إن المجتمع الحديث قد اخذ يعي أهمية العلم في عملية التطور والنمو، والواقع أن العلم بحد ذاته ليس هو الذي يثير مثل هذا الاهتمام البالغ بالقدر الذي تثيره إمكانيات تطبيق نتائجه في مجالات الإنتاج ٠
وبهذه المكانة الجديدة التي تبوأها العلم في المجتمع تعرض هو نفسه للتغير متخطيا الحدود التقليدية المعروفة للمعرفة، تخطيا مذهلا، وفي الوقت ذاته أخذت تتشكل سلسلة كاملة من فروع المعرفة المتمازجة : كعلم الكيمياء العضوية ، والفيزياء العضوية أو الكيمياء الفيزيائية والكيمياء الرياضية ، واليوم نشهد ولادة علم النفس الإحصائي ، وعلم اللغويات الرياضي وكذلك دمج علم الأصوات بعلم الفيزياء الموجية ٠
فالعلوم الحديثة تتصف بنزعتين هما:
( ا ) النزعة نحو زيادة التخصص.
(2) والنزعة نحو الاندماج والتكامل ٠
وهاتان النزعتان ، وان كانتا تبدوان متعارضتين إلا أنهما تعبران عن غرض واحد هو تعميق معرفتنا للظواهر التي لا يمكن إدراكها عن طريق الاكتشاف التجريبي والتدقيق الحسي .
ويبدو أن العلماء في منتصف القرن العشرين قد تخلوا عن تصنيف العلوم الذي كان معروفا في القرن التاسع عشر.
فالفيزياء النووية تتعاون وتتداخل مع البليونتولوجيا ( علم يبحث في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة كما تمثلها المتحجرات أو المستحاثات الحيوانية والنباتية ) . كذلك تتداخل الفيزياء النووية وتتعاون مع علم الآثار ٠ ومثل هذا التعاون بين الفيزياء النووية وعلم الآثار يهدف الى تقرير عمر المستحدثات والموضوعات الأثرية . وبالمثل يمكننا ملاحظة تعاون بين حشد كامل من العلوم هدفه حل المشكلات الخاصة بتاريخ الدين أو حتى حول المشكلات المتعلقة بمعنى النصوص والمتون الدينية ٠ ومن هنا فإننا لا نندهش إذا ما ظهر لنا أن هنالك تعاونا مماثلا وثابتا بين علم التكنولوجيا والعلوم الطبيعية وعلوم الفيزياء و الكيمياء الخ .. فهذه حقيقة كان من شأنها أن غيرت وجه المهن التقليدية .
وهنا أمر يفرض على التربية الراهنة متطلبات جديدة لا بد من تلبيتها. فالتطور أو النمو يسير بسرعة متزايدة ٠ وسرعة التطور هذه تفوق كثيرا التوسع الحاصل في الأنظمة التربوية ٠ ومن هنا تظل هنالك فجوة دائمة بين المدرسة والحياة يتأتى عنها في اغلب الأحيان قلق اجتماعي .
فالطلبة الذين تقدم التربية لهم مساقات ذات نمط قديم لا يجاري روح العصر يشعرون أن إعدادهم لمهنة المستقبل إنما هو إعداد سيئ وبالتالي ، فإنهم يشعرون بان المدرسة تضللهم وتخدعهم وتغرر بهم ، ونتيجة لهذا القلق وعدم الاستقرار الاجتماعي تنشأ حاجة إلى إصلاح البنية المدرسية إصلاحا كاملا ودقيقا. غير أن مجرد الإصلاحي العادي ليس هو الأمر الملح ، إذ ليست المسألة هي مسألة إيجاد معايير أكثر جدة وحداثة بقدر ما هي مسألة إيجاد نظام مدرسي يساير في نموه وتطوره سرعة تقدم العلم والتكنولوجيا الحديثة ويكون ملبيا للحاجات الناشئة عنهما ٠
وهذه مشكلة ليس من السهل حلها ، وقبل أن نقرر بان تغيير أسس تنظم المدرسة وأساليب التعلم أمر ضروري يجب أن نحاول تحليل فائدة هذه الأسس وإمكانية تطبيقها مع ما يلازمها من حاجات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو سؤال يخص الطرق والأساليب: ماذا نفعل بالأسس والمبادىء القائمة ؟ فالمشكلة التقليدية التي لازالت ماثلة حتى الآن وهي ما إذا كان يجب على المدرسة أن تقدم للطلبة تعلما تخصصيا منذ البداية أم على العكس من ذلك تنحى جانبا كل الموضوعات المفرطة في التخصص لإعطاء دراسة المبادىء الأساسية وزنا اكبر ٠
والواقع أن مشكلة التخصص الشديد والتكامل في العلم الحديث لا تشكل معضلة حقيقية على الإطلاق، إلا أن السؤال يظل ماثلا: هل يمكننا إيجاد مدرسة تجمع ين التخصص والتكامل؟
من الواضح أن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على المعنى الذي نعزوه لمصطلحات (التخصص) و (التكامل) ٠ فإذا كنا نعنى بالتخصص « تدريب الشاب على تخصص من التخصصات أو مهنة من المهن » فإننا سنجيب في هذه الحالة أن بالإمكان إقامة مثل هذه المدرسة التي تجمع بين التخصص والتكامل ٠ والسؤال الآن هو هل هذا المفهوم صحيح ؟ إذا كانت الإجابة عن هذا للسؤال تستند إلى الواقع ، وسواء كانت سلبا أو إيجابا ، فان الجمع بين التخصص والتكامل سيكون ، عندئذ ، أمرا ممكنا بقدر ما تسمح به العلاقات القائمة بين المبادئ أو الأسس والبنية المدرسية.
فإذا كانت بنية المدرسة مصطنعة في طبيعتها فيجب أن تخضع لبحث خاص ودقيق هدفه التوصل الى أفضل الأنماط ملاءمة للتطور السريع في نقل المعرفة ٠ ومن ناحية ثانية ، اذا كانت العلاقة العضوية بين المبادئ والأسس تشكل بنية عميقة فان هذا الأمر يمثل المحك أو القاعدة الوحيدة للتنوع الممكن في المعرفة . وهذا ما يمكننا تعريفه بأنه تكامل واندماج ٠
وأما الجانب الآخر من المشكلة فيخص العلاقة بين العلوم والآداب ٠ إذ لا يمكننا أن نقيم تكاملا بين كل العلوم وكل الآداب ٠ وأكثر من ذلك فإننا لا نستطيع إقامة تكامل بين كل العلوم ذاتها ٠ ومع كل ذلك ، فان مبدأ التكامل ماثل وموجود . فنحن اليوم مدينون للآلات الحاسبة الالكترونية التي جعلت بالإمكان إقامة مثل هذا التكامل حين جعلت من الممكن تغيير الرسم إلى صيغ حسابية والعكس بالعكس ٠ وهي بهذا قد حققت لنا حلما قديما جدا ٠ فهذا إبداع أصبح حقيقة واقعة في يومنا وعصرنا هذا وجعل من الضروري إقامة تكامل استدلالي بين المعرفة من جهة والآداب من جهة أخرى لا مجرد ربط بينهما على أساس استقرائي ٠
ومن الواضح ان هذا التكامل يؤكد على الجانب الخلاق لدى المتعلم . وبعبارة أخرى فانه يؤكد على ضرورة قيام المتعلم بالتخيل والتحليل والتنسيق والتركيب بدلا من لجوئه في تعلمه إلى الحفظ والاستظهار، فدراسة الكتب من الأمور الأساسية والحيوية فلا بد من تطوير أساليب التعلم والإتيان بأساليب جديدة ٠ كذلك يجب أن تعمل الكتب المدرسية على تنسيق الحقائق والمعلومات التي يحصلها الطالب على هدي عدد من المبادئ الأساسية.
وهكذا فان بمقدورنا أن نتصور حدوث تنظيم جديد وكامل في المستقبل ، للمؤسسات التربوية الحاضرة على أساس الخطوات التالية :
ا – جعل التعلم متكاملا على أساس اللغة والآداب والألعاب ( يما في ذلك الألعاب الرياضية).
2 – اندماج فروع المعرفة وتنظيمها في منهاج يقوم كقاعدة او أساس لمعرفة الزمان والمكان معرفة مجردة إذ ليس هنالك أدنى شك بان الأساليب التقليدية التي تميزت بها المناهج منذ القرن التاسع عشر يجب تغييرها وان يستبدل بها مناهج تعي أهمية التحليل الاستدلالي وتلتزم به ، ومما لاشك فيه أيضا ان هذا الأمر يستدعي التخلي عنه نظام الصفوف التقليدية ليحل محلها تكامل بين كل المبادئ والأسس التي تدور حول موضوعات عامة ومشتركة.
3 – الفصل والربط في آن واحد ين الطبيعة النظرية والعالمية للمحاضرات والدروس وكل النشاطات الأخرى من جهة والنشاطات والتسهيلات التي تقدمها المؤسسات المتخصصة من جهة أخرى ٠ ومثل هذا التنظيم الجديد سوف تتلاشى ضمن إطاره الصورة التقليدية للاختصاصات ويحل مكانها حشد من الارتباطات التي تضع حدا ونهاية للفصل التقليدي بين المهن إلى درجة يصبح بمقدور المتخصصين في الرياضيات وعلماء اللغة وغيرهم الالتحاق بكليات الطب والإدارة وغيرها ، كما يصبح بمقدور المتخصصين في علم الالكترونيات والتكنولوجيين دراسة علم اللغة الطب وغيرها .
بوريسلاف دريفوفاك
ترجمة وتخليص : فرح الربضي