كيف نجنب أطفالنا العزلة؟

ان ميل بعض الاطفال للعزلة وزهدهم في الاختلاط بزملائهم في المدرسة او من ابناء الجيران والاقارب، ظاهرة غير طبيعية، تستدعى تعاونا جادا، طرفاه البيت والمدرسة والا فان مثل هؤلاء الاطفال قد يعانون في المستقبل من ازمات، تجعلهم لا يثقون بالاخرين او يشاركونهم في افراحهم واحزانهم، والعزلة نفسها التي يعاني منها هؤلاء الاطفال لم تأت من فراغ، فمسؤوليتها المباشرة تقع في الدرجة الاولى على الاسرة التي ربما تفرض على طفلها نمط حياة فيه الكثير من القسوة والصراحة، بحيث تضطره الى الالتزام بأوامرها التي – مع الاسف – تتعارض والحياة الاجتماعية التي يفترض ان يعيشها.

بالطبع، فالكثير من الآباء والامهات قد يفعلون ذلك بداعي الحرص على ابنائهم من الانحراف اذا ما احتكوا بغيرهم من الاولاد الذين لا يتمتعون بسمعة اخلاقية حسنة، وقد يكون دافعهم الى ذلك رغبتهم في ان ينصرف ابناؤهم الى الدراسة الجادة، على اعتبار ان الاختلاط، يحول بينهم وبين هذه الغاية السامية.

ان ايا من هذه الدوافع التي يتمسك بها بعض الآباء والأمهات تسىء بصورة او بأخرى الى الصحة النفسية لابنائهم، كما انها قد لا تحقق لهم ما يرغبون فيه لأن الطفل المحروم من الاندماج في المجتمع المدرسي سيشعر بالاحباط والكآبة، وفقدان الثقة بالنفس.

وهنا سأورد حكاية مشتقة من واقع خبرتي الطويلة في مجال التعليم، وهي تدل على ما ذهبت اليه … لاحظت ذات مرة ان احد التلاميذ الصغار يعزف عن المشاركة في اي نشاط طلابي، بل انه محب للعزلة، قليل الكلام، اذا ما طرحت عليه سؤالا له علاقة بالدرس تلعثم في الاجابة، واحمر وجهه خجلا، بينما راح بعض زملائه الاشقياء يتندرون يضحكون منه.

استدعيت هذا التلميذ الى مكتبي، ورحت اسأله عن سبب عدم مشاركته في الانشطة المدرسية كما يجب، ولماذا يؤثر «العزلة» حتى لدى عودته من المدرسة الى البيت وهنا فاجأني بقوله: ان والدي امرني الا اختلط بغيرني من التلاميذ، لأنهم يفسدون اخلاقي ويؤثرون على دراستي، بالطبع، استدعيت الأب الى المدرسة ودار بيني وبينه حوار طويل، اكتشفت من خلاله ان هذا الابن هو ابنه الوحيد، وانه يريده ان ينشأ نشأة سليمة وحتى يتم ذلك فانه يرى ضرورة انصرافه التام للدراسة.

اشعرت هذا الآب ان هذا الاسلوب قد اثر سلبا على ابنه اذ حرمه من اشياء كثيرة يتمتع بها كل الاطفال الاسوياء في سنه، فهو قد فرض عليه عزلة غير مبررة، وحال بينه وبين الرفقة الضرورية لبناء شخصيته اجتماعيا ، فللدراسة وقتها وللعب ومشاركة الآخرين نشاطهم وقته الاخر.

وهنا قال لي الأب ولكنني اوفر له كل ما يطلبه في البيت، ولا أبخل عُليه بمصروفه اليومي الذي لا يظفر بمثله الكثيرون من زملائه.

قلت له: ولكنك ، مع الاسف ـ رغم كل ما ذكرت لا توفر له «الرفقة» الصالحة التى هو بحاجة اليها كحاجته للمصروف اليومى او اكثر، باختصار، فقد اقتنع الآب بما قلت، ورجانى ان اتعاون للخروج بابنه من العزلة والعودة به الى الحياة الاجتماعية التي يمارسها زملاؤه الآخرين، واعترف هنا، انني لبيت رغبة الاب وبالتدريج غدا هذا الطفل انسانا آخر، يشارك زملاءه في اللعب ويمارس النشاط الذى يمارسونه، بل انني كلفته ان يشرف مع غيره على نظافة غرفة الصف، وتنبيه من يخالف ذلك الى ضرورة التقيد بالتعليمات المطلوب تنفيذها، وعليه فان تشجيع الاطفال على مصاحبة من هم في سنهم مسألة ينبغي اخذها بعين الاعتبار، فمن خلال هذه يمكن اثراء حياتهم النفسية والاجتماعية والثقافية، ومن خلالها تنمو الألفة والمحبة بينهم ، كما يتدربون على تبادل الآراء حول ما يهمهم في حياتهم المدرسية، ناهيك عن تبادلهم الزيارات في المناسبات التي تبرز من حين لآخر.

ولكننى استدرك هنا فأقول: ليس كل (صحبة) تحقق مثل هذه الغايات النبيلة من هنا لا بد من دور يتولى فيه الآباء والامهات ارشاد ابنائهم وبناتهم على حد سواء الى كيفية اختيار «الرفقة» الصالحة، وذلك من خلال تتبع سلوك من يصادقون او يصادقن كما على الآباء والأمهات ان يخصصوا جانبا من وقتهم للحوار مع الابناء حول ما قد يعترضهم من مشكلات في حياتهم داخل المدرسة وخارجها.


وحذار من اهمال هذه الناحية، تحت أية ذريعة او سبب لان الابن في هذه المرحلة المبكرة من العمر بحاجة الى الرعاية والمراقبة حتى لا يستميله اصحاب السوء، فينخرط فيما ينخرطون بينما الآباء والأمهات مشغولون عنه، وقد لا يفاتحونه في موضوع دراسته الا نادرا او حين يحضر لهم شهادته المدرسية.

وليعلم اولياء الامور في الاسرة ان من أخطر مراحل حياة الابناء هي مرحلة الطفولة والمراهقة فاذا اهملناها، او أقنعنا أنفسنا بأن المدرسة وحدها قادرة على القيام بهذه المهمة، الحقنا بأبنائنا ضررا جسيما، يصعب علينا مستقبلا معالجته، علينا الا نسمح لانفسنا، وتحت اي مبرر، تجاهل تربية الابناء منذ الصغر، ولتنشأ بيننا وبينهم الثقة المتبادلة التى تبدد عنهم مخاوف القلق والتردد في المصارحة اذا ما وقعوا في الخطأ.

يوسف عبد الله محمود

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

أهداف التربية أساس بناء المجتمعات وتطوير الأفراد

تُعدّ التربية إحدى الركائز الأساسية في بناء المجتمعات، حيث تسهم في تشكيل الأفراد وتنمية قدراتهم، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *