بقلم :- زيد ابوزيد
إن عملية النهوض عملية شمولية تتداخل فيها، وفي الآن الواحد، مختلف اللحظات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية.ومع ذلك يبقى للتربية أهمية خاصة كونها معنية ببناء الوعي ونشر الثقافة وتشكيل الإنسان. لقد بقيت التربية العربية تسبح خارج محيط المشاريع النهضوية، ولم تحظ بالاهتمام والعناية من قبل المنظرين والمفكرين، وبتأثير هذه القطيعة بين التربية وفكر النهضة، بقيت أفكار النهضة وطموحاتها أسيرة النخب السياسية والصفوة الاجتماعية، التي لم تستطع أن تشكل وعياً لدى الجماهير بقضايا الأمة ومفاهيمها، ومن هنا بقيت هذه الأفكار سجينة ولم تستطع أن تمارس دورها ، أو أن تجد صداها الاجتماعي الكبير الذي يمكنه أن يكفل لها تدفق طاقة روحية واجتماعية تحصنها ضد مختلف الصدمات والاختناقات التاريخية.من هنا نعتقد اليوم بأن الإشكالية التاريخية لقضايا النهضة والحداثة تتمثل اليوم في إمكانية بناء وعي جماهيري يخترق صفوف النخب الفكرية السياسية والاجتماعية، ليتحول إلى طاقة جماهيرية عامة، أي إلى قوة حقيقية فاعلة، ونعتقد في هذا السياق أيضاً أن جانباً من إخفاق الفكر التنويري والمشاريع النهضوية يعود إلى أن هذا الفكر النهضوي لم يستطع أن يتحول إلى حقيقية تربوية، ولم يجد طريقه إلى عقل ووجدان الشرائح الواسعة من الجماهير العربية التي يمكنها وحدها أن تحول هذه المشاريع النهضوية إلى واقع حقيقي ينبض بالحياة. فالوعي الجماهيري في نهاية الأمر هو الذي يمتلك زمام الحركة التاريخية، وهذا يعني أن الوعي التنويري يمكنه أن يتحول إلى قوة اجتماعية حقيقية، عندما يتأصل في عقول الجماهير، ومن هنا يتوجب على أي مشروع تنويري أو نهضوي أن يأخذ بعين الاعتبار أهمية الجوانب التربوية ، وأولويتها في تحقيق مشاريع التنوير والنهوض الحضاري، وإننا لعلى يقين بأن فكر النخبة أو الصفوة أو المثقفين لن يكون له وزن مهما بلغ شأنه إذ لم يستطع أن يتواصل مع وعي الجماهير، فالوعي النخبوي يقع خارج التاريخ حين ينكفئ على ذاته ويدور في أبراجه الذاتية، ويبقى الحسم لدائرة الوعي الجماهيري الذي يتمثل في وعي العاديين والبسطاء أي أصحاب القضية الحقيقيين.
واستناداً إلى ما سبق نؤكد ،أن الفعل الحضاري يجب أن يكون تربوياً بالدرجة الأولى، لأن التربية وبوصفها صيرورة إنسانية مشكلة للوعي، يمكنها أن تعيد بناء الوعي على صورته الخلاقة، ومن هنا يجب علينا أن نولي التربية اهتماما خاصاً،وأن نصبغها بصبغة الحداثة عبر بوتقة نهضوية حضارية ، وأن نعيد النظر في تصوراتنا ومشاريعنا بما ينسجم مع هذا التصور،الذي يؤكد أهمية التربية في بناء الوعي الجماهيري، وفي تشكيل العقلية الشعبية الجماهيرية، بما ينسجم مع التحديات التاريخية التي تهدد وجودنا ومستقبلنا ،فقد آن الأوان للنظام التربوي العربي حقاً ، كما يقول الأستاذ عبد الله عبد الدايم “أن يهجر التقليد، تقليد النموذج الغربي، وأن يهجر عملية الرصف والجمع، رصف القديم إلى جانب الجديد، ورصف الجديد إلى جانب القديم، وآن له في مقابل ذلك أن يشكل وينشأ نظاماً تربوياً ، عربي الوجه واليد واللسان، برؤية إنسانية جديدة في أصالتها، وإذا كان لكل زمن أفكاره وفلسفته، فالحقيقة أننا لا يمكن أن نعيش زمناً جديداً بأفكار قديمة، ولا يمكن أن ندخل إلى مجتمع جديد بلغة لا يعرفها مجتمعنا، ولا يمكن أن تسير حياتنا ببطء في وقت كسرت فيه ثورة المعلومات حدود الزمان والمكان، وتجاوزتهما إلى عالم لم يعد العالم فيه قرية صغيرة بل والكواكب أيضاً.
