لاحظ الأطباء من قديم الزمن انتشار مرض الملاريا حول البرك والمستنقعات ، فظن البعض أن سبب المرض هو استنشاق الغازات والأبخرة الملونة المتصاعدة من مياه البرك والمستنقعات الراكدة ، ولهذا أخذوا كلمة ملاريا من كلمتين ( مال – اریا )، ومعناها الهواء الفاسد .
أما السبب الحقيقي لهذا المرض فقد ظل مجهولا إلى أواخر القرن التاسع عشر حتى كشفه الطبيب الفرنسي لافيران .
لقد رأی لافيران، في عينات الدم المأخوذة من مرض الملاريا طفيليات غاية في الصغر ، داخل خلايا الدم الحمراء ، ولم یكن رآها من قبل ، وظن لافيران، أن هذه الطفيليات هي المسببة لمرض الملاريا .
ولكي يتأكد من ذلك ذهب إلى الجزائر ، حيث كان المرض أكثر انتشارا ، وأعاد فحص مئات العينات من دم المرضى بالملاريا ، فشاهد هذه الطفيليات ، ولما وثق من تجاربه تقدم في عام 1880 إلى أكاديمية العلوم في باريس برسالة قصيرة .
وتعيش الطفيليات المسببة لمرض الملاريا داخل كرات الدم الحمراء في دم الإنسان المريض ، وتتغذى على مادتها الحمراء و تتلفها ، وهذا هو الذي يسبب ضعف جسم المريض وسوء صحته .
وقوبل کشف لافيران، في أول الأمر بالشك والسخرية ، ولكن سرعان ما تحقق العلماء من صحة كشفه ، ولم يرق نجاحه لرؤسائه ، فعملوا على إبعاده عن البحث العلمي ، وخيروه بين أن يقبل الترقية إلى وظيفة إدارية أعلى ، أو يترك عمله العلمي ، فما كان من لافيران، إلا أن رفض العرض الأول ، وترك الجيش، والتحق بمعهد باستير، إلى أن مات في عام 1921 ، بعد أن حصل على جائزة نوبل .
وكان السؤال الذي يشغل أفكار الأطباء من بعده هو كيف ينتقل هذا الطفيل المسبب للمرض ، من دم المريض إلى دم السليم .
تقدم الدكتور رونالد روس، للإجابة عن هذا السؤال ، وسافر إلى بلاد الهند ، تلك البلاد الشاسعة ، التي كان يموت فيها – بسبب الملاريا – ملايين من الأنفس في كل عام … وكان روس، بجانب حبه للبحث والعلم كاتبا أدبيا ، وشاعرة رهف الحس ، فياض العاطفة ، وكان يعاني أشد الألم وهو يرى آلاف المرضى يموتون و يتساقطون حوله كالذباب .
أخذ الدكتور روس، يواصل البحث لكي يصل إلى الطريقة التي ينتقل بها الطفيل و ينتشر بها المرض ، ولم يكن يملك من أدوات البحث سوى ينهر صغير ، ولكن كان يحمل بين جنبيه عزيمة قوية وإرادة صلبة .
وراح رونالد روس، وعماله الهنود يتصيدون البعوض بالآلاف من مختلف الأنواع ، وهیئت الفرص لكل بعوضة أن تلدغ مصابا بالملاريا ، ثم قتل من بعد ذلك بأيام قلائل ، ثم يقوم روس، في عناية ودقة ومهارة بتشريح جسم البعوضة وفحص أنسجتها تحت المجهر.
كان رونالد روس، يعمل من الفجر حتى الليل ، طول أيام الصيف ، تحت جو حار خانق ، ورطوبة شديدة . وأخذ يتتبع البعوض ، الواحدة بعد الأخرى ، وينفق الساعات في تشريح كل منها ، حتى عميت عيناه ، وكاد الإعياء يفقده عقله وأعصابه .
كان الوطنيون الهنود يقفون حوله ، و ينظرون إليه ، في حذر وريبة ويتوهمون فيه السحر ، وكانوا يترددون في مد أصابعهم لوخزها وأخذ نقط من دمائهم لفحصها ، مع أنه كان يمنح كل واحد منهم بعض المال في كل مرة .
وظل روس، يتابع تشریح البعوض دون ملل ، وفي بوم 31 أغسطس 1878 شاهد بعوضة من صنف لم يره من قبل، فأمسك بها وفحصها ، فوجدها من فصيلة تعرف بالانوفیلس، وهذه الكلمة معناها المؤذي أو الضار ، وأخذ روس، يعمل على تشریح هذا البعوض الجديد ، الواحدة بعد الأخرى ، حتى اهتدى إلى طفيل الملاريا في أنسجة هذا البعوض فصاح قائلا : لقد وجدت ما أبحث عنه ، لقد وجدت طفيل الملاريا يعيش وينمو ويتكاثر في أنسجة إناث بعوض الانوفيلس.
لقد أثبت لافيران ، من قبلى أن طفيليات الملاريا تعيش وتتكاثر داخل كرات الدم الحمراء في الإنسان المريض ، إذن لا بد أن هذه الطفيليات المسببة للمرض قد انتقلت إلى الإنسان السليم عن طريق هذا البعوض .
وأخذ الدكتور دروس، بتعقب حياة هذا الطفيل المسبب لمرض الملاريا ، خطوة بعد خطوة ، من معدة هذا البعوض حتى فمه ولعابه ، ليعرف الطريق الصحيح لانتقال عدوى هذا المرض، وبهذا عرف العالم كيف تقي نفسه من هذا البعوض وهذا المرض .
هذه حياة علماء ضحوا براحتهم ووقتهم وجهدهم ، في سبيل إنقاذ البشر من مرض حرمهم نعمة الصحة والعافية … كان في مقدورهم أن يجمعوا مالا أو جاها ، أو يركنوا للراحة ، لكنهم آثروا أن يضحوا بأنفسهم من أجل خدمة البشر والناس أجمعين، ها نحن نذكرهم اليوم بالفخر والإعجاب والتقدير ، لأنهم كانوا مشاعل تنير الطريق .
مصدر الصورة
pixabay.com