ترجمة مصطفى شقيب *
كاتب ومترجم من المغرب
أيام قليلة قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، كانت الإدارة الأمريكية آنذاك، إدارة جورج دبليو بوش، الذي لم تمر على ولايته سوى سبعة شهور، تتجه كليا نحو التنافس بين الدول العظمى، الذي كان على الولايات المتحدة مواجهته.
لكنها كانت بالأحرى مسالمة، اعتبارا لحالة دولة روسيا المستقرة -فلاديمير بوتين تسلّم السلطة-ودولة صين تتبنى التحديث- و التي حاولت الإدارة اللاحقة لكلينتون جعلها شريكا مسئولا.
بعد إغلاق “قوس العشرين سنة الذي فتحته الحادي عشر من سبتمبر”، ظل التنافس بين القوى الكبرى الخاصية الاستراتيجية الأولى لبداية هذا القرن، لكنها أقل سلمية ممّا كانت في 2001، فلقد تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، ولكن مع الروس أيضا.
حرب باردة جديدة؟
خلال عشرين سنة، تغير ثقل الصين بالنسبة للعالم. ووفقا لكل المؤشرات التقليدية للقوة، خاصة الاقتصادية، انتقل البلد إلى تصنيف آخر وصار إشعاعه دوليا: الاستثمارات الهائلة بالخارج؛ تطوير شبكة بنيات تحتية للنقل نحو آسيا الوسطى و الشرق الأوسط وأوروبا-طريق الحرير- ؛ و أخيرا نشر قواتها العسكرية البحرية بعيدا عن حدودها (المقر في دجيبوتي).
إنه طموح يرتسم، الغرض ليس فرض الإيديولوجية الشرعية، ولكن تشكيل النظام الدولي قصد فرض تفوقها. فهي تسعى في المحافل الدولية، خاصة الأمم المتحدة الى فرض معاييرها. ففي 2001، كنا نعتقد أن الصين كانت تريد أساسا السيطرة على آسيا؛ في 2021، تسعى بلا شك، في أفق العام 2049، مئوية مجيئ ماو، الى السيطرة على العالم.
إنه إذن التنافس الصيني الأمريكي الذي سيهيمن على المشهد الدولي في الجزء الاول من القرن. وأمام هذا التحدي، تُعِد الولايات المتحدة نفسها. فهي تتوفر على تحالفات قوية في آسيا وتسعى إلى تقوية التعاون مع الهند، واليابان وأستراليا والذي سيتمّم بشراكات أخرى مثل “اتفاق أوكوس” التي تم إنشاؤه في العام 2021 (وضم كل من أستراليا، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) ليترتسم نوع من توافق القوى البحرية في منطقة الهندي-الهادي من أجل احتواء بكين.
وهذا هنري كيسنجر والذي برغم تأييده للانفراج مع بكين، إلا أنه اقتنع في نهاية 2020″إننا على تحصينات حرب باردة ! “.
والتماثل له حدوده، ليس هناك لا كتلة أمريكية ولا كتلة صينية. فالصين لا تعقد تحالفات دفاعية مفضلة الدول التابعة عن طريق قوتها الاقتصادية. ولا يمكن للولايات المتحدة جلب الهند التي تحرص على استقلاليتها إلى نظام صارم من الالتزامات الدفاعية المشتركة. وستجد صعوبة في جعل منظمة حلف شمال الأطلسي تحالفا مضادا للصين، فضلا عن كون المنطقة المحمية من طرف هذه المعاهدة لا تشمل سوى اوروبا وشمال الأطلسي.
فيما يُعدّ الترابط الاقتصادي والمالي بين البلدين اختلافا آخر كبيرا؛ وهو أكبر مما كان بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وأخيرا يتشابه المجتمع الصيني مع المجتمع الأمريكي أكثر من المجتمع السوفياتي.
غير أن الصورة تبطن جزءً من الحقيقة تم استخدامها لعكس التحدي الذي يعتبر سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا. فنحن أمام منافسة شاملة تهم الأمن الدولي ومسرحه العالم أجمع. ويجري هذا التنافس على الأرض، وفي البحر وفي مجالين لا يزدادان إلا أهمية الفضاء السيبراني والفضاء خارج الجوي. ولو أن الإنجازات الفضائية الصينية تُذَكّر أيضا بالتنافس السوفياتي الأمريكي لسنوات…1960
صحيح أن للبلدين مصالح مشتركة، مثل تأمين التجارة البحرية أو تدبير الأزمة الكورية الشمالية؛ لكن الأمر نفسه حصل بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، كان في البداية لتضييق الخناق على القوى الألمانية، تم للحد من سباق التسلح والانتشار النووي.
وهذه الحرب الباردة، إن وجدت تم الإعلان عنها فيما قبل، في خطاب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس في 2018، لكن يمكننا التأريخ لها بمجيء شي بين بينغ إلى السلطة في 2012، و لم يكف هذا الأخير منذ ذلك الحين عن الإعلان عن ولادة “صراع كبير على المستوى الدولي” “الذي لن يخلص إلا إلى انتصار الإشتراكية”.
روسيا وأوروبا في التنافس الصيني الأمريكي
أيّ وضع سيكون لروسيا وأوروبا في هذه اللعبة؟ إنها الاختيارات الاستراتيجية لهما هي من ستحدد جزئيا مستقبل ميزان القوى الصيني الأمريكي.
تتشارك روسيا مع بكين رؤية معادية للغرب، مؤيدة للأنظمة الشمولية. التحالف العسكري الكلاسيكي بين البلدين ليس مطروحا الآن، لكن لم يكن للبلدين علاقات طيبة منذ سنوات 1950. وإن تم تأكيد تقارب ما، سيكون “تحديا أورو أسيويا” حقيقيا على الولايات المتحدة مواجهته.
ستة معايير لتحديد قوة عظمى
وإن كان مفهوم القوة العظمى موضع جدل، فإن بعض المعايير تسمح بتوصيفه.
الديمغرافيا : كان المهندس العسكري فوبان يقول أن “عظمة الملوك تقاس بعدد الرعايا”… فالوزن الديمغرافي يخول مزايا اقتصادية (الإنتاج، الاستهلاك، الابتكار) وعسكرية (عندما يتم اللجوء إلى التجنيد الإجباري)، وسياسية بمجرد ما يدخل هذا المعيار في الوزن الممنوح للبلد (مثلا ضمن الإتحاد الأوروبي).
المساحة : ليست معيارا كبيرا (هل كندا والبرازيل من القوى العظمى؟)، لكن مساحة المناطق الاقتصادية الاستثنائية، في البحر، تكتسي أهمية زائدة كلما تقدم الإقتصاد الأزرق.
الإقتصاد : يمثل معيارا لا مناص منه، لكن ينبغي تحديد المؤشرات الدالة أكثر من الناتج الداخلي الخام، الصادرات والاستثمارات بالخارج.
الإشعاع الثقافي : هو بُعد لا يمكن تجاهله. لا يتعلق الأمر هنا بمعطيات رمزية مثل عدد حائزي جائزة نوبل، و لكن أيضا بعدد براءات الاختراع العلمية، و عدد المؤسسات المكرسة لنشر الثقافة الوطنية بالخارج … الخ . أما عن معيار اللغة، فهو يؤخذ بعين الاعتبار، ولكن في حدود معينة، فكون الفرنسية اللغة الرسمية في كندا ليس له في حد ذاته أي تأثير في باريس على هذا البلد.
القوة العسكرية : يفترض في “القوة العظمى” أن تمتلك الأسلحة النووية وخاصة القدرة على نشر قواتها سريعا بعيدا عن مقر جيشها. وإن اقتضى الحال إنشاء شبكة من التحالفات والقواعد في الخارج. كما أن تطوير برنامج فضائي مستقل يدخل هو أيضا، ضمن خصائص القوة العظمى.
الوزن السياسي : الإستثمار في الدبلوماسية (عدد السفارات) وفي المحافل الدولية (الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي…إلخ) مرتبط بالوزن الاقتصادي لبلد ما، غير أنه ناتج أيضا عن اختيارات سياسية.
على ضوء هذه المعايير، الولايات المتحدة والصين هما أكبر قوتين عظمتين… وإن كان يمكن الحدل بشأن هذا التصنيف. ففرنسا والمملكة المتحدة وروسيا تتوفر على عدد من الخصائص المذكورة أعلاه ؛ الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن للأمم المتحدة، هي من وجهات نظر متعددة، قوى عظمى، لكن ألا تدعونا القوة الاقتصادية لألمانيا واليابان، لتصنيفهما ضمن هذه الفئة؟ و ماذا عن الهند، التي تزداد صعودا على المستويين الإقتصادي والعسكري والتي ستكون البلد الأكثر سكانا في الأرض-الا يجدر بنا اعتبارها يوما ما كذلك؟
أما عن الاتحاد الأوروبي، فهو يعتبر الصين منافسا مع التأكيد على إرادته للتعاون معها. و هو حذر من الاكتساح الاقتصادي والثقافي الصيني فضلا عن نشاط جاسوسي مكثف وسلب تكنولوجي. لن يصطف إلى جنب الولايات المتحدة، كما لن يكون كذلك بشكل أكبر إلى جنب بكين.
وقد زادت جائحة كورونا من حدة موازين القوى الناشئة، خاصة بفعل الغموض الصيني بشأن أصلها وتدبيرها، فقد فقدت بكين الإشادة السابقة “لدبلوماسيتها الصحية” للأشهر الأولى للعام 2020 (تسليم الكمامات، أجهزة التنفس…). فيما أبدعت أوروبا بتبني مخطط الإقلاع والتعاضد في الديون.. وأبانت الولايات المتحدة على قدرتها على إعادة تحقيق القفزة السريعة. أما روسيا بالمقابل، مع حصيلة بشرية أعلى بكثير بلا شك من الإحصائيات الرسمية، فلم تتألق البتة. فقد لعبت الجائحة دور الكاشف أو المسرّع للاتجاهات القائمة سلفا.