إذ “ليس للتربية معنى إن لم يكن هدفها بناء إنسان جديد، من خلال قيم إنسانية جديدة، تستمد زخمها من حصاد الثقافات العالمية الكبرى عبر القرون، وبالتالي ليس للتربية شأن إذا لم تولد إنساناً مؤمناً بالقيم الإنسانية من خلال إيمانه بذاته وثقافته ومن خلال إيمانه برسالة الإنسان على الأرض ، والتربية التي يقدمها المجتمع من خلال مؤسساته،والتربية التي لا تحقق الإيمان المطلق بالقدرة على التغيير ، والحق في الحرية والديمقراطية الحقيقية ،التي تنتصر بها الشعوب على مستغليها ، فالتربية عالم من الممارسة باتجاه المستقبل ،ومنهج للإستدلال على طريق الممارسة الصحيحة في الفعل الديمقراطي ، وهذا يقود إلى التعرف على التربية ، فما هي التربية ؟.
مفهوم التربية:-
البحث في اصل المفاهيم اللغوية ليس ترفا علميا بل هو محاوله منهجيه مشروعه ومهمة لفهم تطور مصطلح ما عبر تقاطعات الزمان والمكان، ومن المؤكد أن التوظيفات اللغوية ،تتغير مع الزمن وهنا تبدو الأهمية الكبيرة لاستخدام ألكلمه في سياقها وفقا للمعنى، ومع ضعف المضامين التي نجدها لمفهوم التربية في اللغة العربية المعاصرة,فان هذا لا يعفينا من العودة إلى اصل الكلمة الاشتقاقي ومقارنته مع الأصول اللغوية.
وهنا يتوجب علينا الإشارة إلى انه لا يوجد في الثقافة العربية تحديدات منفصلة أو تمايزا لغويا بين التربية كفعل وتربيه كفن والتربية كعلم،ويعود هذا كما أوضحنا إلى غياب التفكير النقدي المعاصر في مجال التربية والتعليم.
والتربية لغة : نشأ وترعرع ونقول ربي ، يربي ، وربا أي زاد ونما ، ربب الشيء أي أصلح الشيء.
أما جذور مفهوم التربية في اللغات اللاتينية والفرنسية والانجليزيه، فتعود كلمه تربيه إلى اصل اللاتيني والتي تدل على فعل- التربية- بمعناه الأولي المجسد، ويتفق معظم الباحثين إلى أن كلمه تربيه، مشتقه من كلمتين لاتينيتين، الأولى هو الفعل وهي تعني يغذي،أما الفعل الثاني فهو اخرج أو استخرج.
وفيما بعد هذه الكلمات تغطي مجالات سيكولوجية وتربوية وثقافية متنوعة، وأصبحت كلمه التربية ، تعني إعداد الطفل ذهنيا ونفسيا وعقليا.
أما مفهوم التربية في سياقه الفكري فيعني أن للتربية ضمن هذا السياق تعريفات عديدة، فهي تختلف باختلاف التيارات الفكرية التي يصدر التعريف عنها، فمنذ قرون تتوالد التعريفات للتربية لتواكب الأعمال الجارية، وقد أدى ذلك إلى تراكم التصورات ألقائمه للتعريف.
ومن هنا فإن للتربية تعريف منهجي يقوم على أسس موضوعيه وهي:-
1- الفلسفة التربوية التي تهيمن في مرحله تاريخية معينه.
2- طبيعة النظرة إلى الطبيعة الإنسانية.
3 -الاتجاهات السياسية الموجودة في السلطة.
4- التطورات العلمية المتتابعة ،التي تعدل في طبيعة النظرة إلى التربية.
5- البعد الذاتي للمفكرين والمنظرين، أي الإسقاطات لوجهات النظر الخاصة بكل مفكر على المنهج.
6- البعد الأيدلوجي ، الذي يمثل عامل مهم في الإسقاطات العقائدية .
وكل مجموعه من هذه العوامل، تشكل معادله مختلفة، تفرض نفسها في مجال التعريف الذي يعطي للتربية.
مفهوم التربية عند المثاليين:
تأخذ التربية عند المثاليين صبغة الجهد الإنساني الذي يهدف إلى هزيمة الشر، وكمال العقل,فسقراط يعرف التربية بأنها صياغة النفس الإنسانية وطبعها على الخير والشر،أما أفلاطون فيقول أن تربيه هي إعطاء الجسم والنفس كل جمال وكمال وهي تهدف إلى تحقيق التناسق بين النفس والجسد،ويقول المفكر الإسلامي العربي أبو حامد الغزالي عن فعل التربية هو الذي ينقي عقل المتربي وأخلاقه من الأفكار الضارة ويغرس مكانها الخلق والأدب ، ورؤية الغزالي تندرج في سياقها المثالي الذي يعطي الأولوية للجوهر الروحي والإنساني.
فالتربية في صيغتها المثالية هي الفعل الذي يمكن الأطفال من الوصول إلى أعلى درجات نضجهم وهي تسعى إلى أن تحقق للطفل ما يجب عليه أن يكون في المستقبل.
جان جاك روسو والنزعة الطبيعية في التربية:-
يرى أنصار ألنزعه الطبيعية بان التربية هي الحياة وأنها سعي مستمر لتفجير الطاقات الطبيعية, ويعبر عن هذه الرؤية جان جاك روسو بقوله المشهور”دعوا الطفولة تنضج في الأطفال.”
التربية السلبية عند روسو:-
يعلن روسو بأنه يجب علينا ألا نهتم بالإعداد العقلي للطفل ولا يجب أن ندفعه إلى التفكير أو أي مجهود عقلي ويجب أن ندع الطفل يتحمل النتائج الطبيعية لإعماله دون تدخل الإنسان.
التربية عند كانط:-
ويرى كانط أن الإنسان حر وخاضع للحتمية ،فهو حر إلى حد الذي يعد فيه روحا, وهو خاضع للحتمية إلى الحد الذي يكون فيه جسدا خاضعا للقانون الطبيعي.
وهدف التربية عنده أن تنمي عند الكائن كل ما يستطيعه من كمال ويعرفها بأنها عمليه تكوين وبناء للجسم وذلك لأن الإنسان لا يمكن أن يصبح إنساناً إلا بالتربية.
ومن هنا فمفهوم التربية :- هي مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني في الوقت نفسه التجدد المستمر لهذا التراث وأيضا للأفراد الذين يحملونه. فهي عملية نمو وليست لها غاية إلا المزيد من النمو، إنها الحياة نفسها بنموها وتجددها.
ونورد أيضاً بعض التعريفات للتربية من وجهة فلاسفة ومفكرون آخرون كتعريف أفلاطون :- الذي يقول أن التربية تضفي على الجسم والنفس كل جمال وكمال.
ولودج :- الذي يقول أن التربية لها معنيان، فهي تعامل الإنسان مع البيئة المحيط به ،وهذا المفهوم واسع لها ، أما التربية بمعناها الضيق فيقصد بها التعليم المدرسي. أما ميلتون :- فيقول أن التربية السليمة هي التي تؤدي الإنسان إلى بر الأمان في السلم والحرب بصورة مناسبة ومهارة عالية.و توماس الإكويني :فيقول أن الهدف من التربية هو تحقيق السعادة بغرس كل الأفكار العقلية والمعرفية له.
ويقول المفكر هيجل :- أن العمل الجماعي هو انسب شيء. أما هرمان هورن :- فيجد أن التربية هي التفاعل مع الله لذلك يؤدي إلى تربية أخلاقية. أما أرسطو طاليس : فيعرفها، بأنها أعداد العقل للتعليم كما تعد الأرض بالبذرة.
رفاعة الطهطاوي :- فيقول أن التربية هي أن تبني خلق الطفل على ما يليق بالمجتمع الفاضل، وأن تنمي فيه جميع الفضائل التي تصونه من الرذائل وتمكنه من مجاورة ذاته للتعاون مع أقرانه على فعل الخير.
أما ستورات ميل :- فيقول أن التربية هي كل ما يعلمه المرء أو يعلمه لغيره.
وهربرت سبنسر :- فيقول هي كل نقوم به من أجل أنفسنا وكل ما يقوم به من أجلنا بغية التقرب من كمال طبيعتها.
ومن أهم التعاريف للتربية ، تعريف بستالوتزي، الذي يقول فيه إن التربية هي النمو المتناسق لكل قوى فرد النفسية، وهو يتشابه مع أبي حامد الغزالي في المقارنة بين التربية والغراس الطبيعية, فالتربية عند بستالوتزي هي عمليه النمو لجميع قوى الإنسان وملكاته، والمربي كما يعتقد ليس هو الذي يغرس قوى جديدة في الإنسان بل تكمن مهمته في إزالة القوى الخارجية التي تقف النمو الطبيعي لدى الفرد.
