جمع وإعداد هياء عبدالله
المقدمة:-
المبحث الأول :
الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبَّبَ إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وأصلي وأسلم على خاتم النبيين محمد الصادق الأمين. وبعدُ: فإنَّ الإصلاح بين النّاس موضوع له خطره وأثره، فالقائمُ بالإصلاح بين الناس يتعرضُ كثيرًا للاتهام من الطرفين، لأنه يمثلُ الحقيقة في وضوحها، ولا يمكن أن يحيد، وقد يحدث أن كلا الطرفين أو أحدهما لا يرضى بالحقيقة، فلا بد له من الصبر الواسع على هذا الأمر العظيم، وله أجر عند ربه سبحانه وتعالى، فإن إصلاح ذات البين يُذهب وغر الصدور ويجمعُ الشملَ ويضمُّ الجماعة ويزيل الفرقة، والإصلاحُ بين الناس في دين الله مبعثُ الأمن والاستقرار، ومنبع الألفة والمحبة، ومصدر الهدوء والطمأنينة، إنه آية الاتحاد والتكاتف، ودليل الأخوة وبرهان الإيمان. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. والصلح خيرٌ تهبُّ به على القلوب المتجافية رياحُ الأنس ونسماتُ النَّدى، صلحٌ تسكنُ به النفوسُ، ويتلاشى به النزاعُ، الصلحُ نهجٌ شرعيٌ يُصانُ به الناسُ وتُحفظُ به المجتمعات من الخصام والتفككِ. بالصلح تُستجلب المودات وتعمر البيوتات، ويبثُ الأمنُ في الجنبات، ومن ثَمَّ يتفرغُ الرجالُ للأعمالِ الصالحةِ، يتفرغون للبناءِ والإعمار بدلاً من إفناءِ الشهورِ والسنواتِ في المنازعاتِ، والكيدِ في الخصومات، وإراقة الدماءِ وتبديد الأموال، وإزعاج الأهلِ والسلطاتِ، وقد أمر الله تعالى بإصلاح ذات البين وجعله عنوانَ الإيمان، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] ولأهمية هذا الموضوع على الفرد والمجتمع ، ورغبة مني في نشر ثقافة الاصلاح بين الناس وبيان أهميتها وفضلها كتبت هذا البحث المتواضع إيمانا مني بأهمية هذا الموضوع.
وقد جعلت هذا البحث في فصل واحد وستة مباحث:
المبحث الأول: مقدمة البحث.
المبحث الثاني: في تعريف الصلح في اللغة والاصطلاح.
المبحث الثالث: أنواع الصلح .
المبحث الرابع: الصلح في القرآن .
المبحث الخامس : الصلح في السنة.
الفصل الخامس: فضل إصلاح ذات البين.
الفصل السادس: أهمية الإصلاح بين الناس.
الفصل السابع : أهمية الاصلاح لأمن المجتمع.
الخاتمة.
النتائج.
الفهرس.
المبحث الثاني: في تعريف الصلح في اللغة والاصطلاح.
الصُّلْحُ الِاسْمُ مِنْ الْمُصَالَحَةِ أَيْ الْمُسَالَمَةِ وَهِيَ خِلَافُ الْمُخَاصَمَةِ وَقَدْ صَالَحَ فُلَانٌ فُلَانًا وَاصْطَلَحَا وَتَصَالَحَا وَاصَّالَحَا وَأَصْلَحَا بِقَطْعِ الْأَلِفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا } بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وَيَصَّالَحَا بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَهَا قِرَاءَةٌ أَيْضًا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاحِ وَالصُّلُوحِ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِصَلَحَ وَصَلَحَ مِنْ حَدِّ دَخَلَ وَشَرُفَ جَمِيعًا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَهُوَ ضِدُّ الْفَسَادِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أَيْ خِلَافَ بَيْنِهِمَا يُقَالُ شَاقَّهُ مُشَاقَّةً وَشِقَاقًا أَيْ خَالَفَهُ وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَصِيرَ هَذَا فِي شِقٍّ وَذَاكَ فِي شِقٍّ بِالْكَسْرِ أَيْ نَاحِيَةٍ وَأَصْلُهُ النِّصْفُ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا شُقَّ شِقَّيْنِ صَارَ نِصْفَيْنِ . ( )
وقيل الصلح في اللغة: اسم من المصالحة، وهي المسالمة بعد المنازعة،
وفي الشريعة: عقد يرفع النزاع. ( )
وقيل الصلح هو : عاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين المتخاصمين. ( )
وقال ابن منظور : الصَّلاح ضدّ الفساد صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً وأَنشد أَبو زيد فكيفَ بإِطْراقي إِذا ما شَتَمْتَني ؟ وما بعدَ شَتْمِ الوالِدَيْنِ صُلُوحُ. ( )
المبحث الثالث : الصلح في القرآن.
تكررت بل تواترت لفظة الصلح في القرآن الكريم ولا غرابة في ذلك فالقران الذي هو دستور الإسلام من أهم ما يدعوا إليه هو الصلح بين الناس ويحذر من الإفساد الذي هو ضد الإصلاح
ــــ قال تعالى : الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ سورة الشعراء (152)
ـــــ وقال تعالى : وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ سورة النمل (48).
_ وقد ورد لفظ (صلح) ومشتقاته في القرآن الكريم في ثمانين ومائة موضع، جاء في صيغة الفعل في ثلاثين موضعاً، من ذلك قوله تعالى: (وأصلحوا ذات بينكم) (الأنفال:1).
_ في حين ورد في صيغة الاسم في خمسين ومائة موضع، من ذلك قوله تعالى: {والصلح خير} (النساء:128). وقرن القرآن الكريم بين الإيمان والعمل الصالح في واحد وخمسين موضعاً، من ذلك قوله سبحانه: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (البقرة:25).
وسأكتفي هنا بذكر بعض الآيات التي وردت في الصلح لأنني سأذكر باقي الآيات في مبحث انواع الصلح :
قال تعالى : وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سورة البقرة (224)
قال تعالى:) لاَّخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (النساء (114)
قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ سورة الحجرات (10)
وقال تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ سورة الأنفال (1)
قال تعالى : وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ سورة الحجرات (9)
وقال تعالى : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا سورة النساء (128)
المبحث الرابع : الصلح في السنة.
الإصلاح بشكل عام وإصلاح ذات البين من عمل الأنبياء والرسل جميعا، لذلك كانت الأحاديث التي تحث على الصلح وبيان فضله ، وعظيم أجره كثيرة.
1_ عن أبي الدر داء- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ) :” ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلى قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة “. قال أبو عيسى الترمذي : ويروى عن النبي-صلى الله عليه وسلم_ أنه قال هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ” .
2_ وعن سعيد بن المسيب أنه قال : ” ألا أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة قالوا بلى قال إصلاح ذات البين وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة “.
وعن عائشة- رضي الله عنه- وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا قالت : ” هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها فتقول أمسكني واقسم لي ما شئت قالت فلا بأس إذا تراضيا ” .
3_ وعن أبي هريرة أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة قال أبو عيسى هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه ومعنى قوله وسوء ذات البين إنما يعني العداوة والبغضاء وقوله الحالقة يقول إنها تحلق الدين ” .
4_ وعن الزبير بن العوام أن النبي-صلى الله عليه وسلمقال : ” دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم.(
5_ وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله): ” أفضل الصدقة إصلاح ذات البين (
6_ وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله يقول : ” والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماماً مقسطاً وحكماً عدلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن عليه المال فلا يقبله ” .
وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم_يقول : ” الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً”
7_ وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي قالت : سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم. وهو يقول : ” ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمى خيراً ” .
المبحث الخامس: أنواع الصلح . ( )
الصلح بين الناس على أنواع ، وسأتناول في هذا المبحث ثلاثة أنواع من الصلح وهي:
الصلح بين أهل العدل وأهل البغي.
والبغي في الأصل معناه: الجور والظلم والعدول عن الحق. ( )
فأهل البغي هم: أهل الجور والظلم والعدول عن الحق ومخالفة ما عليه ائمة المسلمين. ( )
يجب أن يعلم أنه لابد للمسلمين من جماعة وإمام؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}، وقال تعالى: {يَا أيّهَا الذينَ آمنُوا أطيعُوا الله وأطيعُوا الرّسولَ وأولي الأمرِ منكُم}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد))، وهذا من الضروريات؛ لأن بالناس حاجة إلى ذلك؛ لحماية البيضة، والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجب أن يعرف أن ولاية أمر المسلمين من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا باجتماع الجماعة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، وقد أجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض؛ تنبيها بذلك على أنواع الاجتماع”.
وقال رحمه الله: “من المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، ولو تولى من الظلمة؛ فهو خير لهم من عدمهم؛ كما يقال: سنة من إمام جائر خير من ليلة بلا إمارة….” انتهى.
فإذا خرج على الإمام قوم لهم شوكة ومنعة بتأويل مشتبه، يريدون خلعه أو مخالفته وشق عصا الطاعة وتفريق الكلمة؛ فهم بغاة
ظلمة؛ فيجب على الإمام أن يراسلهم فيسألهم عما ينقمون عليه، فإن ذكروا مظلمة؛ أزالها، وإن ادعوا شبهة؛ كشفها؛ لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. ( )
فإن امكن حل المنازعة سلميا وإلا وجب استخدام القوة معهم حتى لا يشقوا عصى الطاعة ويتفرق المجتمع وتسود حالة الفوضي والخوف في البلاد بعد الأمن ، قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؛ فأوجب تعالى في هذه الآية الكريمة على المؤمنين قتال الباغين إذا لم يقبلوا الصلح ، وهذا هو حكم الإسلام.
اهتم الإسلام بالأسرة المسلمة واحاطها بسياج من الضوابط التي تكفل الحفاظ عليها ، كيف لا وهي اللبنة الأولى في المجتمع ، فإذا صلح الأساس سلم البنيان ، لكن قد تحدث المشاكل في الحياة الزوجية نتيجة اختلاف الثقافات ، والعادات ومستوى التدين .
2- الصلح بين الزوجين .
وإذا وقع الشقاق والنزاع ودبَّ في الحياة الزوجية واستمرَّ حتى يصل إلى حدٍّ تعسر معه الحياة؛ وتضيق منه النفس؛ فلا مناص من العلاج الشرعيِّ؛ وهو أحد طريقين:
الطريق الأول: الإصلاح بينهما.
والطريق الآخر: القضاء بينهما.ا
أمَّا الطَّريق الأول، وهو: الإصلاح بين الزوجين.
· فمن إيجابياته:
1.حصر المشكلة في نطاق ضيِّق.
2.ستر الأسرار من الانتشار؛ والبعد عن التقوُّل حين تطاير الأخبار.
3.بالصلح يتراضى الطرفان على حلٍّ وسطٍ؛ يكيِّفانه المصلحان الخبيران المؤتمنان؛ بما يضمن استدامة العشرة، وبقاء المودة.
والأصل في الصلح بين الزوجين قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } [النساء:35].
.الآية تشير إلى ضرورة وجود طرفان في الإصلاح؛ لأن الواحد لا يكفي؛ فهو لا محالة سيميل مع الأقوى تأثيراً من الزوجين؛ ولذا نصب الشارع الاثنان؛ ليرعى كل واحد منهما مصالح أحد الزوجين ويغلِّبها، ومما لاشك فيه أن للصلح بين الزوجين أثر عظيم في إزالة الشقاق والشحناء بين الزوجين ، كما أن في الصلح تجنب الطريق الآخر وهو طريق القضاء الذي يؤدي إلى النفرة بين الزوجين ، وزيادة رقعة المشاكل وخروج الأسرار المنزلية والتدخلات التي تزيد من حجم المشكلة
فالحمدلله الذي جعل لمن يتقيه مخرجا.
3- الصلح بين المتخاصمين في المال وغير المال.
إن الصلح الإسلامي المشروع يتضمن كل أنواع النزاع ،سواء بين الأفراد والجماعات ، او بين الزوجين ، أو حتى بين الدول ، أو في الأموال وغير الأموال ، كالديات والحدود.
ولقد جعل العلماء ، الصُلح في الأموال قسمان:
أحدهما: صلح على الإقرار وهو نوعان:
أحدهما: الصُلح على جنس الحق، مثل أن يُقِرَّ له بدَين فيضع عنه بعضَه، أو بعَينٍ فيَهبُ له بعضَها ويأخذ الباقي، فيصح إن لم يكن بشرط، مثل أن يقول: على أن تُعطيني الباقي، أو يمنعه حقَّه بدونه، ولا يصح ذلك ممن لا يملك التبرُّع، كالمكاتَب، والمأذون له، وولي اليتيم، إلا في حال الإنكار وعدم البينة، ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ لم يصح، وإن وضع بعض الحال وأجَّل باقيه صح الإسقاط دون التأجيل، وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه، مثل أن يُصالح عن دية الخطأِ أو عن قيمة مُتلف بأكثر منها من جنسها لم يصح، وإن صالحه بعَرضٍ قيمته أكثر منها صحَّ فيهما، وإن صالحه عن بيتٍ على أن يسكنه سَنَة، أو يبني له فوقه غرفة لم يصح.
وإن قال: أقرَّ لي بديني وأعطيك منه مِئة ففعل صحَّ الإقرار ولم يصح الصلح، فإن صالح إنسانًا ليقرَّ له بالعبودية، أو امرأة لتقر له بالزوجية لم يصح، وإن دفع المُدَّعى عليه العبودية إلى المدَّعِي مالاً صلحًا عن دعواه صح.
النوع الثاني: أن يُصالح عن الحقِّ بغير جنسه فهو معاوضة…
إلى أن قال: ويصح الصُّلح عن المجهولِ بمعلومٍ إذا كان مما لا يمكن معرفته للحاجة)). ( )
4-الصلح بين المتخاصمين في غير المال.
أي الصلح في الديات ، وأصله الكتاب والسنة ، قال تعالى : (قال: (وإذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص ووجب المال قليلا كان أو كثيرا) لقوله تعالى {فمن عفي له من أخيه شيء} الآية على ما قيل نزلت الآية في الصلح.
وقوله (عليه الصلاة والسلام: «من قتل له قتيل») الحديث والمراد والله أعلم الأخذ بالرضا على ما ذكر وهو الصلح بعينه ولأنه حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفوا فكذا تعويضا لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل فيجوز بالتراضي.
والقليل والكثير فيه سواء لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما كالخلع وغيره وإن لم يذكروا حالا ولا مؤجلا فهو حال لأنه مال واجب بالعقد والأصل في أمثاله الحلول نحو المهر والثمن بخلاف الدية لأنها ما وجبت بالعقد. ( )
الفصل الخامس: فضل إصلاح ذات البين.
إن الكلام في الاصلاح هو افضل الكلام فلا خير في كثير من اعمال الناس واقوالهم ومناجاتهم لبعضهم اذا لم يصحبوا نية الاصلاح بين الناس والبر فيما بينهم ،
قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس أفضل من تطوع الصيام والصلاة والصدقة .
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ )
قَالَ الترمذي : وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَنَّهُ قَالَ : ( هِيَ الْحَالِقَةُ . لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ) . رواه أبو داود ( 4273 ) والترمذي ( 2433 ) . وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .
وفي الإصلاح بين الناس تحقيق معنى الشفاعة الحسنة في المجتمع، لقوله تعالى:{ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها}(النساء:85)
وقال صلى الله عليه وسلم:«اشفعوا تؤجروا (مسلم:2627).
الفصل السادس: أهمية الإصلاح بين الناس وفوائده للفرد والمجتمع.
يستقر الأمن في المجتمع وتسود المحبة وتتصافى القلوب.
يسود في المجتمع العدل وإقرار الحق.
