أهمية التربية ودورها في مواجهة العولمة

تواجه الأمة العربية العديد من التحديات الدولية، والإقليمية، والمحلية، هذه التحديات تفرض علينا أن نتحرك بسرعة وفاعلية لنلحق بركب العالم، فالذي يفقد في هذا السباق العلمي مكانته لن يفقد فحسب صدارته وإنما سيفقد قبل ذلك إرادته، وطبيعة هذا التحرك تشير إلى ضرورة الاهتمام بتطوير التربية التي أضحت خياراً استراتيجياً لا بديل عنه إذ ليس أمامنا خيار آخر، فإما أن نواجه هذه التحديات وإما أن نعيش على الهامش.

وتعاني التربية العربية من اضطرابات الفلسفة التربوية نتيجة لعدم تحديد الفلسفة الاجتماعية تحديداً واضحاً مما يلقي الاضطراب بدوره على السياسة التربوية والاستراتيجيات التربوية والخطط التربوية، ولم يتحقق الهدف الأساسي من التخطيط التربوي في ترجمة الخطط التربوية إلى مشروعات وبرامج خاصة، إذ إن الهدف الأساسي من التخطيط التربوي لم يتم تحقيقه في الوطن العربي وذلك بجعل التربية توظيفاً مثمراً للأموال التي تنفق بدلاً من غلبة طابع الخدمة الاستهلاكية عليها.

أما فيما يتعلق بالمناهج التربوية فثمة بطء شديد في مواكبة روح العصر، عصر العلم والتقانة « التكنولوجيا » والمعلوماتية، والاستجابة لمتطلباته من جهة ولمقتضيات سوق العمل وحاجات التنمية والمجتمع من جهة أخرى، والقصور في بناء الفرد بناءً متوازناً ومتكاملاً ومتطوراً من جميع الوجوه، وخاصة في الجوانب العلمية والقومية.

والإدارة التربوية ما تزال في جوهرها وبنيتها محافظة قديمة لا تستجيب لحاجات التطور السريع، وهي إدارة تسيير لا إدارة تطوير، وهي مقصرة عن مواجهة حاجات المستقبل التربوي ومستلزمات التوسع المتوقع في شتى مراحل التعليم والاستجابة للتربية المستمرة والتعليم غير النظامي وما قبل التعليم المدرسي، كما أنها مقصرة عن التطور السريع لأساليب الإدارة التربوية الحديثة والتقنيات التربوية المعاصرة .

والتربية بشكل عام تواجه تحديات كثيرة يلزم مواجهتها سواء على المستوى العالمي أم المستوى العربي.

فعلى المستوى العالمي نقرأ الفقرة الثانية من توصيات الدورة الخامسة والأربعين للمؤتمر الدولي الذي نظمته اليونسكو في جنيف في تشرين الأول ( أكتوبر ) 1996، تقول الفقرة:

« إن ظاهرة العولمة التي تمس الاقتصاد والثقافة والمعلومات وعالمية العلاقات وتزايد حركة الأفراد، والتطور الهائل لوسائل الاتصالات وتدخل المعلوماتية في حياتنا اليومية ومجالات العمل، كلها ظواهر تمثل تحدياً وفرصة أمام النظم التربوية، وفي الوقت نفسه يشهد كثير من المجتمعات والنظم التربوية مشكلات خطيرة على صعيد الاندماج الاجتماعي يجدر ذكر بعضها »:

كالنـزاعات، وتفاقم البطالة، لاسيما بطالة الشباب، وتدني القيم الأخلاقية، وضعف أثر المبادئ التوجيهية، وتغير دور الروابط العائلية في تكييف الأطفال مع الحياة الاجتماعية.

التحديات التي تواجه الثقافة العربية

أما على المستوى العربي فتتلخص التحديات التي تواجه الثقافة العربية وهي تواجه العولمة فيما يلي:

فقدان الخطاب الثقافي العربي ثقته بنفسه، واعتماده على آليات الغير، وفقدانه لفاعليته التاريخية، وإحساسه بالتقزم نحو الغير، وفشله في إنتاج تجربة تماثل ظروف الغير وتلائم أرض الواقع، وانتقاده للحوار مع الغير.

أما على مستوى الثقافة المحلية فتتلخص التحديات التي تواجهها في العناصر الثلاثة الآتية:
ضرورة الدخول بقوة في عصر المعلومات، والتدفق المعرفي بحيث يمكن اللحاق بأسرع ما يمكن بكل منجزات العصر العلمية والتكنولوجية بما تفرضه من أنماط ثقافية.

