كلنا نعرف ان حياتنا في القرن الحالي حياة معقدة ، حياة ديناميكية ، وحياة ذات مشاكل جمة متشابكة ، وان هذا التعقيد وهذه المشاكل الكثيرة ، لا يمكن ارجاعها إلى عامل واحد، كالعامل الاقتصادي كما يدعي ماركس و اتباعه ، او العامل الجنسي كما يدعی فروید ، او اي عامل آخر على انفراد، بل يعتقد الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بان اساس المشاكل الحديثة في المجتمعات المعقدة ، ناجمة في اساسا عن وجود هوة سحيقة بين تقدم العلم الحديث، وبين عقائد البشر و قوانينهم الاخلاقية .
ان الانسان يعتنق آراءه العلمية على اساس منطقها، ويقلع عنها متى ما ثبت بطلانها علميا ، اما تقاليده الاجتماعية وقوانينه الخلقية ، فتأتيه عن طريق المشاركة العاطفية فقط . وعلى هذا الأساس ترى أن هذه الفجوة سحيقة بين تفكيرنا العلمي في العصر الحاضر ، وبين تأخر مقاییسنا الأخلاقية التي نشأت قبل ظهور العلم الحديث ، هي سبب هذه المشاكل وذلك التعقيد ، ويعتقد الفيلسوف إياه بأنه لا يمكن ان يتم اصلاح العالم اصلاحا حقيقيا شاملا ، الا عن طريق تطبيق منطق العلم الحديث في حل مشاكل المجتمع داخل الامة الواحدة وبين الامم جميعا . الا أن تطبيق المنطق العلمي في حل مشاكل المجتمع ، تعترضه صعوبات عدة تحول دون تحقيق ، ذلك منها ما يأتي :
1- ان تشبع كثير من الحوادث الاجتماعية بعوامل دينية وعنصرية وقومية تشبعا تختلف درجته باختلاف نوع الحادثة من جهة واهميتها بالنسبة للباحث من جهة اخرى. مما يجعل الناظر لكثير من المشاكل الاجتماعية الا يراها الا بعواطفه، على الرغم من سلامة تفكيره ، ولا تتوقف تلك الرؤية للأشياء المادية على سلامة عيني الناظر ووضوح الشيء المنظور فقط ، بل تتعداها الى المكان الذي ينظر منه الشخص الى الشيء والى النقاط التي يركز فيها نظره اكثر من غيرها . وينعقد البحث دون شك عند بحث المرء للأشياء المعنوية ، كالحق والعدل وما شاكلها .
2 – النظرة المشوبة بعنصر خلقي ، والباحث الاجتماعي من هذه الزاوية يستحسن وقوع بعض الحوادث ، و يستقبح وقوع البعض الآخر ، وما اختلاف الكثير من الناس في الماضي والحاضر في نظراتهم الخاصة ، والمتأرجحة بين التطرف حينا ، والاعتدال حينا آخر ، للثورات والانقلابات خلال مراحل التاريخ ، الا امثلة من هذا القبيل يحسن الاستشهاد بها.
اما المشتغل بالظواهر الطبيعية فلا يتعرض لذلك ، فالكيمياوي مثلا : لا يستحسن اتحاد ذرتين من الهيدروجين ، مع ذرة واحدة من الأكسجين ، عند تكوين الماء ولا يستقبحه ، ولا يهمه من الأوكسجين عدم تفاعله مع العناصر الأخرى اطلاقا . انه لا يفعل ذلك لان همه الوحيد هو وصف ما يشاهده ، لا أن يصادر احكاما معينة .
3- اما الصعوبة التالية ، فناتجه من ان المشتغلين في القضايا الاجتماعية ، يحاولون التوصل إلى ما يسمونه طبيعة الأشياء ، وقد حاول قبلهم زملاؤهم الباحثون في الظواهر الطبيعية ، فلم يفلحوا ولم يتقدم العلم ، الا بعد ان خلع انصاره فكرة البحث عن طبائع الأشياء ، واهتمامهم فقط بالبحث عن علاقتها .