وعرف دوركهايم صاحب النزعة الاجتماعية التربية ،بأنها التأثير الذي يمارسه الراشدين على الأجيال التي لم ترشد بعد, فلقد أبدى دوركهايم انتقادات أصيله لمفهوم التربية التقليدي الذي يركز على الجانب الفردي حيث وصف التربية بأنها”شيئا اجتماعيا بالدرجة الأولى” ويعرفها بأنها “تنشئه اجتماعيه تمارسها الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة” ويكمن هدف التربية في تنميه عده جوانب عند الأطفال وذلك على النحو الذي يحدده المجتمع السياسي بوصفه كلا متكاملا وباختصار شديد”التربية عمليه تنشئه اجتماعيه منهجيه للجيل الجديد.”
نقد دوركهايم للتصورات السائدة حول مفهوم التربية:-
لقد سجلت مثل هذه الرؤية الموضوعية الواضحة غيابا كاملا، حيث كان يجمع الفلاسفة والمربون على النظر إلى أهميه الجانب الفردي في العملية التربوية، ويقول دوركهايم”إن هدف التربية هو قبل كل شي تحقيق النمو الأمثل للملكات الفردية للنوع الإنساني ولكن هذا التصور لا يتفق مع الحقيقة الواقعية فالفلسفة الكلاسيكية كانت تتجاهل النظر إلى إنسان الواقعي في زمان ومكان محددين.
جون ديوي والروح البراغماتيه:-
تعد البراغماتيه النمط التربوي الذي افرزه المجتمع الأمريكي وشعارها هو تعلم بان العمل وغايتها التربية من اجل العمل والتكيف مع الحياة الاجتماعية،ويعرف ديوي التربية بأنها تنظيم مستمر للخبرة هدفه توسيع محتواها الاجتماعي وتعميقه، التربية حياة وليست استعدادا للحياة.
أي وبصوره عامه يعرف البراغماتيين التربية بأنها التي تعد الطفل للحياة المتغيرة المتكاملة،أما علماء الأحياء ،فيعرفون التربية بأنها القدرة التامة على التلاؤم بين الظروف الداخلية والظروف الخارجية ، حيث أن التربية هي من يؤمن هذا التكيف.
والتربية :- هي إبلاغ الشيء إلى كماله يسيراً يسيرا ،أي الانتقال بالتدريب عبر الخطوات المتتالية.
وفي تعريف الراشدين ، فالتربية :- مجموعة المؤثرات المختلفة التي توجه حياة الفرد وتسيطر عليه.
وفي تعريف جون ستيوارت ميل ، فالتربية :- كل ما نفعله نحن من أجل أنفسنا ، وكل ما يفعله الآخرون من أجلنا، لتكون الغاية تقريب أنفسنا إلى طبيعة الكمال، والتربية :- هي مجموعة العمليات التي يستطيع بها المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني في الوقت نفسه التجدد المستمر لهذا التراث وأيضا للأفراد الذين يحملونه، فهي عملية نمو وليست لها غاية إلا المزيد من النمو، إنها الحياة نفسها بنموها وتجددها.
ومعنى التربية، كما ورد في القرآن، هي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى التمام، كما في قوله تعالى:” الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”(2) (الفاتحة). والتربية في الإسلام منهج يستهدف صياغة كيان الإنسان في كليته، عقلاً وروحاً، جسداً ونفساً، والإنسان ليس جديراً بهذه التسمية إلا بالتربية، وليست التربية في الإسلام إلا إتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحِكم والتعاليم، وهي المبادىء الحقيقية التي تأخذ بيد الإنسان إلى أعلى مراتب القيم الحميدة وحسن الأخلاق.
ولقد جاء الإسلام برؤية كونية توحيدية فطرية، وبقيم ومبادئ تربوية هادئة تقصد إلى الخير والإحسان، تحي الضمائر وتنير العقول وتبني حس المسؤولية في الإنسان. فصارت من أصول الإسلام كون الدين هو الموجه لحركة المجتمع ومصدر كل نظمه العاملة التي منها التربية بوسائلها المختلفة. ومن هذا الوجه يتبيّن أن الدين هو روح حركة الحياة في الإسلام وروح العلوم والمعارف كلها وروح المجتمع فالتربية في الإسلام، نظرياً وعملياً، لا تجد مرجعيتها إلا في الدين، ومفهوم العلوم ليس مقصوراً على علوم الدين، بل يشمل كل المعارف التي كشف الله عنها للبشر. وسريان روح الدين في كل شعاب الحياة والمعارف في المنظور الإسلامي هو المفهوم الصحيح للتربية، كما فهمه الأقدمون من علماء الأمة قبل نشأة بدعة تفريق العلوم إلى ديني ودنيوي. فمما قيل في هذا الصدد أن أبا حسن الأنباري كان يشتغل بالعلوم الهندسية ولما مرّ عليه بعض المشتغلين بالفقه وسألوه، بشيء من التهكم، بِمَ تشتغل ؟ أجاب: إني أشتغل في تفسير قوله تعالى:” أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ”(6) (ق)، فأنا في علومي أبين كيفية بناء هذه السماء.