أي سيناريو للعام 2050؟
في غضون ثلاثين سنة، أيّ توازن نتوقع بين هذه القوى؟ كل ما سبق لا ينطبق إلا بشرط أن يندلع أي نزاع بين بكين وواشنطن، سواء بشأن تايوان أو على إثر حادث كبير في البحر أو في الأجواء. و كل شيء يدعو الطرفين للحذر. الردع النووي أولا، و الترابط الاقتصادي بعد ذلك، بما في ذلك بين ضفتي مضيق حيث تبقى بكين في حاجة لأشباه الموصلات من تايبي. واخيرا التوازن العسكري، فسيناريو اجتياح تايوان يبقى مجهدا بالنسبة لبكين والذي سترد عليه الولايات المتحدة بسرعة.
غير أن عودة التوتر من جديد بين الولايات المتحدة والصين إضافة إلى المدى الرمزي لرهان تايوان، يزيدان من احتمالية نشوب هذا النزاع، ولكي يتم أخده بعين الاعتبار، فقد حدد شي جين بينغ أفق 2049 كتاريخ للتوحيد، وبهذا ينبغي التساؤل عمّا إذا كانت تكلفة اجتياح تايوان يوما ما ستكون غير ثقيلة اعتبارا لفك الإرتباط الجزئي بين الإقتصاد الصيني والغربي في سياق مستقبلي غير بعيد جدا؟
إذا لم يحدث هذا السيناريو، كيف سيكون توازن القوى في منعطف القرن؟ فمع بسط طريق الحرير، وتنامي قوتها العسكرية وقدرتها على تعبئة السكان، ألا تتهيأ الصين للسيطرة على العالم؟ في المواجهة مع بكين، لم تقل الولايات المتحدة كلمتها الأخيرة بعد. فهي تتمتع بواجهتين أطلسيتين، ولا وجود لعدو على حدودها، ولديها موارد وافرة، ليس بحجم روسيا ولكن أكبر من الصين في هذا. وهكذا فالولايات المتحدة هي البلد المنتج العالمي الأول للبترول أمام العربية السعودية بفضل حقول صخور الشيست.
وتبقى الحيوية الديمغرافية للولايات المتحدة دالة جزئيا بفضل الهجرة. ومن المفترض أن يواصل عدد سكانها في النمو، بينما سيتقلص العدد لدى الصين قريبا. وإشعاعها الثقافي لا مثيل له، فقد سهلت الانجليزية هيمنة المنتجات الأمريكية.
كما يبقى الإقتصاد الأمريكي الأكثر أهمية في العالم، ربع الناتج الداخلي الخام العالمي والأكثر ابتكارا (براءات الاختراعات، المقالات والاستشهادات العلمية). وتودِع الولايات المتحدة ضعف براءات الإختراع الدولية الصينية وتتوفر على براءات ثلاثية أكبر بعشر مرات (مودعة أيضا في أوروبا واليابان). وإن كانت الصين قد أنشأت منصات رقمية عملاقة، إلا أنّ “الغافام” (غوغل، أبل، فيسبوك، أمازون…) هي من تفرض نفسها في الأسواق العالمية. فيما لا تتأثر كثيرا هيمنة الدولار الذي لم يزدد إلا نموا منذ الأزمة العالمية في نهاية سنوات 2000.
وتجاوز الناتج الداخلي الخام الصيني للناتج الأمريكي، وفقا لفرضيات نمو كلي البلدين، سيكون بين 2030 و2040. اللهم إن لن يكون ابدا. بفعل الإكراه الديمغرافي، قد يشرع الفارق بينهما في الاتساع في حدود 2033، في الوقت الذي سيتعدى عدد البالغين أكثر من 65 سنة في الصين عدد أولئك في الولايات المتحدة. وبالفعل، يتراجع عدد السكان النشيطين الصينين منذ 2017، بينما لن يعرف هذا العدد في الولايات المتحدة التراجع إلا في حدود 0205.
في الوقت الحالي، ليس للولايات المتحدة أي منافس فيما يخص قدرات الانتشار والتحالفات والقواعد في كل القارات، و أيضا التجارب القتالية. فهي ملتزمة بمعاهدات للدفاع عن ربع الإنسانية. وفيما تطور الصين قدراتها العسكرية بشكل متسارع، إلا أنها لا تتوفر إلا على قاعدة فريدة في الخارج، و ليس لها أي تحالفات رسمية، كما أنّ جيشها لم يقاتل منذ 1979.
إن كانت الولايات المتحدة موقع كره، غير أنّ استقصاءات الرأي تبين أن البلد يبقى المفضل على الصين، التي تتدهور صورتها منذ عشرين سنة. اللغة، الجامعات، الابتكار، تقاليد الاستقبال، كل هذا يفسر كون الولايات المتحدة هي البلد الأكثر جذبا بالنسبة للمهاجرين الذين يستقبل منهم العدد الأكبر.
* مقال صادر عن دورية الملفات الكبرى للعلوم الإنسانية. Les Grands Dossiers des Sciences Humaines العدد 65- ديسمبر 2021- يناير-فبراير 2022. ص. 9-8.