4 – تعقد الظواهر الاجتماعية وتشابكها من جهة ، وخضوع الانسان لها لا خضوعها له من جهة اخرى ، اذ ان الانسان ببحثه للظواهر الطبيعية ، يبحث في امور يستطيع السيطرة عليها ، أما في بحثه في الظواهر الاجتماعية ، فانه يحاول بحث قوى هو خاضع لها . أضف إلى ذلك أن الباحث في الظواهر الطبيعية ، يستطيع تجريدها عن بعضها ، و احداث تغيير كبير في علاقاتها. اما الباحث في الظواهر الاجتماعية ، فليس باستطاعة، عمل ذلك، نظرا لتداخل تلك العوامل تداخلا يستحيل فصله ، ولذا سهل على المشتغل في المختبر تحليل الماء إلى عنصرية، بينما يستحيل على الباحث الاجتماعي عزل أثر العامل الديني عن اثر العامل الاقتصادي او القومي في تقرير سلوك الأفراد والجماعات .
5- اما الصعوبة الخامسة فناجمة عن أن الباحث الاجتماعي ، لا ينتقي من الحوادث الاجتماعية الا تلك التي تلائمه وتثبت صحة وجهة نظره ، او تفند وجهة نظر من لا يتفق معهم ، اي انه ينتقي من الحوادث اهمها بنظره ، واذا ما حاول عرض وجهة النظر التي تخالفه ، مال و لو بطريقة لا شعورية إلى وضعها بشكل يبين ضعفها وعدم وجاهتها .
المشاكل الاجتماعية خاضعة لتفسير الباحث
ان المشاكل الاجتماعية ليست موجودة على النحو الذي توجد فيه الظواهر الطبيعية كالشمس والاكسجين وما اليهما ، وانما هي موجودة بشكل يقرب غاية الباحث نفسه ، و لعل هذه الظواهر تتضح كثيرا، واذا ما قارنا نظرة الفيزيائي لحادثة سقوط شخص من بناء شاهق إلى الأرض ، بنظرة الباحث الاجتماعي الى تلك الحادثة . فحادثة السقوط هذه من الناحية الفيزيائية حادثة خاضعة لقوانين سقوط الأجسام ، اما من الناحية الاجتماعية ، فهي خاضعة لتفسير الباحث نفسه ، وهي تختلف باختلاف الباحثين الاجتماعيين ، فقد يعتبرها بعضهم ناتجة عن اهمال في حساب الشخص لمدى تحمل السقف الذي وقع منه ، او هي ناتجة عن فقدان اتزانه الجسمي او العقلي ، او انها ناتجة عن أن صاحبها قصد الانتحار .. الخ فيكون الاختلاف في تفسير هذه الظاهرة كبيرة ليس بين الباحثين الاجتماعيين انفسهم ، وانما بینهم و بين الباحثين الطبيعيين مع العلم بأنهم جميعا متفقون على وقوعها ، فالباحث الفيزيائي يحاول وصف وقوع الحادثة وعواملها الفيزيائية بينما يحاول الباحث الاجتماعي تلمس اسباب وقوعها من الوجهة النفسية و الاجتماعية .
إن الإنسان يكتسب مقاييسه في الحكم عن قيم الأشياء ، من البيئة التي يشاركها حياته ، اكتسابا عاطفيا في بادى الأمر ، واذا حدث أن استطاع المرء مناقشة بعض المسلمات ، التي فرضها عليه مجتمعه ، فان رواسب في قرارة نفسه تأبى الا ان تتحدى التفكير ، وقليلون هم الأشخاص الذين يستطيعون الى ينقدوا نقدا علميا ، اعز معتقداتهم و اکثرها سيطرة على سلوكهم .
عاملان أساسيان :
ان هناك ميلا فطريا ، يدفع الناس بصورة مستديمة إلى الاستمرار ، في اعتناق ما سبق لهم أن اعتنقوه ، و بمرور الزمن على العقيدة ، يكسبها شيئا من القادسية . اما من الناحية النفسية فهناك عاملان أساسيان ، بالإضافة إلى ما ذكر سابقا ، يحولان بين الانسان وبين قدرته على البحث العلمي في مشاكل المجتمع وهذان العاملان هما :
1. میل فطري موروث ، يدفع الانسان الى التسرع في اصدار الأحكام، على قيم الأشياء أو الأشخاص، ويصحب ذلك ميل فطري آخر، يجعل الانسان يميل إلى تصديق ما يسمعه ، اذا لم يظهر له ما يؤيد بطلانه.
2. البيئة ، اجل البيئة باوسع معانيها ، العائلة ، الاصدقاء ، الصحافية ، الاذاعة ، الراديو ، المدرسة .. الخ ، فكلما كانت عوامل البيئة ، بعيدة عن الروح العلمية ، كلا اصبح محتملا أن يكون تفكير الافراد الذين يتعرضون لتأثيرها ، بعيد عن الروح العلمية كذلك.
السلوك مقياس :
اما ضعف التفكير العلمي ، او انتفاء وجوده لدى بعض الناس ، فيمكن ادراکه بوضوح ، عن طريق تأملنا لسلوك هؤلاء الناس ، عندها يجابهون في حياتهم ببعض المصاعب، ويظهر هذا الضعف على أشكال مختلفة منها :
1) أن يكون ضعف التفكير العلمي ، على شكل ادعاء للمرء بما ليس فيه .
2) وان يكون كذلك ، على شكل عاطفي ، لا يدع مجالا للمناقشة او البحث
3) ان يكون على صورة الاندفاع في الأقوال والاعمال ، الناتج عن عدم دراسة الوضع من جميع نواحيه ، بل يكتفي بأخذ ناحية معينة ، ناسيا أو متناسيا ما يعترضه من الصعوبات ، ان هذا الاندفاع ولاشاك يؤدي إلى الفشل ، وهو يصيب الامم كما يصيب الأفراد..
4) واخيرا هنالك الشكل الرابع ، الذي يتخذه ضعف التفكير وهذا الشكل هو : الولاء الضيق لبعض الآراء او الأشخاص، الذين يرتبط بهم برابطة عقائدية أو دينية او نفعية.
ويتضح مما تقدم أن لضعف التفكير كثيرا من الاثار السيئة ، والأخطار المتعلقة بالفرد وبالمجتمع ، ويتوقف مدی خطره على مقدار الذين يصيبهم ، وعلى مركز الشخص الذي يتصف به ، واخيرا فاذا ما أردنا أن نتخلص من ضعف التفكير هذا ، وان نربي لدينا التفكير العلمي، فلا بد لنا من اتباع الأسس التالية :
1) أن نعود أنفسنا على التسامح العلمي ، و على التؤدة في اصدار الأحكام.
2) أن نذعن الى المنطق السليم، في تقبل الآراء او رفضها لبعض النظر عن مصدرها .
3) ان نقدر دائما احتمال وجود الخطأ في آرائنا ، اذ أن مثل ذلك التقدير يقوم الى جانبه احتمال عدم وجود الخطأ في افكار غيرنا .
4) أن نترفع عن ادخال العنصر الشخصي ، في ابحاثنا ومناقشاتنا ، او بعبارة أخرى: جنب مس العلاقة الشخصية ، حين مناقشة الآراء ، و عدم تعكير صفو الود بين المتناقشين .
وخلاصة القول : انه لا يتم القضاء على ضيق التفكير ، الا عن طريق مكافحة العوامل، التي خلق مثل هذا الضيق ، و ذلك بواسطة بث الثقافة الصحيحة بين الناس .
يوسف عكور