تستقيم حياة المجتمع المسلم ويتجه الناس للعمل المثمر لأن النفوس قد خلصت من الحقد والكيد للأخرين.
فيه تربية للنفس على العفوا والإيثار.
توفير للأموال التي قد تدفع للمحامين في رفع القضايا ضد بين المتخاصمين.
حقن الدماء التي قد تراق بين المتخاصمين .
حماية المجتمع من التفكك الذي قد ينتج عن تطور الخصام ووصوله للمحاكم.
امتثال أمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى الصلح حيث أنه من أفضل القربات ومن التقوى .(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)
فيه حفظ للمجتمع من الهلاك بسبب مايبذله الوسطاء في سبيل الصلح بين المتخاصمين . قال تعالى : (إنا لا نضيع أجر المصلحين)
تتطهر القلوب وتتزكى بالعفو والصلح . قال تعالى(وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم )
المحافظة على صلة الارحام ، لأن الخصومة تزيد في الهجر المنهي عنه.
المحافظة على الأطفال من التشتت الذي قد يفضي النزاع به الى الطلاق ,
الفصل السابع :الصفات التي يجب أن تتوفر في المصلحين .
احتساب الأجر وإصلاح النية وتحمل الأذى ، عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى ).
تذكير المتخاصمين بما يؤدي إليه الخصام والتحذير من عواقبه . قال تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الأنفال/46
لابأس من الكذب إن احتاج الأمر إلى ذلك وكان سبب في الصلح ، عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا ) . رواه البخاري ( 2495 ) .
اختيار الوقت المناسب للصلح بين المتخاصمين.
تحرّي العدل والحذر كل الحذر من الظلم” فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ” .
التلطّف في العبارة.
تمثل بأسلوب الداعى إلى الخير والتزام المنهج الرباني الذي دلنا عليه قول الحق عز وجل:( ادع الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن…)
الخاتمة.
قال بن القيم رحمه الله ” فالصلح الجائز بين المسلمين هو يعتمد فيه رضي الله سبحانه ورضي الخصمين ، فهذا أعدل الصلح وأحقه ، وهو يعتمد العلم والعدل ، فيكون المصلح عالما بالوقائع ، عارفا بالواجب ، قاصدا العدل ، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم ( )
وأخيرا ..
إن المكـارم كلها لو حصلت …… رجـعت جمـلتها إلى شـيئين
تعظيم أمر الله جـل جـلاله …… والسعي في إصلاح ذات البيـن
النتائج.
وتتضح فيها مدى أهمية الصلح واتخاذه منهجا لحل المنازعات والخصومات بدلا من حلها والفصل فيها في ساحات القضاء ، بل ويجب المبادرة في ذلك حتى لانتعطي فرصة للخصومة أن تتسع ويحصل مالا يحمد عقباهومن هذه الفوائد مايلي:
1ـ الإصلاح عبادة جليلة وخلق جميل يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو خير كله ” والصلح خير ” [ النساء : 128 ]
2. بالإصلاح تكون الأمة وحدة متماسكة ، يعز فيها الضعف ويندر فيها الخلل ويقوى رباطها ويسعى بعضها في إصلاح بعض .
3. بالإصلاح يصلح المجتمع وتأتلف القلوب وتجتمع الكلمة وينبذ الخلاف وتزرع المحبة والمودة .
4. الإصلاح عنوان الإيمان في الإخوان ” إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ” [ الحجرات : 10 ]
5. إذا فقد الإصلاح هلكت الشعوب والأمم وفسدت البيوت والأسر وتبددت الثروات وانتهكت الحرمات وعم الشر القريب والبعيد .
6. الذي لا يقبل الصلح ولا يسعى فيه رجل قاسي القلب قد فسد باطنه وخبثت نيته وساء خلقه وغلظت كبده فهو إلى الشر أقرب وعن الخير أبعد .
7. المصلح قلبه من أحسن القلوب وأطهرها ، نفسه تواقة للخير مشتاقة ، يبذل جهده ووقته وماله من أجل الإصلاح .