التأكيد في الوقت ذاته على منظومة القيم التي تشكل خصوصية الثقافة العربية ومن أهمها القيم الدينية والأخلاقية والعادات والتقاليد والموروث الشعبي والامتداد التاريخي عبر آلاف السنين.
ضرورة التجاور مع الثقافات الأخرى من منطلق الندية لا التبعية.

فالإسهام الثقافي العربي والإسلام ( بل وربما يمثل مركز الثقل الأساسي فيه ) كان يمثل أحد الركائز الأساسية للثقافة الإنسانية عموماً.

وإذا نظرنا إلى واقعنا العربي فإننا نلاحظ أن استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي قد أوضحت الهوة بين الوطن العربي وامتلاكه للقدرة العلمية والتقانية، إذ إن البلدان العربية لم تضع سياسات علمية وتقانية واضحة وشاملة، وما تزال الموارد التي تخصصها لأنظمة العلوم والتقانة محدودة نسبياً من حيث الكم (الانفاق) ومن حيث النوع (التأهيل والتدريب).

كما أن أنشطة العلم والتقانة العربية نشأت وتوسعت تحت ضغط الطلب الاجتماعي والمحاكاة السطحية لأنشطة العلم والتقانة في الدول المتقدمة، ولكنها لم تتطور مع تطور تلك الأخيرة، وكان ارتباط أنشطة العلم والتقانة بالحاجات الاقتصادية الفعلية ضعيفاً، وما تزال البيئة الاجتماعية والاقتصادية غير قادرة على التفاعل الشديد مع العلوم والتقانة، وما تزال التبعية التقانية متسارعة.

أما فيما يتعلق بالتفجر المعرفي فإن المعارف كانت تتضاعف في العقود الأخيرة في أقل من أربع سنوات في الوقت الذي كانت فيه سابقاً تحتاج إلى مئات من السنين حتى تتضاعف، وفي المرحلة القادمة يتوقع أن تتضاعف المعارف وتتفجر في أقل من سنة مما يملي على التربية مواجهة هذه التحديات.

وأمامنا الآن تحد جديد وهو ألا نقع فريسة أية ثقافات غلابة، أو مسيطرة في العصر، وإنما نتبادل التأثير والتأثر من منطلق استقلالية الثقافة العربية، وما تتمتع به من عناصر قوية ومؤثرة.

ولا يمكن للتربية أمام هذه التحديات إلا أن تأخذ أحد المواقف التالية:

ترسيخ الخصوصية الثقافية العربية الإسلامية وتحصين أبنائنا، إن استطاعت، من كل أشكال الاتصال الثقافي بالغرب، والإيغال بطلابنا في دراسة التراث والعيش في الماضي بقيمه وتجاربه.

أو الانسياق وراء العولمة بمفاهيمها والسير في إجراءتها بالشكل الذي يحقق طفرة عصرية تنتقل بأبنائنا، بين عشية أو ضحاها، إلى مجتمع جديد، مستمتعاً بإيجابيات العولمة، دافعاً ثمن ذلك كله من قيمه وأخلاقه !!

أو تحقيق التوازن بين المحافظة والتجديد، فلا التقوقع في ماضٍ عريق، ولا التعولم المطلق غير المشروط، وإنما التقدم المحسوب الذي يحكمه منطق الانتقاء في ضوء الحاجة إلى العصرنة مع التمسك بالهوية.

ولعل الموقف الثالث أنسبها، وهو الذي يحدد للتربية دورها في شقين:

مساعدة أبنائنا على تمثل التراث العربي الإسلامي واستخلاص النماذج التي تستجلي أصالته، وبعث القيم التي تساعد على التقدم في الوقت الذي ندعم فيه انتماء أبنائنا له.
مساعدة أبنائنا على مواكبة العصر، وتوظيف معطياته، والإسهام بالجهد الذي يجعل من أبنائنا منتجين للحضارة وليس فقط مستهلكين لها، ولا نحسب الأمر باليسير، إذ إن تربية الفرد في مثل هذا المجتمع وفي مثل هذا العصر أمر بالغ الصعوبة إذ تحدث في مناخ مفعم بالصراع بين عوامل متضادة وليست متكاملة، وفي مناخ تسوده قيم غير ثابتة سريعة التحول، متعددة الاتجاهات متباينة من حيث القوى التي وراءها.

ولقد أكد تقرير اليونسكو للتربية في القرن الحادي والعشرين أن أحد سبل مواجهة تحديات القرن القادم يكمن في أن يبنى التعليم، ذلك الكنـز الكامن في أعماق كل منا، على الدعائم الأربع التالية:
تعلم الفرد ليكون، بحيث تنمو شخصيته المتكاملة من مختلف جوانبها ويصبح قادراً على التصرف باستقلالية والحكم الصائب على الأمور وتحمل المسؤولية.

وتعلمه للمعرفة، بحيث يجمع بين ثقافة واسعة بدرجة كافية، وإمكانية البحث المعمق في عدد من المواد، وأن يتعلم كذلك كيف يتعلم ليتمكن من الاستفادة من الفرص التي تتيحها التربية مدى الحياة.

وتعلمه للعمل، ليس للحصول على تأهيل مهني فحسب، بل لاكتساب كفاءة تؤهله لمواجهة مواقف مختلفة كلما دعت الحاجة.

وتعلمه للعيش مع الآخرين، وذلك بفهمهم وتحقيق مشروعات مشتركة معهم في ظل احترام التعددية والتفاهم.

وأمام كل ذلك نتساءل: ما الدور الذي تلعبه التربية عموماً ويلعبه المثقفون وأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات العربية وهم النخبة المطلعة على الثقافات العالمية، لمواجهة تأثيرات العولمة، ولمعرفة كيفية الإفادة منها مع المحافظة على هويتنا القومية وانتمائنا وتراثنا الحضاري على وجه الخصوص ؟

النهوض بالتربية العربية

الأمة العربية تواجه تحديات شتّى، تزداد ضراوة بتزايد معطيات الحضارة الجديدة والتفجر المعرفي وتطور التكنولوجيا وانتشار الأقمار الصناعية وشبكات الاتصالات الإلكترونية، ويتجلى ذلك من خلال محاولات القطب الواحد الهيمنة على الثقافات العالمية في ظل العولمة الجديدة، ولذلك كان على التربية العربية أن تواجه هذه التحديات بكل وعي وثبات وجرأة وإقدام من خلال تعزيز القيم العربية الأصيلة وتأكيد الهوية الحضارية لهذه الأمة المتجذرة في انتمائها القومي، والمتطلعة إلى الإفادة من معطيات التكنولوجيا الحديثة والتقانات المتطورة في تطوير مناهجها وإعداد معلميها ورسم استراتيجيتها التربوية المستقبلية في القرن الحادي والعشرين بما يتلاءم مع أصالتها العربية وقيمها وتطلعاتها القومية.

ومن أجل تحقيق ذلك وللنهوض بالتربية العربية ينبغي اتخاذ العديد من الإجراءات من أهمها :

الإفادة من معطيات الحضارة الحديثة والتقدم التكنولوجي مستفيدين من ثورة المعلوماتية والتفجر المعرفي العالمي .
رفض الهيمنة الثقافية الأجنبية، وتعزيز الهوية الثقافية العربية، وذلك بدعم اللغة العربية وتعزيز مكانتها وتنشيط التنمية القومية.
رفض هيمنة القطب الواحد أو ما يسمى بالعولمة الجديدة على الثقافات العالمية.
التسلح بمعطيات التكنولوجيا الحديثة والتقانات التربوية المتطورة، وتطويعها لخدمة رسالة الأمة الحضارية المتسلحة بالعلم والمعرفة من خلال شبكات الاتصال الإلكترونية والحاسوبات المتطورة في عصر العلم والثقافة والتفجر المعرفي.


تطوير المناهج التعليمية ومواكبتها لمعطيات الحضارة العالمية الحديثة.
إعداد المعلمين وتدريبهم المستمر لمواجهة التحديات بمختلف أشكالها، وغرس القيم العربية والروح الديمقراطية في نفوسهم ونفوس الطلاب وتجسيدها سلوكاً حقيقياً في حياتهم اليومية، تحقيقاً للأهداف السامية للتربية العربية.
التركيز على التربية المستقبلية، وإبراز الهوية الحضارية للأمة العربية وتنميتها والمحافظة على أصالتها قومياً وإنسانياً، باعتبارها مصدر إبداع وعطاء وتفاعل مع مختلف الثقافات العالمية .

الأستاذ الدكتور أحمد علي كنعان

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

التعلم التعاوني ودوره في تحفيز الفهم القرائي: ملخص دراسة تحليلية

يمثل التعلم التعاوني إحدى الاستراتيجيات التعليمية الحديثة التي تهدف إلى تعزيز المشاركة الفعالة بين الطلاب، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *