يتزايد توجه العلماء الى عالم التكنولوجيا المنمنمة التي تتعامل مع قياسات بالنانومترات «اجزاء من البليون من المتر»، الأمر الذي دعا البعض إلى تسمية القرن الحالي بقرن النانوتكنولوجي.
اوجد هذا المصطلح مهندس من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا إريك درکسلر الذي كان إيمانه بهذا الفرع الواعد كبيرا، بحيث انه قال في كتابه Engins of Creation الذي نشر في عام ۱۹۸۹م انه سيأتي يوم يتم فيه صنع آلات منمنمة ذاتية التكاثر تماثل الذرات المكونة للجزيئات، بحيث تبني أجساما جديدة تنبثق من الداخل الى الخارج.
ويقول العلماء أن الطبيعة نفسها تعمل على مستوى التكنولوجيا المنمنمة فالخلية الحية تمثل مصانع متنوعة بالغة التعقيد والإتقان يتم فيها صنع مختلف المركبات العضوية بآليات مذهلة في روعة تصميمها وسيرها وانتظامها، وان آلات صناعية منمنمة مصممة للتعامل مع العمليات الحيوية في الخلية ستكون وسيلة مثلى لإعطاء الدواء المناسب الى الخلية واجراء التعديلات اللازمة فيها أو التدخل في سير تفاعلات معينة في داخلها، وستكون بالتالي النموذج لطب المستقبل المسمى «الطب المنمنم».
احد النماذج الحالية لمثل هذا الطب البنكرياس الصناعي الذي تعمل لانتاجه د. تيجال ديزاي من جامعة بوسطن، اذ تأمل بان تصمم «شيئا» يمكن زرعه في مرضى السكري الذين يحتاجون إلى حقن أنسولين يوميا، وهو الهرمون الذي تفرزه خلايا خاصة في البنكرياس تسمى جزر لانجرهانز.
اختارت د. تيجال لتجاربها خلايا لانجرهانز من الفئران اذ يسهل الحصول عليها، الا أنها لا تعيش في داخل جسم الإنسان سوى دقائق قبل ان تدمرها الأجسام المضادة التي ينتجها نظام المناعة في الإنسان، وهنا جاءت التكنولوجيا المنمنمة لتوفر الحل، فقد وضعت د. تيجال خلايا الفار البنكرياسية في داخل كيس غشائي«كبسولة» به ثقوب دقيقة جدا «بقطر سبعة نانومترات تقريبا»، بحيث تستجيب خلايا الفأر لمستوي غلوكوز الدم عند غمر الدم للكيس فتفرز هرمون الأنسولين، وحيث أن ثقوب الغشاء صغيرة جدا، فانها تسمح لجزيئات الغلوكوز والانسولين بالنفاذ، لكنها لا تنفذ الأجسام المضادة المختلفة للخلايا لكبر حجمها.
حتى الان تم تجربة التكنولوجيا على الجرذان التي يستجيب نظام المناعة فيها لخلايا الفأر بنفس قوة استجابة نظام مناعة جسم الإنسان، وقد عاشت الجرذان المصابة بالسكري التي زرعت فيها الكبسولة لأسابيع عدة دون أن تحتاج الى حقن انسولين.
ويتطلع العلماء في ضوء نجاح التجربة الى تعميم الاستفادة من الكبسولات المنمنمة اذ يمكن ان تستخدم بنجاح ايضا في اطلاق الدواء في الجسم بجرعات منتظمة، كما يعملون للاستفادة من بلورات وجزيئات منمنمة مصنعة بتصميم معين، في تتبع التفاعلات الحيوية المختلفة في داخل الخلية بدقة افضل وسهولة اكبر.
وفي تجربة أخرى نجح جيف بولت من جامعة جون هوبكنز وفريق البحث العامل معه في تصنيع «شارات» مغناطيسية مرتبطة بجزيئات اكسيد الحديد يمكن بها تتبع الخلايا الجذعية عند زرعها في أدمغة الجرذان الحية، وبالفعل فعندما وضعوا هذه الشارات في زراعة من خلايا جذعية التقطت الخلايا هذه الشارات، ثم قاموا بزرع الخلايا الجذعية في ادمغة الجرذان وتتبعوا مسارها وتكاثرها في نسيج الدماغ باستخدام تكنولوجيا التصوير بالرنين المغناطیسی.
من ناحية أخرى توصل العلماء في مختبرات بل الأميركية إلى صنع ترانزستورات يصل حجم الواحد منها إلى جزء بالمليون من حجم حبة الرمل. وهذه الترانزستورات التي تمثل اللبنات الأساسية للمعالجات والرقاقات الكمبيوترية يتوقع لها أن تغير وجه العالم، وقد يأتي يوم تسكن فيه داخل الجسم البشري لتؤدي وظائف عدة، ولن تكون أجهزة المستقبل منمنمة وغير مرئية فقط، بل ستصنع أيضا من مواد عضوية، فالترانزستورات الجزيئية التي صنعها علماء مختبرات بل صنعت من مواد شبه موصلة محورها الكربون تسمی .thiols
يقول العلماء أن السليكون سيصل قريبا الى حدوده القصوى في التصغير، لذا ستكون هناك حاجة لمواد جديدة، ويتطلع العلماء الى جزيئات البروتين والى مادة الوراثة «جزيء DNA» لتكون أساس كمبيوترات المستقبل، وقد حققت تجارب عدة في هذا المجال نتائج واعدة، ويقول العلماء أن المستقبل يعد ليس فقط بتحقيق كمبيوترات شبيهة بالبشر، وانما بشر يشبهون الكمبيوتر.
ولعل نظرة لما تحقق حتى الآن في مجال دمج الالكترونيات في جسم الإنسان يوضح الإمكانية الكبيرة لتحقيق ما يطمح إليه العلماء في المستقبل القريب، فمن الشائع حاليا مثلا زراعة منظمات القلب وقوقعة الاذن الداخلية ومجسات مراقبة بعض المؤشرات الحيوية في الجسم مثل نبض القلب وضغط الدم وإرسال البيانات إلى الطبيب المشرف لاسلكيا، كما نجحت تجارب في تمكين الضرير من الرؤية وتمكين المصاب بالشلل من تحريك اطرافه بفضل أنظمة إحساس وتوجيه الكترونية خاصة، وسيمكن مستقبلا بفضل أنظمة الكترونية خاصة معالجة حالات مثل الزهايمر والاكتئاب وانفصام الشخصية وتدهور الذاكرة.