بدأ كل شيء عام 1865 في فرنسا خلال أحد الولائم الباريسية، والتي كانت تحكمها الإمبراطورية الثانية حيث كان ادوار لابولاي بروفسورا في الكوليج دوفرانس وجمهوريا ومعارضا عنيدا ومحافظا ليبراليا ومعجبا بامريكا وكان لابولاي عضوا في جمعية معارضة العبودية وخلال حرب الانفصال ساند مع أصدقائه قضية الشمال في حين كان نابوليون الثالث يميل الى الجنوب المؤيد للعبودية، كيف يمكن مضايقة الامبراطور دون التسبب في غضبه.
نبتت الفكرة مساء يوم الوليمة ماذا لو اننا بمناسبة الذكرى المئوية للاستقلال اهدينا للولايات المتحدة رمزا كبيرا للحرية، تمثال.
ولكن الظروف السياسية لم تكن ملائمة لحملة كبيرة متعلقة بمثل هذا الموضوع الذي يعتبر على قدر كبير من العصيان والتمرد. رغم ذلك لم تلق الفكرة اذنا صماء فقد كان اوغست بارتولدي نحاتا شابا دعي بالصدفة إلى وليمة بارنولدي وكان في رأسه منذ ذلك الوقت مشروع كبير تمثال يحمل مشعلا ويقوم بدور المنارة في مدخل قناة السويس التي سيتم تدشينها عام 1869 ولقد عرض الفكرة على اسماعيل باشا ولكن خديوي مصر لم يكن يملك المال الكافي.
ثم جاءت حرب 1870 وسقط نابوليون ورای بارتولدي منطقة الالزاس مسقط رأسه يحتلها الضباط الألمان، وفي باريس بدأت المعركة من أجل الدستور، وكان لابولاي من اللجنة التي ستكتب القوانين الدستورية للجمهورية الثالثة، وأصبحت فرنسا معزولة نهائيا عن أوروبا وكانت الجمهورية الوحيدة وكانت في ما وراء البحار الجمهورية الأخرى وهي الولايات المتحدة التي ستحتفل بذكراها المئوية كان قد بدا الحديث عنها في المستشاريات واسواق البورصة. وبتقارب فرنسا من الولايات المتحدة كانت سيقل شعورها بالوحدة في أوروبا.
هكذا فكر لابولاي وعندما جاء بارتولدي لزيارته ولتذكيره بمشروع التمثال الذي جرى الحديث عنه قبل عدة سنوات ، وافق لابولاي على الفور وذهب بارتولدي الى امريكا حيث قام باول جولة من اجل الحصول على المساندة ووجد المكان الذي سيشيد فيه التمثال والمكان هو وسط خليج نيويورك.
وبقيت مهمة تجميع المال، والمال اللازم هو 600000 فرنك في حين كانت فرنسا تدين لبسمارك بمبلغ خمسة مليار، وبدأت حينئذ اكبر حملة منظمة تشهدها اوروبا.
وبدا بارتولدي في وقت مبكر عبقريا في التسويق وباع تمثاله قبل أن يصنعه وقدمت صورة التمثال لرجال الصناعة والتجار ونظمت الولائم لأحفاد لافاييت وروشامبو وتوكفيل والف غونو قصيدة غنائية عرضت في الأوبرا.
وجعل بارتولدي نفسه ماسونيا وحصل على مساندة المحافل في امریکا وكانت قوية. وظهرت فيما بعد على المنصة التي يقف عليها التمثال إشارات ماسونية كما أن التمثال نفسه يحمل هذا الطابع مثل الشعلة والفروع السبعة للتاج وكتاب القانون.
وتشكلت الصورة بالتدريج ولكن كانت هنالك حرية وحرية. حملت حرية بارتولدي قناع الأم الصارمة، كانت امرأة نظامية وليست رومانسية ثورية ولا توجد لها أية علاقة بالزي المبتذل الذي ظهرت به “الحرية” المتوحشة في لوحة الرسام دولاكروا .
وعمل بارتولدي بجدية في باريس ليس فقط لبيع تمثاله بل ليصنعه ايضا ولم يكن الام بسيطا اذ كان يجب على البرج الهائل المصنوع من الزنك والنحاس أن يصمد أمام اندفاعة الرياح القادمة من الأطلسي وجاء الحل من قبل غوستاف ایفل الذي اشتهر ببناء الجسور المعدنية للسكك الحديدية. وكانت داخل التمثال عبارة عن غابة من القضبان الحديدية والفولاذية المشدودة ببعضها.
عندما جاء عام 1876 الذي يصادف الذكرى المئوية للجمهورية الأمريكية لم يكن بارتولدي قد اكمل سوى الذراع والشعلة فعمل على نقل ذلك الى فيلادلفيا حيث كان يقام معرض الاحتفالات، وكانت هذه الذراع المقطوعة تطغى على كافة أجنحة المعرض ويتهافت الزوار على رؤيتها وبعد انتهاء المعرض استعادت نیویورك هذا الجزء من التمثال بعد أن شعرت بالغيرة.
ولكن سرعان ما أصبح الاهتمام ضئيلا وبقيت ذراع الحرية لمدة سنوات مرمية في ساحة ماديسون. واصبحت النيويورك تايمز تتساءل عن أهمية هذه الأنثى المعدنية التي يرغب الفرنسيون بتقديمها للمدينة.
استعاد بارتولدي ذراعه الى فرنسا وخلال تلك الفترة كان قد جمع مبالغ اخرى من المال، بعد أن وضع راس التمثال في ساحة شان دومارس ليراه زوار المعرض الدولي لعام 1878 ولم يكن ينقصه الان سوی 200000 فرنك فاجري اليانصيب وحصل على المال وفي ورشات غاجية وغوتيه في شارع دوغازيل في باريس انتهى التمثال وفي عام 1884 كان يهيمن بطوله الكامل على حديقة مونسو وجرى تدشينه للمرة الأولى في مكانه من قبل سفير الولايات المتحدة في باريس ولكن الباريسيين كانوا قد تبنوه ورفضوا ترك التمثال لكي يرحل وكتعويض عنه شاركت المستعمرة الأمريكية في النفقات وعرضت على باريس ردا مصغرا للحرية يمكن مشاهدته على نهر السين في جزيرة اوسین.
وبقيت عملية نقل التمثال الحقيقي من باريس إلى مرفأ نيويورك. فلم تكن الأعمال هناك قد انهيت بعد، ولم يحضر الأمريكان كما وعدوا من قبل المنصة الكبيرة وكان ينقصهم مبلغ 100000 دولار وقام جوزف بوليتزر وهو مهاجر أثري في امریکا بإنقاذ الوضع فقد كان يملك صحيفة ذاورلد وعن طريقها قام بحملة تبرعات واعلن ان كل من يشارك سيكتب اسمه في الصحيفة وجمع المبلغ خلال فترة قياسية بمشاركات بلغت دولار واحد وسطيا . وازدادت مبيعات ذاورلد بشكل هائل وبنيت المنصة.
وفي شارع دوغازيل في باريس فكك بارتولدي تمثاله وفي عام 1886 وصلت الصناديق التي احتوت على التمثال وبلغ عددها 200 صندوق ولكنها وصلت متأخرة عشرة أعوام عن موعد الذكرى المئوية لاحتفالات الجمهورية. وخلال التدشين كان فردیناند دي لاسبس الى جانب بارتولدي وتوفي ادوار لابولاي قبل ذلك بعامين ولم يشهد نتائج مشروعة. ولكن حفيده فرانسوا دولابولاي كان سفيرا لفرنسا في الولايات المتحدة وهو يقول ان اكبر نجاح توصل اليه الواعدون بالتمثال هو أنه قد اصبح في نظر الامريكان ايضا تجسيدا لحلمهم.
هل كان هذا الحلم بعيدا عن الواقع في عام 1886، ففي ذلك الحين كانت الحرية التي تضيء العالم من مدخل مرفأ نيويورك لا تصل اضواؤها الا بشكل ضعيف الى عدد من زوايا امريكا. ولم يكن الهنود هنا لرؤيتها وكان الباقون منهم بعيدين جدا في محمياتهم، أما الزنوج الذين تحرروا من العبودية فلم يكونوا قد خرجوا بعد من ليل العنصرية الطويل الذي تخللته عمليات الإعدام الفوري شنقا بلا محاكمة.
أنارت الحرية أولا أمريكا المتعطشة للمكسب، ولقد وصف الكاتب ريتشارد هوفستيتر في كتابه “بناة عهد” وصف ذلك باسم عصر الجشعين حيث كان البعض يبني ثروته فوق الموت البطيء للاخرين كانت الفرق التي تطلق النار وتقتل تواجه المضربين وكانت تجري ملاحقة النقابيين كما لو كانوا متآمرين وكانت طبقة المجتمع الجيدة مكونة من الذين يكسبون وكانت اراء داروين المتعلقة بالانتقاء الطبیعی تسبب الذعر ولم تكن حرية ذلك العصر متفقة مع العدالة، ولم يمنع ذلك من أن يرى ملايين المهاجرين الذين يصلون أوروبا القديمة تمثال الحرية كأول صورة عن أمريكا وان يبقوا مؤمنين بوعود العالم الجديد ذلك لأن معظمهم كان قد ترك الجحيم وراءه فلقد هربوا من المجاعة في ايرلندا ومن المذابح في روسيا واضطهاد الأقليات في الإمبراطورية السويسرية – الهنغارية والبؤس في الأرياف البولندية.
وسرعان ما شق التمثال الرمز طريقة في أذهان الجميع حيث ان مارتن سيغال هو مدير لنكولن سنتر في نيويورك. كان قد هرب من مسقط رأسه في اوكرانيا في العشرينات، وكثيرا ما روي عن مدى تأثره بهذه الحرية الكبيرة، عندما وصل الى نيويورك، وهو في الثانية عشرة من عمره… وذلك حتى اليوم الذي قال له والده فيه بأنهم عندما عبروا الأطلسي انتهت رحلتهم في بوسطن وليس في نيويورك.
وهنالك الملايين من الأمريكان المقتنعين في قرارة أنفسهم ان هذا التمثال قد استقبل أجدادهم في أمريكا، حتى هؤلاء الذين وصلوا الى أمريكا قبل بناء التمثال، انها، نوعا ما أسطورة ذات أثر رجعي.
بقلم فرانسوا شلوسر
مصدر الصورة
pixabay.com
تمثال الحرية هدية فرنسية لامريكا