فالتربية في الإسلام منهج متكامل يعنى بالجسم والروح والعقل. ومن أجل تكامل النظرة الإسلامية إلى الحياة والوجود والمجتمع، جمعت التربية الإسلامية بين تأديب النفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسم، فهي تعني بالتربية الخلقية والصحية والعقلية دون إعلاء لأي منها على حساب الآخر. ولذلك ينشأ المسلم سوياً قوى الصلة بالله، محققاً لرسالته في الحياة. أما غاية التربية فهي بناء الإنسان وصياغته بالصورة التي يتمكن من حمل رسالة الاستخلاف في الأرض بالعبادة والتعمير.
ولكن يبدو، مع التقدم والحداثة، تزداد الحياة تعقيداً وكأن هذا التلازم بين التقدم والتعقيد في الحياة قاعدة عامة هي من طبيعة هذه الحياة المعاصرة، ولعلها كبرى مشكلاتها. ومع تعقيدات الحياة المعاصرة تزداد العملية التربوية تعقيداً، إذ تنعكس هذه التعقيدات على التربية فتجعل منها عملية متشعبة المشارب والمجالات لا ينحصر همها في التعليم والمعلمين وإنما تتعداهم إلى جميع قطاعات العمل، حتى لا يبقي قطاع من قطاعات المجتمع إلا ويقوم بدور تربوي، كبر شأنه أو صغر. لذلك يتحدث المربون اليوم عن دور الإعلام والنادي والسوق والمصنع والمتجر، فضلاً عن الأسرة والمؤسسات التربوية والدعوية والمسجد، في العملية التربوية. كما يتحدثون عن (المجتمع المتربي) أي المجتمع الذي يشارك في جميع الناس في العملية التربوية
فالتربية في الإسلام لها منافذ متعددة، منها الأسرة والمسجد والمجتمع إلى جانب المؤسسات التربوية النظامية من المدارس والجامعات. والنظر إلى واقع الحياة العصرية يبيّن لنا، للأسف، أن هذه المنافذ التربوية تتعرض الآن لرياح العولمة وتحدياتها. فالإعلام الملوث بالأفكار المسمومة تغشي البيت والمدرسة، بل باتت معاني الأسرة في خطر عظيم. ورسالة المسجد والدعوة تكالبت عليها الأعداء بدعاوى شتى ،وما ذلك إلا لأن التربية في الإسلام ليس نظاماً قائماً بذاته، وإنما هي نظام ذو علاقة وثيقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع الذي تخدمه التربية. ومهمة التربية في الإسلام عملية اجتماعية شاملة تضم كل شرائح المجتمع وطبقاته، ابتداء بالنشء في الأسرة مروراً بالعوام وأرباب المهن، وانتهاءً بالنخب والمثقفين. فقوام الأمة وأساسها هي التربية الخلقية التي يصفها القرآن بـ ( التزكية) ” قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا “(9)” وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا”(10) (الشمس). ولذلك فتطهير النفس وتزكيتها من رذائل الأعمال والخصال وتحليتها بالفضائل إنما هو شرط جوهري لإحداث التغيير الاجتماعي المنوط به نهضة الأمة ” إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (11) (الرعد).
والتربية بهذا المعنى إنما هي غرس للمبادئ والقيم وأخلاق الفطرة السوية، من عدل ومساواة وصدق وإخلاص، في صميم قلب الإنسان، والنشء خاصة، لتُسقَى بماء التعارف والتواصل والتراحم بين الناس فتؤتي أكلها وثمارها سلاماً ووئاماً وتعاوناً في المجتمع الإنساني:” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” (159) (آل عمران).
“وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”(2) (المائدة).
فالناس في كل الأمم أكفاء فيما بينهم لا يتمايزون إلا من جهة العقول ونوعية الأخلاق، وهي لا تكتمل إلا بالتربية.