نوربرت فينر .. رائد علم السيبرنيتيك الحديث

ككثيرين غيره، أضاء نوربرت فينر يوما مساحات معتمة في سنوات القرن العشرين. لكنه الآن، ككثيرين غيره أيضا، انطفأ.

فينر من طينة تلك الشخصيات التي لا تقدر قيمة خلود لا تجنيه، وإنما يجنيه اسمها، ومن طينة الشخصيات التي تعرف العمل لتحقيق الطموح، بعيدا من كونه سيجني شهرة ومناصب. هذه الشخصيات التي تغني العالم لا تحصل على المجد، بل لتحقيق حلم الذات. إنه ذلك الشعور بتخطی الحدود التي كان يعتقد قبل قليل أن عبورها في عداد المستحيل الذي لا يطال. الوصول إلى المكان الذي لم تطأه أقدام – فكرة بعد – حيث الطبيعة ما تزال بكرا لم تدنسها رزم النقود ولا الأفكار التجارية البراقة التي تجعل من الفكرة الطبيعية مسخا من علم يحتكره أصحاب المال، لا أصحاب الحاجة.

ولد نوربرت فينر Norbert Wiener في العام 1894 في كولومبيا (میسوري). والده، ليو، كان أستاذا جامعيا في جامعة هارفرد يدرس اللغات السلافية – فهو مهاجر روسي. وهنا لا بد من الوقوف قليلا عند العلاقة التي جمعت الأب (ليو) بابنه (نوربرت). كانت علاقة ملؤها حب مستقبلي، وإيمان مطلق بموهبة الإبن تكرست في سن الحادية عشرة، عندما بدأ دراسته الجامعية، وتأكدت في سن الثامنة عشرة عند حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفرد.

وفينر اليوم المنظر الأول في العصر الحديث لعلم السيبرنيتيك. وهذه الكلمة تطلق على علم حديث نوعيا
ظهر في بداية الأربعينيات من القرن العشرين. وعرف فينر السيبرنيتيك على أنه علم القيادة أو التحكم في الأحياء والآلات ودراسة آليات التواصل في كل منهما.

ولفهم أوسع لهذا العلم، فلا بد من إطلالة معلوماتية عليه. فالمصدر اللغوي لكلمة سیبرنیتيك (أو کیبرنتيك) مفردة مشتقة من اللغة الإغريقية القديمة من كيبرنتيس، أي القائد أو قائد السفينة، كما قد تكون مشتقة من كيبرنتيكا أي فن قيادة السفن أو من کیبرنيسيس أي منصب قيادي في الكنيسة.

أما المصدر الاصطلاحي الحديث فيعني كما أشرنا علم القيادة أو التحكم في الأحياء والآلات ودراسة آليات التواصل في كل منهما.

وبما أن فعل القيادة أو التحكم وفعل التواصل أو التخاطب قدیمان قدم التاريخ الإنساني، فإنه ليس من الدقة القول أن السيبرنيتيك علم حديث أسسه فينر، وإنما يمكننا القول بشيء كبير من الدقة أن فينر واضع هذا العلم الحديث.

والسبب في جعل هذا العلم قديم هو وجود بعض الآلات التي استعمل عند إختراعها مفاهیم سیبرنتيكية دون أن تعرف هذه المفاهیم مثل اختراع أول قنديل زيتي يحتوي على آلية تحكم في العام 300 قبل الميلاد، واختراع هيرون الإسكندري آلية لفتح أبواب المسارح بطريقة أوتومتيكية في العام 100 قبل الميلاد، واختراع جيمس وات أدات لتعديل أو التحكم في سرعة دوران الآلة البخارية في العام 1784 وسواها.

أما لفظة السيبرنتيك في مفهومها الحديث فقد استعملت لأول مرة من قبل العالم المنسي الذي نتحدث عنه نوربرت فينر في العام 1942، وهو الذي عرف السيبرنتيك وأعطاها مفهومها الاصطلاحي الحديث.

هوس نوربرت بالرياضيات هو الدافع الرئيس وراء اهتمامه بهذا العلم الذي يعد المحرك الأساس لمجال الذكاء الاصطناعي الذي تقوم عليه اليوم صناعات ضخمة.

والرابط بين علم السيبرنيتيك والذكاء الاصطناعي ليس مباشرا جدا، لكن وجود الأول كان دافعا لانطلاق الثاني.

ولتقريب المشهد علينا أن نعرف أهم الإختلافات بين نظرة السيبرنتيك إلى المشاكل وغيرها من الطرق. فهذه الاختلافات تتلخص في أن السيبرنتيكي يفكر دائما في إطار النظم أو النظام أو المنظومات. وهذه النظرة تميزه عن غيره. حيث أنه يحاول أن يجرد الأشكال وذلك يكون عادة عبر خطوات من قبيل تحدید حدود المنظومة التي يراد درسها، إجراء الدراسات على اعتمادا على النموذج. والأساس أن السيبرنتيكي يفرق بين المجموعة والمنظومة – مثلا حين ننظر إلى الإنسان من الناحية البيولوجية يمكن اعتباره مجموعة من الأعضاء.

لكن السبيرنتيكي وعلى الصعيد البيولوجي سيعارض هذه الفكرة، حيث أنك إذا جمعت الأعضاء الآنفة الذكر فإنك لن تتحصل على كائن حي. فبالنسبة إليه المنظومة أي الكائن الحي إنسان هو أكثر من مجرد مجموع العناصر المكونة. ويمكن تعميم هذه الفكرة على منظومات أخرى ونظرات أخرى. ومن هنا يمكن فهم الرابط بين هذا العلم والذكاء الاصطناعي.

لم يكن عمل فينر مقتصرا على التنظير ووضع الأسس للعلم المستحدث الذي أخذ جل وقته. فقد نجح من خلال ابحاثه في وضع الاساس الاول لاختراع العقول الالكترونية وكانت فكرة هذا العالم هي تطبيق ما يحدث في الانسان بوصفه جهازا حيا متكاملا على الالات من اجل بلوغ مرحلة جديدة في تطورها مختلفة عن كل ما استخدمت فيه الالات من قبل.

وعلى هذا الأساس فقد درس فينر الوظائف التي يقوم بها الجهاز العصبي للانسان والتي يمكن للانسان بواسطتها ان يصحح مسار أفعاله ويعيد توجيهها وفقا لما يواجهه من مواقف وبالتالي يكون المجتمع خاليا من المجرمين واللصوص وقطاع الطرق.

لكن عالم فينر لم يكن كله آلات وماكينات او نظریات وشؤون تطبيقية بحتة. كان هناك جانب إنساني عند هذا
العالم الذي لا يذكر الآن. كان يقول “اعطوا الإنسان ما للانسان واعطوا الكمبيوتر ما للكمبيوتر”.


وهذه اللمسة الإنسانية لم تنبع أكيدا من فراغ. فلهذا العالم نشاط أدبي، وإن كان بسيطا لو قورن بنشاطه العلمي الكبير. فقد ألف فینر قصصا قصيرة ورواية، وطبع مذكراته قبل رحيله في العام 1964 في استوكهولم – واحدة من مدن وبلدان كثيرة زارها فينر ونثر فيها شيئا من علمه، إذ زار الصين والمكسيك وهولندا وإيطاليا وسواها، بحثا عن إبداعات علمية أكثر تفيد الإنسان، لا تقتصر فائدتها على شخصه و تمجده.

غسان حزین

مصدر الصورة
history-computer.com

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

شركة WardLin السويدية تفوز بجائزة الابتكار لعام 2024

أعلنت شركة (Företagfabriken)، الحاضنة الرائدة للشركات الناشئة في السويد وضمن مبادرة الاتحاد الأوروبي والسويد لدعم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *