قيض للإنسان ان يعيش في كوكب الأرض، بيئة الحياة، يستمد منها قوته وأسباب نموه المادي والفكري والأخلاقي والاجتماعي والروحي، كان أثر الإنسان على البيئة في أول الأمر هيناً، ولا يتعدى أثر الكائنات الحية الأخرى. وبدأت تتغير علاقة الإنسان ببيئته مع تغير مراحل حياته من الجمع والالتقاط الى الصيد والقنص، ومن ثم الى الزراعة فالصناعة. ويعود هذا التغير المستمر، لمكانة الإنسان المتميزة في البيئة بما وهبه الله من خصائص بيولوجية فريدة، تميزه عن باقي المخلوقات والتي مكنته من الامتداد خارج إطار بيئته البيولوجية زارعاً وصانعاً.
البيئة مليئة بالعناصر والمكونات والمخلوقات الموجودة لخدمة الإنسان. وما الإنسان ذاته إلا واحد من تلك المخلوقات العديدة من الكائنات الحية، التي من أبرز صفاتها أنها تولد، وتدور فيها المواد وتستنفذ الطاقة، وأخيراً تموت، وتتحلل مكوناتها لتكتمل الدورة وتستمر الحياة.
وعلاوة على ان الإنسان هو أحد مكونات البيئة، ولا يمكن ان ينفصل عنها وعن مكوناتها من الجمادات او الحيوانات او النباتات، فأنه يعد أيضاً أهم عامل حيوي في إحداث التغير في البيئة المحيطة به.وقد إزداد تأثيره في إحداث التغير في البيئة بإزدياد التقدم العلمي والتكنولوجي، وبإزدياد حاجاته من الغذاء والكساء ووسائل العيش.
إن التفاعل بين الإنسان والبيئة قديم قدم ظهور الجنس البشري على كوكب الأرض.. والبيئة منذ أن إستوطنها الإنسان قبل حوالي مليون عام تلبي مطالبه وتشبع الكثير من رغباته وإحتياجاته، وكان من نتائج السعي الى إشباع مختلف الحاجات البشرية مع الزيادة السريعة في السكان،أن تزايدت الضغوط على البيئة الطبيعية بإستهلاك مواردها وبتجاوز طاقتها على إستيعاب النفايات الناتجة من الأنشطة البشرية.وتجاوزت المتطلبات الحدود في بعض الحالات بدرجة أصبحت تشكل خطراً على توازن الغلاف الحيوي، كما هو الحال بالنسبة لطبقة الأوزون، التي تحمي البيئة من أذى الأشعة فوق البنفسجية وزيادة نسبة ثاني أوكسيد الكاربون في الهواء، وغير ذلك من التغيرات التي إنعكست على المناخ ككل.
لقد إستكمل الإنسان سيادته على الأحوال البيئية، فهو يبدل الكساء النباتي البري بأنماط من الكساء النباتي يزرعها ويفلحها، وهو يستعمل مياه الأنهار وضبطها بما ينشئه من سدود ويشقه من ترع الري.وهو يبني قراه حيث تتكاثف الجماعة الإنسانية.وإستحدث الإنسان اَلات الحرث والري والحصاد، وإستخدم الحيوان في عمله،أي أنه إستخدم مصادر القوة بالإضافة الى قوة عضلاته، تلحظ في مرحلة الزراعة ان للإنسان اَثاراً بيئية هائلة.وانه أحدث تغييرات بيئية بارزة المعالم، ولكننا نتبين انه لم ينشئ في عمله مواد كيميائية غريبة على النظم البيئية،أي ان متخلفات العمل والحياة الإنسانية كان مما تستطيع الدورات الطبيعية ان تستوعبه وتجربه في سلاسل تحولاتها بفعل الكائنات الأرضية التي تتم عمليات التحلل الطبيعي.ثم جاء عصر الصناعة، وما إتصل به من عمرات تميزت به حياة الحضر الصناعي عن حياة الريف،وأصبح في إمكان الإنسان ان يعيش في بيئة من صنعه، بما يبني من مساكن، ويهيئ لها من وسائل التدفئة والتبريد والإضاءة، وطوع الإنسان مصادر للقوة جعلت بين يديه من الآلات الهائلة ما جعل لآثاره البيئية إمتداداً على مساحة الأرض وفي البحار وفي الهواء.
إستطاع الإنسان ان يستغل مصادر حفرية للوقود هي الفحم والبترول، وبذلك أصبح يحرق مواد كربونية أكثر بكثير من قدرة النظم البيئية على الإستيعاب.ونتج عن ذلك تزايد مطرد في أكاسيد الكاربون في الهواء الجوي، وثانيها ان الصناعة اصبحت قادرة على إنشاء مركبات كيميائية طارئة على النظم البيئية غريبة عليها،أي ان التحولات الطبيعية في دورات المواد غير قادرة على إستيعابها،لأن النظم البيئية لا تشتمل على كائنات قادرة على تحليلها وإرجاعها الى عناصرها الأولى كما تفعل بالمركبات العضوية الطبيعية.وثالثها ان الإنسان أصبح يعتمد على مصادر حفرية غير متجددة بالإضافة الى المصادر المتجددة – تصنف المصادر الطبيعية في البيئة الى 3 أنواع من الموارد وهي:
1- موارد دائمة، وهي المصادر التي لا تنضب مهما إستهلك منها الإنسان، وستضل متوفرة( حسب التوقعات العلمية) دائماً، وهذه الموارد هي الطاقة الشمسية، والماء، والهواء.
2- موارد متجددة، وهي المصادر الطبيعية التي تمتلك القدرة على التجدد بإستمرار، وتمثلها النباتات والحيوانات، وصور الحياة الأخرى، وكذلك التربة.
3- الموارد غير المتجددة، وهي مصادر طبيعية لا تتجدد أو تتجدد ببطء، وتوجد بكميات محدودة من شانها ان تختفي ان اَجلاً أم عاجلاً، وهذه الموارد هي الفحم الحجري، والبترول، والغاز الطبيعي، والخامات المعدنية.
منذ قديم الزمان أدت أنشطة الإنسان الى بعض المشكلات البيئية، خاصة في النظم الطبيعية لإنتاج الغذاء، مثل تدهور التربة بسبب الرعي الجائر، وإزالة الأشجار، وغيرهما.ولقد كان هذا التدهور شديداً في بعض المناطق حتى أنه أدى الى إندثار حضارات بأكملها ( مثل حضارة المايا في أميركا الوسطى) مما دفع الإنسان الى تعلم صون الطبيعة.فتم صون بعض الحيوانات طبقاً لمعتقدات دينية، وحرمت بعض المعتقدات قطع الأشجار والنباتات، وبدأت جماعات كثيرة تتعلم كيف تؤقلم حياتها وتسد حاجاتها بالتناسق مع الظروف البيئية المحيطة بها، فمثلاً تمثل البداوة التقليدية صورة حية للهجرة الموسمية التي تتحكم فيها ظروف البيئة الطبيعية ( وفرة الماء وبالتالي عشب المراعي)، كما تمثل التفاعل الحساس والمتوازن بين الإنسان البدوي وبيئته الصحراوية، وكيف أنه إستطاع لقرون طويلة الحفاظ على التوازن بين متطلباته وقدرة البيئة الصحراوية على التحمل وإعادة التأهيل.وهناك أمثلة كثيرة توضح لنا كيف أن البدو في مناطق الصين الوسطى ودول شمال أفريقيا، وغيرها، كانوا يعرفون أين ومتى يحطون الرحال ومتى والى أين يرحلون مرة أخرى.
علماء الأغريق كتبوا منذ نحو 2500 سنة عن العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به، وكيف أن الإنسان بسلوكه وأفعاله يمكن أن تؤثر بالإيجاب أو السلب في هذه البيئة.
الإنسان ودوره في خلق المشكلات البيئية
الإنسان ككائن حي هو جزء لا يتجزأ من البيئة، ولا يمكن فصله عنها، بل يجب النظر للبيئة والإنسان كنظام متكامل، حيث تقدم البيئة للإنسان كل ما يحتاج إليه لمعيشته، وحفظ حياته وإستمرارها، وتقوم البيئة بإصلاح،قدر إمكانها، ما يفسده الإنسان، عن طريق سلسلة من العمليات الحيوية، حسب قانون البناء والهدم.ويفترض بالإنسان ان يحمي بيئته ويحافظ عليها مثلما يحافظ على إجزاء جسده ويحميها.
لكن الواقع هو غير ذلك،حيث أدى تدخل الإنسان في الطبيعة الى خراب ودمار، وسبب ظهور نظم بيئية جديدة حلت محل نظم بيئية قديمة.
حيال هذا،وكي تبقى البيئة قادرة على تلبية متطلبات حياتنا وحياة الأجيال من بعدنا، لابد من خلق وعي وتربية وثقافة بيئية سليمة تؤسس لتعايش الإنسان والجماعات مع البيئة تعايشاً معقولاً وحريصاً.
مثل هذه المطالبة المشروعة أملتها ظروف وممارسات لا تعد ولا تحصى في عالمنا الراهن بطلها الإنسان،الذي يبدو أنه نسي بأنه جزء مكمل في الأنظمة البيئية، له حقوق وعليه واجبات،فراح وراء جشعه ونهمه يكدس منتجات الترف المادي، مقتحماً من أجل ذلك، بأسلحته البيولوجية الفريدة، وبمساعدة أسلحة أخرى أشد فتكاً،صنعها بنفسه، كل معاقل الأنظمة البيئية في البر والبحر والجو.
لقد أصبح الإنسان اليوم،بأفعاله، مشكلة للبيئة، لدرجة لم يعد في مقدور أنظمتها ان تستجيب لكل مطالبه.فهي تمتلك طاقة إحتمال محدودة، بإمكانها ان تعطيه في حدود إتزانها المرن.وتشكو البيئة اليوم من نشاطات بشرية متعددة الجوانب، تعدت حدود إتزان أنظمتها.
ومع أن الإنسان اليوم يبالغ في إستغلال موارد البيئة،إلا أنه، بما أوتي من قدرات بيولوجية، قادر على العودة الى رحاب الأنظمة البيئية، يأخذ منها ما يتيح له أن يحيا هو وأجياله من بعده، حياة مريحة كريمة،إن أراد ذلك وحرص على بلوغه بعيداً عن أطماعه وجشعه.
إن البيئة معطاءة، خيرة، ” متسامحة”، ولا زالت تمد يدها للصلح، وترغب في التنازل عن شكواها من أذى الإنسان- يؤكد الأستاذان رشيد الحمد و محمد سعيد صباريني.ويتساءلان:فهل يعود الإنسان الى رشده ويقبل عرض البيئة للتعايش مع أنظمتها بالحكمة والتبصر ؟ العرض فيه كل أسباب الإغراء لجانب الإنسان، وقبوله يضمن للجنس البشري البقاء والإستمرار.
في 5 حزيران/ يونيو من كل عام يحتفل العالم بيوم البيئة العالمي، تحت شعار يختاره برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP،الذي وضع قبل 3 عقود، وتحديداً في يوم البيئة العالمي لعام 1977،شعار: “أي عالم سوف نتركه لأطفالنا ؟”.ووضع للمناسبة المذكورة عام 1978 شعار:” التعمير بلا تدمير!”- شعاراً يحمل كل معاني الخير والرفاه لنا وللأجيال من بعدنا.. وهو ينبه،بوضوح، الى أن كرامة الحياة البشرية تصبح مهددة إذا ما إستمر التدخل غير الرشيد بالأنظمة البيئية..
وقبل عدة عقود نبه بيرت بولين- أستاذ الأرصاد الجوية بجامعة ستوكهولم ومدير معهد الأرصاد الدولي،بإن أعظم أنواع الخلل التي نتعرض لها الآن إنما هي ناتجة من الإنسان نفسه، ولا شك أنه يعبث ويتلاعب بالتوازن البيولوجي والجيوكيميائي، ليؤدي حتماً الى أضرار قد تكون قاتلة لنوعه.ولهذا فعليه ان يدرك جيداً مدى الأخطار التي قد تحيق به مستقبلاً.
ومثل هذا الطرح أراد القول بإن نوعية الحياة الراهنة والمستقبلية هي مسؤولية البشرية جمعاء.من هذا المنطلق لابد لكل فرد في هذه المعمورة ان يأخذ دوره، مهما كان بسيطاً، في مجال حماية البيئة ورعايتها.
ولعل المفرح،أنه ومنذ إنعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لبيئة الإنسان في ستوكهولم عام 1972، والإدراك بأهمية البيئة، وضرورة المحافظة على مقوماتها من قبل الفرد والجماعة، يتزايد بإضطراد..لكن الطريق ما زال طويلاً لوضع حد للممارسات الإنسان والجماعات الضارة بالبيئة.
أوضحنا في الفصل التأهيلي، في مادة “أساسيات علم البيئة”، بأن البيئة تمثل بشكل عام الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويمارس فيه نشاطاته المختلفة، وهذا الأطار يتشكل بما فيه من هواء وماء وتربة، وما يحويه من كائنات حية، ومكونات جمادية، وبما تزدان به صفحة السماء من شمس تمدنا بالطاقة اللازمة للأحياء، وبما يتلألأ بها من كواكب ونجوم تهدينا سواء السبيل أثناء الليل وابان الظلمات، وبما يسود هذا الأطار من شتى المظاهر من طقس ومناخ وأمطار،أي ان البيئة فيها العناصر المادية التي يستنبط منها الإنسان متطلبات عيشه، وعواملها المختلفة تؤثر على الإنسان كما يؤثر الإنسان في هذه العوامل.
وعليه فالبيئة علاوة على كونها ذلك الأطار الذي يعيش فيه الإنسان، فإنها تشكل مصدر عناصر الثروة لهذا الإنسان.والإنسان بما حباه الله من معرفة وعلم، وبما منحه من قدرات، يحول تلك العناصر الى ثروة، أي ان البيئة هي ذلك الخزان العظيم الذي منحه الله للإنسان لينهل منه ويجد فيه مصادر الإنتاج.
ويرتبط نجاح الإنسان في هذه الحياة، وتمكنه من أعمار هذه الأرض على مقدار تحكمه في هذا الأطار، والإستفادة منه بما فيه من إمكانيات لمنفعته بالذات من عناصر وطاقة، والقضاء على ما يعكر صفو الحياة من مكونات هذا الأطار، أو الحيلولة دون إنتشار المكونات التي تسبب الأمراض أو تحصد الأرواح.
يوماً بعد اَخر يتزايد الإجماع ويتنامى الإدراك بأن حياة الإنسان ورفاهيته مرتبطة وثيق الإرتباط بمصادر البيئة وصحتها، حاضراً ومستقبلاً، وأن حماية البيئة اصبحت من أهم التحديات التي تواجه عالم اليوم، وهي مواجهة يكون النجاح فيها خير ميراث للأجيال القادمة.
وإذا كان السلوك الإنساني هو العامل الأساسي الذي يحدد أسلوب وطريقة تعاملنا مع البيئة واستغلال مواردها، فلا شك أن للتعليم والإعلام دوراً هاماً في ترشيد هذا السلوك وحفزه للحد من الأخطار الناجمة عن الاستخدام غير الصحيح للموارد البيئية المتاحة.
أ.د. كاظم المقدادي