العولمة ظاهرة لا يمكن نكرانها، وتيار جارف سيغطي جوانب الحياة كافة، مما يجعلنا نحن العرب أمام تحدٍ جديد، وهو ألا نقع فريسة ثقافات هدامة، أو مسيطرة وإنما نتبادل التأثير والتأثر معها من منطلق استقلالية الثقافة العربية، ولقد جاء في توصيات اجتماع الخبراء الحكوميين حول السياسات الثقافية في البلاد العربية الذي نظمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس 23/27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1981 ما يأتي:
يوصي المؤتمر منظمة اليونسكو بالعمل على إيجاد نظام ثقافي عالمي جديد يقوم على أساس من الحوار المتكافئ بين الثقافات والاحترام لكل ثقافة ويهدف إلى تقديم صور أمينة عن الثقافات المختلفة بما يكفل تحقيق تفاهم أفضل بين الشعوب.
وعلى المستوى العالمي نقرأ الفقرة الثانية من توصيات الدورة الخامسة والأربعين للمؤتمر الدولي الذي نظمته اليونسكو في جنيف في تشرين الأول (أكتوبر) 1996، تقول الفقرة:
« إن ظاهرة العولمة التي تمس الاقتصاد والثقافة والمعلومات وعالمية العلاقات وتزايد حركة الأفراد، والتطور الهائل لوسائل الاتصالات وتدخل المعلوماتية في حياتنا اليومية ومجالات العمل كلها ظواهر تمثل تحدياً وفرصة أمام النظم التربوية، وفي الوقت نفسه يشهد كثير من المجتمعات والنظم التربوية مشكلات خطيرة على صعيد الاندماج الاجتماعي ».
ولقد تعددت تعريفات العولمة، وتنوعت حتى أصبح من الصعب تعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً فهناك تعريفات للعولمة من المنظور الثقافي، وتعريفات أخرى لها من الزاوية الاقتصادية، وتعريفات تنظر إليها كحقبة تاريخية.
والحقيقة إذا تتبعنا وجود العولمة تاريخياً من المنظور الثقافي فلا يمكن إنكار أن بغداد ودمشق والقاهرة كانت عواصم الثقافة العالمية، ومراكز إشعاع حضاري وعلمي وثقافي، وكانت الثقافة العربية هي الثقافة العالمية لعدة قرون، وكانت اللغة العربية هي لغة العلم، كما كانت العلوم العربية هي أساس النهضة الأوروبية بل والحضارة الأوروبية أيضاً، وبالتالي فالمقصود بالعولمة من المنظور الثقافي أو عولمة الثقافة هو « محاولة التقارب بين ثقافات شعوب العالم المختلفة بهدف إزالة الفوارق الثقافية بينها، ودمجها جميعاً في ثقافة واحدة ذات ملامح وخصائص مشتركة واحدة.
ولعل هذا التعريف يحمل معنى هيمنة الثقافة الأقوى على الثقافات الضعيفة إما عن طريق التفاعل الثقافي أو الامتزاج الثقافي في حالة تلاشي الحدود الجغرافية، وفي الحالتين تكون النتيجة هي طغيان ثقافة عالمية واحدة على الثقافات القومية والمحلية المتعددة ومحاولة إذابتها والحلول محلها. ( المفتي، 1999، 86 ).
والعولمة الثقافية تشير إلى محاولة وضع شعوب العالم في قوالب فكرية موحدة تنبع أساساً من الفكر الثقافي الأمريكي، وتسهم في ذلك الأقمار الصناعية والانترنيت والصحافة والسينما وغيرها، وهي محاولة لسلخ الشعوب عن ثقافتها وموروثها الحضاري.
ومن المهم هنا التفريق بين العولمة الثقافية المرفوضة والانفتاح المنشود على ثقافات الغرب والشرق بما يتفق مع ديننا ومبادئنا وقيمنا بقصد الاستفادة والدرس والبحث وتنمية الثقافة العربية وتطويرها. ( لافي، 1999، 245 ).
ويميز الجابري بين العولمة والعالمية قائلاً: العولمة إرادة لهيمنة، وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصية، أما العالمية Universalism فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصية إلى مستوى عالمي، فالعولمة احتواء للعالم، والعالمية تفتح على ما هو عالمي وكوني.
ونجد العالمية في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التعارف والحوار والتلاقح، إنها طريق « الأنا للتعامل مع الآخر بوصفه أنا ثانية »، طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة، أما العولمة فهي طموح، بل إرادة لاختراق « الآخر » وسلبه خصوصيته وبالتالي نفيه من « العالم » العالمية إغناء للهوية الثقافية، أما العولمة فهي اختراق لها وتمييع. (طعيمة، 1999، 27).
وأما الهوية القومية فيقصد بها السمات التي يتمسك بها مجتمع من المجتمعات وتميزه عن غيره من المجتمعات، وهذه الهوية قد تأصلت عبر العصور نتيجة عدة تراكمات متتالية تعرض لها المجتمع وتتمثل في جانبين هامين هما الجانب المادي يما يتضمن من معارف وعلوم وفنون واكتشافات واختراعات وابتكارات، والجانب المعنوي الذي يتضمن عادات المجتمع وقيمه وأخلاقيات أفراده وسلوكياتهم، وكلما تأصلت الهوية القومية في نفوس أفراد مجتمع ما ساعد ذلك على التأثير في ثقافات المجتمعات الأخرى.
وأما المحاولات التي تقوم بها المجتمعات لتدمير الهوية القومية لمجتمعات أخرى أو النيل منها سواء بالسيطرة أم القهر أم الإذلال فإنها تؤدي في النهاية إلى فقدان التماسك الاجتماعي، والتوحد المعنوي بين البشر والأرض والظروف والإمكانيات. (نصر، 1999، 71).
فالهوية القومية تمثل مجموع خصائص وسمات الأفراد وبالتالي فهي تمثل خصائص كل شعب، فهي تعبر عن خصوصية وتمايزات وانتماءات كل شعب عن غيره من الشعوب.
ويرى الباحث أن الهوية القومية تمثل سيكولوجية الأمم والشعوب، فهي تعبر عن سمات الأمة وخصائصها في تعاملها مع غيرها من الأمم، (الفقي، 1999، 207)، وإذا كانت الهوية القومية تقوم على أسس أربعة هي: مفهوم الأمة وخصوصية الثقافة، والذاكرة الوطنية، والحدود الجغرافية، فهل تعني العولمة القضاء على ذلك كله؟ يبدو لنا أن ذلك مستحيل. (أبو حطب، 1999، 5).
إذاً ما العلاقة بين العولمة والهوية القومية ؟
شكلت فترة السبعينات من القرن العشرين ، بداية الحديث عن عولمة جديدة، ففي تلك الفترة أطلق عالم الاجتماع الكندي”مارشال ماكلوهن” مصطلح القرية الكونية إشارة منه إلى ثورة الاتصالات والتقانة الحديثة التي قربت المكان إلى المكان، والتي ألغت كذلك الحدود الايدلولوجية بين المجتمعات الإنسانية. هذا التطور في علوم الاتصال جعل الدولة الأقوى في العالم ونعني الولايات المتحدة الأمريكية تفكر حينها في استخدام التقدم العلمي والتقني لصالحها ولفرض هيمنتها على العالم، وهذا يتضح جلياً في فكرة بريجينسكي (مستشار الرئيس الأمريكي السابق كارتر للأمن القومي) والذي رأى أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تقدم للعالم النموذج الكوني للحداثة، أي أن يعيش العالم بثقافاته المختلفة على منوال الثقافة الأمريكية . ومنذ ذلك الحين والدراسات تتكاثر محاولة تحديد مفهوم العولمة من جانب وتأطير سلبياتها من جانب آخر.
ويذكر تقرير الأمم المتحدة الصادر عن اليونسكو في عام 1999 م أن التجارة العالمية ذات المحتوى الثقافي قد تضاعف من عام 1980ـ1990 م ثلاث مرات إذ ارتفع من 67 مليار دولار إلى 200 مليار . على أن الجانب الخطير في تضاعف نسبة هذا النوع من التجارة يتمثل بسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على صناعة المواد الثقافية ، ويضيف التقرير إن هذا الهجوم للثقافات الأجنبية يهدد التعدد الثقافي العالمي ويعرض مجتمعات العالم إلى فقدان الهوية الثقافية .
كما يذهب بعض المفكرين على الصعيد العالمي إلى أن العولمة تحمل في بنيتها الأيديولوجية الرغبة في التوحيد النمطي للثقافة العالمية، وإخراج الصور المحلية أو التقليدية والتي تمثل الخصوصية الثقافية ، واستبعادها لتفسح الطريق للتلفزيون الأمريكي وللموسيقى والأطعمة والملابس والأفلام الأمريكية.
الأمر الذي جعل دولة أوروبية لها وزنها على الخريطة السياسية العالمية ونعني “فرنسا” تعلن حين توقيعها على اتفاقية الغات (حرية التجارة العالمية) ما أسمته الاستثناء الثقافي، وهي بذلك تعبر عن توجسها الشديد من الأمركة Americanization.
كما ذهب العديد من المثقفين العرب على أن الذين يسوقون للعولمة الثقافية ويعتبرونها حقبة جديدة للانتقال إلى ثقافة كونية إنما يتوهمون، ويذهب هؤلاء المفكرون إلى أن العولمة الثقافية هي فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، يهدد بشكل أساسي الهوية الثقافية للمجتمعات الإنسانية. وفي الحقيقة بدأنا نلاحظ اليوم بعض الأفكار والقيم وأنماط من السلوك جديدة في مجتمعاتنا العربية وبالخصوص في أوساط الشباب، حيث إن هذه المنظومة القيمية الجديدة تمثل في حقيقتها طريقة الحياة التي تسوق لها العولمة الأمريكية، بدءاً من أسلوب الحياة الذي طغى عليه التفكير الاستهلاكي، إلى ملصقات العلم الأمريكي على الملابس والسيارات وأسماء المحلات التجارية وطريقة قص الشعر …الخ.
مما لا شك فيه أن للعولمة تأثيراً واضحاً على الهوية القومية ويختلف المحللون لظاهرة العولمة حول تحديات ذلك الأثر على الهوية القومية، وذلك على النحو الآتي: فالمؤيدون لظاهرة العولمة يرون أنها تسهم في انتشار التكنولوجيا الحديثة من مركزها في العالم المتقدم اقتصادياً إلى باقي أنحاء العالم، ومن ثم زيادة الإنتاج زيادة واضحة، ويرون أن ذلك في حد ذاته يغفر للعولمة أي تأثير سلبي يمكن أن ينتج عنها على الهوية القومية، بل يرى بعضهم أن هذا التأثير بسيط، وبعضهم الآخر أكثر تفاؤلاً حيث يرى أن الهوية القومية سوف تفيد من العولمة بدلاً من أن تضار.
كما يرى أنصار هذا الرأي أن العولمة تسهم إسهاماً واضحاً في نقل المعلومات وتخزينها وتوفيرها لمن يريد الانتفاع بها، وفي سبيل ذلك تهون الهوية القومية.
أما الرافضون للعولمة فيرون فيها مزيداً من الاستغلال الاقتصادي، والمثال المؤيد لذلك ما تفعله الاستثمارات الأجنبية بالدول الأقل نمواً، وكذلك الحال بالنسبة للسلع المستوردة ومنها الأدوية على سبيل المثال.
ويرى هؤلاء أن حماية الهوية القومية واجبة كوسيلة للتصدي لهذا الاستغلال، حيث إن إثارة الحمية الوطنية والحماسة للثقافة الوطنية قد يعطلان هذا الاتجاه لدى الرأسمالية العالمية للانتشار.
كما أن فريقاً من الرافضين يكره العولمة لسبب ديني، فهي إما آتية لنا من مراكز تختلف أديانها أو قد تأتي من دول تنكر الأديان.
بينما يرى فريق ثالث من الرافضين للعولمة أنها ليست غزواً اقتصادياً أو غزواً علمانياً فحسب، بل غزواً قومياً بمعنى تهديد هوية أمة لهوية أمة أخرى. (أمين، 1998، 46).
ونستطيع القول بأن العولمة قد تؤدي إلى تعظيم الإنتاج، على الأقل من وجهة نظر العالم ككل، كما تمثل تقدماً في زيادة معرفة الإنسان والسيطرة على الطبيعة وتنمية بعض أنواع الإنتاج العلمي والفن، ولكنها في الوقت ذاته تمثل اتجاهاً نحو مزيد من الاستغلال الاقتصادي من جانب الشركات العملاقة بالنسبة لأفراد الدول الأقل تقدماً، وقد تعمل على انتعاش الجانب الاقتصادي للدول المتقدمة، بينما لا تحقق ذات الشيء للدول الأقل تقدماً، بل قد يحدث عكس ذلك، وبمعنى آخر فإن نتائج العولمة ستخدم الدول الكبرى أكثر من خدمتها للدول النامية، ومما يزيد من خطورة العولمة تلك المعلومات التي تبثها شبكات الإعلام الدولية والتي غالباً ما تسيطر عليها القيم الغربية التي لا تتناسب مع قيمنا وتقاليدنا الشرقية الأصلية.
وخلاصة القول إن العولمة بقدر ما لها من إيجابيات فإن لها أيضاً سلبيات تؤثر في المقام الأول بالسلب على الهوية القومية. ( نصر، 1999، 74-75 ).
وأمام كل ذلك، فنحن المربين نسأل أنفسنا: هل نلجأ إلى عولمة التعليم، أم إلى تعليم العولمة، أم ماذا ؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إذا كان لنا أن نحافظ على بقائنا لا يكون بالاختيار الأول الذي يعبر عن موقف الاندفاع والهرولة للحاق بالركب دون فهم لطبيعة ما يجري وما يمكن أن يؤدي إليه عولمة التعليم والأصح أن نتوجه نحو تعليم العولمة، وهذا البديل هو الأصوب، لو قورن ببديل آخر لا يقل ضرراً وخطراً عن عولمة التعليم وهو إنكار العولمة أو استنكارها.
إن تعليم العولمة يعني فهمها وتعرف مبادئها وافتراضاتها والنتائج المترتبة عليها، ويعني إنشاء علم غائب من علم شاهد أي بناء ( فقه ) علمي صحيح لها، ويعني تدريب أطفالنا وشبابنا على فنيات وآليات التعامل معها، وإدراك ما تتضمنه من تهديدات وفرص، فالعولمة ليست شراً خالصاً، كما أنها ليست خيراً محضاً، وإنما هي شأنها شأن كل التحديات التي واجهت الإنسان طوال تاريخه، تجمع بين المخاطر والإمكانيات، درءاً لمخاطرها وسلبياتها واستثماراً لإيجابياتها.
إن مواجهة العولمة يجب أن تكون من داخلها، وإثبات الوجود الوطني والهوية القومية فيها، والخروج منها لا عليها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. (أبو حطب، 1999، 6-7).
ولمعرفة مدى إدراك طلاب الجامعة لمفهوم العولمة وعلاقته بالهوية والانتماء، فقد قام الباحث إسماعيل الفقي بدراسة استطلاعية تناولت مفهوم العولمة في إطار من البحث النفسي والتربوي وعلاقته بكل من الهوية والانتماء، وشملت طلاب كلية التربية بجامعة عين شمس، وتبين من النتائج التي توصلت إليها الدراسة أن الاستنتاجات الأولية تعبر عن مدى إدراك عدد من طلاب الجامعة لمفهوم العولمة الذي فرض نفسه على كل دول العالم بثقافاتها المختلفة، وكشفت النتائج عن علاقة هذا المفهوم بمتغيرين آخرين مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بهما وهما الهوية والانتماء.
ورأى الباحث أن مفهوم العولمة لم يخضع للبحث المنهجي كدراسة امبريقية من قبل، بالرغم من تناول كثير من المتخصصين في مجالات العلوم المختلفة لهذا المفهوم تناولاً نظرياً فلسفياً تنظيرياً، وتطلع إلى دراسات أخرى أكثر عمقاً لمفهوم العولمة في علاقته وتفاعله مع متغيرات أخرى في مجال التربية وعلم النفس. (الفقي، 1999، 232).
وكم نحن اليوم بحاجة إلى دراسات علمية موضوعية تتناول العولمة من كافة جوانبها ومدى تأثرها وتأثيرها في المجالات الحياتية المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية وانعكاساتها على الهوية القومية والشخصية العربية في القرن الحادي والعشرين.
ونظراً للطبيعة الشمولية التي تتصف بها العولمة، ولتأثيراتها الفعالة على المجتمعات المعاصرة، ما كان منها متقدماً وما كان متخلفاً، لم يعد هناك مفر من اتخاذ موقف منها، إما بتأييدها أو بمعارضتها أو باتخاذ موقف توفيقي يوائم بين مسايرة العولمة وبين الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية.
قبل البدء بالحديث عن مواقف الباحثين والمفكرين العرب إزاء مفهوم العولمة ، فإنه ومن الأهمية بمكان أن نؤسس للموقف من العولمة وذلك من خلال بيان الآليات التي تحرك العولمة وتفعل أثرها على ظهر هذه المعمورة ، وهذه الآليات هي كالآتي:
1ـ الشركات متعددة القوميات : فقد ظهر على أثرها مخاوف سياسية تتعلق بإمكانية ظهور نوع جديد للقوة الثنائية وهيمنة سلطة هذه الشركات العملاقة المتعالية على القوميات وتغدو متحكمة في السلطات القومية.
2ـ تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات الحديثة التي جعلت العالم قرية كونية ـ على حد تعبير مارشال ماكلوهان ـ هذه الثورة جعلت من مشكلة مونيكا لوينسكي الشغل الشاغل للرأي العام العالمي في حينها وهو يتابع قصة غرام الرئيس الأمريكي بيل كلنتون مع موظفة البيت الأبيض. ويمكن النظر إلى ثورة الاتصالات والإعلام في خدمتها من خلال مواقف الدفاع عن الأرض والحقوق ، فقضية استشهاد الطفل محمد الدرة على يد الصهاينة وبث وسائل الإعلام العالمية للطريقة التي قتل بها الدرة ليس عنا ببعيد .
3ـ صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية: وقد عانت شعوب العالم الثالث كثيراً من ممارسات هذه المنظمات المالية، على أن الحديث اليوم في ظل العولمة يشير إلى أخطار فادحة أكثر من السابق، فالقروض التي تمنح للدول والاستثمارات الأجنبية ودخول تكنولوجيا المعلومات في تحويل رأس المال، كل ذلك يمكن استخدامه للهيمنة وإفقار المجتمعات ، فعلى سبيل المثال يمكن لتحويلات فورية لرأس المال أن تهدد بإشاعة الفقر في أقاليم بأكملها واستنزاف بين عشية وضحاها كل القيم التي تراكمت على مدى سنوات من العمل الوطني (جيبسون،2001).
وبفضل هذه الآليات استطاعت العولمة الحالية أن تضع العالم بأسره تحت حتمية الموقف، وفي رأي روزناو (أحد أبرز علماء السياسة الأمريكان) أن العولمة تنتشر وتحقق مراميها من خلال أربع طرق متداخله مترابطة وهي كالآتي:
1ـ من خلال تفاعل الحوار الثنائي الاتجاه عن طريق تقانة الاتصال.
2ـ الاتصال المنولوجي أحادي الاتجاه من خلال الطبقة المتوسطة.
3ـ من خلال المنافسة والمحاكاة.
4ـ من خلال تماثل المؤسسات.
ومن حيث الموقف العربي من العولمة، ينقسم المفكرون إلى ثلاثة أقسام على النحو الآتي:
المؤيدون: وهم الأقلام العربية التي نمت وترعرعت في ظل الحداثة الغربية والانبهار بالغرب والتغني بحضارته التي تدعو للتعامل مع العولمة كظاهرة إنسانية إيجابية، وليس استعمارية، توسعية، ساعية لتهميش الدول والمجتمعات لصالحها.
ويعزي المؤيدون للعولمة مزايا اقتصادية وتكنولوجية وقيمية، من هذه المزايا فتح الحدود، وتيسير تدفق السلع والخدمات والأفكار بغير قيود، وإنشاء الشبكات الاتصالية التي تجعل العالم وحدة واحدة مثل شبكة الإنترنت، وإنشاء المؤسسات العالمية مثل مؤسسة التجارة العالمية.
ومن حيث النسق القيمي، يعزي المؤيدون للعولمة أن القيم التالية ارتبطت بها: احترام حقوق الإنسان، احترام إرادة الشعوب في تقرير مصيرها، اقتران مبدأ التعايش بين الثقافات والعقائد، الدعوة إلى تشكيل حكومة عالمية تمنع الحروب وتوطد السلام.
الرافضون: هم مجموعة الأقلام للأحزاب الأيدلوجية بمختلف تياراتها، والتي تعد العولمة نتاجاً تراكمياً لمجموعة التغيرات الأوروبية العاصفة في البنى الاجتماعية القائمة بفعل التحولات المجتمعية الطبقية والاقتصادية والكيانية، ويشكك هؤلاء بالفوائد المزعومة للعولمة، ويصفونها بأنها استلابية قاتلة للحضارات وثقافات الشعوب، وملغية للدول الوطنية والمجتمعات القومية ومتجاوزة تراث الشعوب وحضارتها، ومحاولة تعميم الثقافة الغربية وفق النمط الأمريكي الليبرالي على كل المجتمعات.
ويمتد خطر العولمة وقيمها التنافسية داخل الدول نفسها، حيث يسود التغابن الاجتماعي وعدم تساوي الفرص وضياع العدالة وخصوصاً في الدول التي تبنت قيم العولمة من غير تطوير لنظمها الاجتماعية والسياسية والإدارية بما يتفق وقيم العولمة التي تطورت في المجتمعات المتطورة أصلاً اجتماعياً وسياسياً وإدارياً واقتصادياً.
ولعل من الطريف أن نقتبس ما ذكره أحد الكتاب في هذا السياق: « لم نعد نعرف إن كنا في مصر العربية أم في أمريكا أم في بريطانيا ؟ فالحاج عتريس يسمى شركته عتريسكو بدلاً من شركة عتريس، ومتولي كو بدلاً من شركة متولي. ونقول دريم لاند بدلاً من أرض الأحلام، وجرين لاند بدلاً من الأرض الخضراء، وهبي لاند بدلاً من الأرض السعيدة، ومحلات البقالة أصبح اسمها ماركت، والعمارات أصبح اسمها سنتر، والجنون نقول عليه كريزي، والسحري نقول عليه ماجيك، واختفت لدى جيل هذه الأيام أكلات الفول والطعمية وغيرها، لكي تنتشر أطعمة أقل منها غذاءً ونفعاً وأغلى منها ثمناً مثل الهامبورجر والكنتاكي والبيتزا، وأصبح من المعتاد أن يتخذ محل تجاري أو شركة اسمه باللغة الأجنبية ويمارس أعماله باللغة الأجنبية في تحدٍ سافر للقانون ولهوية هذه الأمة، ومع تراجع مستوى التنشئة الثقافية كانت النتيجة أن جيل الشباب الحالي فيما عدا قلة أصبحوا في حالة ضياع ثقافي، فلا هم ينتمون إلى مصادر الثقافة الغربية التي نهلوا منها، ولا هم قادرون على استيعاب منابع الثقافة العربية، ولعل أبسط دليل على ذلك ليس فقط جهلهم بتراث آبائهم بل حبهم وتذوقهم لموجة الغناء الهابط والتسطيح الثقافي ». (طعيمة، 1999، 37).
