثر من 40 في المئة من الاراضي في الكرة الارضية ابطاء التصحر وتساعد ايضا في التصدي لارتفاع درجات حرارة الكوكب الذي تتحمل الغازات المنبعثة من استخدام الوقود الحفري جانب كبير من مسؤوليته.وتمتص النباتات ثاني اكسيد الكربون العامل الاساسي الذي يسبب ظاهرة الاحتباس الحراري خلال عملية التمثيل الغذائي. ولكن هذا الغاز ينبعث منها عند حرقها او تعفنها.وقد يطور سوق الكربون آليات مالية لدعم الاتجاه الى زراعة الاراضي الجافة.
والحقيقة أن هذا الاكتظاظ البشري، المتمركز في المدن الكبيرة العملاقة، إنما يستهلك كميات كبيرة جداً من طاقة الأرض، بغية ضمان استمرار البنى التحتية وتدفق النشاط البشري اليومي. ولكي نضع هذا في سياقه، فلنضرب له مثلاً بمبنى “برج سيرز” وحده، مع العلم أنه أحد أطول أبراج العالم قاطبة. ذلك أنه يستهلك كمية من الكهرباء في اليوم الواحد، بما يزيد على الاستهلاك الكهربائي لمدينة “روكفورد” كلها في ولاية إلينوي، مع العلم أن عدد سكانها هو 152 ألف نسمة.
والأكثر إدهاشاً من ذلك، أن نوعنا البشري، يستهلك اليوم ما يقارب نسبة 40 في المئة من إجمالي حجم الإنتاج في كوكب الأرض، أي إجمالي الطاقة الشمسية التي يحولها النبات إلى مواد عضوية، بواسطة عملية التمثيل الضوئي. نحوز نحن البشر على كل هذه النسبة الهائلة، على رغم حقيقة أننا لا نمثل سوى 1 في المئة فحسب، من إجمالي الكتلة البيولوجية في كوكب الأرض. وبذلك فإننا لا نترك سوى النزر اليسير جداً من تلك المواد، كي تستهلكها الكائنات الحية الأخرى للحفاظ على بقائها وأنواعها!
أما الوجه الآخر لعملية التحول الحضري هذه، فيتمثل في ما نخلفه وراءنا، ونحن نتجه صوب عالم مؤلف من مبانٍ مكتبية شاهقة، يبلغ ارتفاعها مئات الطوابق، وكذلك من مساكن جد مرتفعة، ومن الإضاءة الصناعية والتوصيلات الإلكترونية… إلى آخره. لذا فليس من غرابة أن يدل اتجاهنا نحو هذا العالم الحضري الجديد، على اقترابنا من تخوم تاريخية جديدة، تتمثل في انقراض الحياة البرية من حولنا. فكلما ازدادت الكثافة السكانية، وازداد تبعاً لها استهلاكنا للغذاء والماء ومواد البناء، وكلما انبعجت المدن وتمددت، كلما ازداد زحفنا على ما تبقى من حياة برية، دافعين إياها حثيثاً صوب الانقراض.
وكما يحدثنا العلماء، فإن من المتوقع أن تزول من على وجه الأرض، ظواهر الحياة البرية تماماً، خلال فترة حياة أطفالنا الحاليين، مع العلم أن هذه الظواهر، قد وجدت على الأرض منذ ملايين السنين. وللبرهنة على صحة هذه النبوءة العلمية، فلك أن تنظر إلى ذلك الطريق السريع المار عبر منطقة غابات الأمازون المطرية كلها. فهو يسرع بإزالة وانقراض تلك المواطن الطبيعية الفسيحة، التي تؤوي أنواعاً نادرة وفريدة من كائنات الغابات المطرية المنتشرة في تلك المنطقة. وبالمثل تمضي إزالة مظاهر الحياة البرية، يوماً إثر الآخر، في مناطق قصية نائية، تمتد من بورنيو إلى غابات حوض الكونغو، مفسحة بذلك المجال للنهم البشري، الباحث عن الحياة والمساحات والموارد الجديدة.
وبعد فهل ثمة عجب فيما قاله إي. أو. ويلسون- أستاذ البيولوجيا في جامعة هارفارد، من أننا نشهد أعتى موجات الانقراض العام للأنواع الحيوانية، التي حدثت في الـ65 مليون عاماً الماضية؟
فاليوم نشهد انقراض ما يتراوح بين 50 إلى 150 كائناً يومياً، أي نحواً من 18 ألفاً إلى 55 ألفاً منها سنوياً. ولذلك فإن المتوقع انقراض ثلثي المتبقي من الكائنات الحية بحلول عام 2100. فما عليك إلا أن تتأمل وتنظر عار ما نفعله نحن البشر!.