ج- الإصلاحيون: وهم مجموعة من الأقلام التي تدعو إلى العقلانية والواقعية السياسية في التعامل مع مناقب العولمة دون الانبهار بآلياتها ودون الاندماج في عمقها، ويتطلب ذلك الدراسة المعمقة للظاهرة العولمية في المسارات التطورية كلها، وبالتالي دراسة إمكانيات الوطن العربي وحكوماته البشرية والاقتصادية والفكرية في سياق مقارن مع قدرات العولمة ومحاولة رسم برامج مناسبة واقعية التنفيذ في تحديد عوامل القوة والضعف وأساليب المواجهة المحتملة على أبواب القرن الحادي والعشرين.
ينبغي علينا إذن أن نفهم ظاهرة العولمة فهماً صحيحاً بما لها وما عليها بعيداً عن كل تهوين أو تهويل إن من السهل اليسير أن يقف الفرد عند حدود المعارضة للعولمة أو عند قبولها كحتمية تاريخية، ولكنه في كلا الحالتين يفقد أكثر مما يكسب، ولعل أخطر وأثمن ما يفقده المرء هويته !
وينبغي أن تتضافر جهود المفكرين العرب حتى نقف مع هذا الخيار الثالث الذي يرفض التطرف في كلا الاتجاهين ( التهوين أو التهويل ) إن العولمة تمثل تحدياً كبيراً يلزمنا مواجهته والعمل على تعظيم مصالحنا حيالها ومكاسبنا من ورائها، وفي الوقت نفسه تحجيم أضرارها المحتملة، وعلى حد تشبيه أحد الباحثين:
« إن العولمة تشبه سيلاً جارفاً لا بد من الارتماء في لجته ومن المستحيل علينا أن نسبح في هذا السيل ضد التيار، ولكن من الممكن لنا إذا تعلمنا السباحة بشكل جيد، وتزودنا بنوع من الملابس الجيدة الواقية من البلل ألا نغرق في لجة التيار، بل يمكن أن نضمن عدم انجرافنا، دون إرادتنا بمياه النهر ».
وعلى حد تعبير محمد عابد الجابري هناك موقفان سهلان، وهما السائدان، موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق، وموقف القبول التام للعولمة وما تمارسه من اختراق ثقافي واستتباع حضاري شعاره « الانفتاح على العصر » و « المراهنة على الحداثة » إن الانغلاق موقف سلبي غير فاعل، ومثل الانغلاق الاغتراب.
إن الارتماء في أحضان العولمة والاندماج فيها ثقافة تنطلق من الفراغ أي من اللاهوية، ويعبر عن الموقف الإصلاحي المتعقل أحد الكتاب قائلاً: « من الضروري الانفتاح الدائم على كل شعوب الأرض وتبادل المعارف والخبرات والسلع أيضاً وإشباع الحاجات المتبادلة تحقيقاً للخير المشترك لجميع الدول خاصة بعد أن أصبح العالم كله مثل قرية صغيرة أو غرفة كبيرة بغير أسقف ولا جدران ولا حواجز ولا أسلاك.
ولكن الفارق كبير بين الانفتاح والانصياع بين الفحص والتعرف والاختيار ثم الاختيار والانتقاء والتنقيح والمزج والتفاعل والابتكار والإبداع فيه، وبين التلقي والإذعان والانقياد والتقليد الأعمى والمسخ الشائه والاستنساخ الجاهل المميت، والفارق كبير بين الندية والتبعية.
ماذا نصنع مع فقدان الثقة بالنفس وماذا نصنع مع الشخصيات المهزوزة ومركبي النقص والانبهار الأحمق بكل ما هو خارجي وأجنبي حتى ولو كان في الحقيقة من صنعنا ولكن التاجر الخبيث نزع العلامة العربية، ووضع مكانها كذباً وزوراً العلامة الأجنبية وهذا يحدث فعلاً وليس من قبيل المبالغة أو الافتئات.ولقد وصل بنا الحال إلى حد إهمال لغتنا العربية وقبلها ديننا وحضارتنا وثقافتنا لأننا غارقون في بحر التشبه والتقليد والمسخ والتشويه، غارقون حتى نكاد نهلك وبالتالي فلا بد من وقفة تنشلنا من دوامة الهلاك وتعيد إلينا هويتنا وشخصيتنا وكياننا. (طعيمة، 1999، 35-39).
وأخيراً: كم نحن بحاجة إلى دراسات علمية، وعلى كافة المستويات التعليمية والجماهيرية لنقف من خلالها على حقيقة هذه المواقف، ونتلمس طبيعة الأمور الكامنة وراءها.
الأستاذ الدكتور أحمد علي كنعان
رئيس قسم المناهج وأصول التدريس
كلية التربية – جامعة دمشق
مراجع البحث
إبراهيم، خالد قدري وعبد المنعم، ناديا (1999) الدراسات البينية في مدخل لتطوير مناهج التعليم المصري في ضوء العولمة، الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
أبو حطب، فؤاد (1999)، العولمة والتعليم، بين عولمة التعليم وتعليم العولمة، الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
أمين، جلال (1998)، العولمة، سلسلة اقرأ، رقم636،دار المعارف، القاهرة.
بخيت، خديجة أحمد السيد (1999) العولمة وتأثيراتها على مناهج التعليم، أهم الاتجاهات العالمية في هذا السياق وكيفية الإفادة منها في تطوير مناهج الاقتصاد المنـزلي للقرن الواحد والعشرين، الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
الجابري، محمد عابد (1998)، العولمة والهوية الثقافية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2.
جيبسون ،فريدريك (2001) العولمة والاستراتيجية السياسية ، ترجمة شوقي جلالا ، مجلة الثقافة العالمية ،الكويت ، العدد 104.
ديلور، جاك ( 1998)، التعلم ذلك الكنز الكامن، تعريب، د. جابر عبد الحميد جابر، القاهرة، دار النهضة العربية.
السويدي، وضحى(1994) الجامعة ودورها في مجال البحث العلمي، مجلة التربية، قطر العدد 110 السنة 23، سبتمبر.
السيد، محمود أحمد (1997) من التحديات التي تواجه التعليم العربي في المرحلة القادمة، بحث مقدم إلى المؤتمر التربوي الذي عقدته كلية التربية بجامعة دمشق بتاريخ 11-13-/5/1997 بمناسبة الاحتفال بالعيد الذهبي لتأسيس الكلية.
طعيمة، رشدي أحمد (1999)، العولمة ومناهج التعليم العام، الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
الفقي، إسماعيل (1999)، إدراك طلاب الجامعة لمفهوم العولمة وعلاقته بالهوية والانتماء ” دراسة أمبريقية ” الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
فلوح، فايز (2000)، البحث العلمي دليل على رقي الأمة ورغبتها في التقدم، نشرة جامعة دمشق، العدد/76/ كانون الثاني.
قرم ، جورج (2003) مشكلة الهوية والانتماء القومي عند العرب ، مجلة العربي ، العدد 537 ، أب /أغسطس / الكويت .
كنعان، أحمد، (2001)، البحث العلمي في كليات التربية بالجامعات العربية ووسائل تطويره. مجلة اتحاد الجامعات العربية، العدد الثامن والثلاثون، كانون الثاني (يناير)، 2001.
لافي، سعيد عبد الله (1999) تقويم محتوى مقررات التربية الإسلامية بالمرحلة الثانوية في ضوء تحديات العولمة، الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
المفتي، محمد أمين(1999)، توجهات مقترحة في تخطيط المناهج لمواجهة العولمة، الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
نصر، محمد علي(1999) إعداد المعلم وتدريبه بين العولمة والهوية القومية، الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، القاهرة.
وزارة التعليم العلي في الجمهورية العربية السورية(1975) اللائحة الداخلية لتنظيم الجامعات.
وزارة التعليم العالي في الجمهورية العربية السورية (1999) اللائحة الداخلية لكليات التربية.
وزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية ، مجلة المناهج، العدد الأول ، 1422هـ/2002 م .