فاروق ابو طعيمة
يقصد العلماء بالتربية العقلية إعداد الإنسان في مراحله العمرية المختلفة ليكون سليم التفكير ولديه المقدرة على الشعور بالاستقلال عن الآخرين وفهم البيئة المحيطة به والتفاعل الايجابي معها وعلى حسن تقدير الأمور والحكم على الأشياء وعلى الاستفادة من خبراته وخبرات الآخرين إذن فهي تربية تهتم بعقل الانسان وتغذيته وإمداده بأسباب النشاط والحيوية والقدرة على النظر والتأمل والتدبر والتحليل والاستنتاج فقد حبا الله تعالى الكائن البشري بملكات وقدرات عقلية عظيمة كالذكاء، والقدرة على الحفظ والتذكر، والإبداع، والفهم، وغير ذلك. وهذه القدرات وإن كانت مكنونة في الطفل عند ولادته، فإنها في حاجة إلى استخراج وتنمية، ,واذا لم لم نهتم بهذه القدرات العقلية وننمِّها بالأساليب الصحيحة، فإنها ربما تضمحل وتذهب، أو توجه وجهة غير صحيحة، فتنحرف وتضل. لهذا كان دور الأب في الأسرة مهماً للغاية؛ إذ هو المسؤول الأول عن تربية ولده وتعليمه وتوجيهه، محافظاً على ما حباه الله من قدرات وطاقات مختلفة وجاداً في تنميتها، وتوجيهها إلى الخير .
ويصف الدكتور مصطفى عبده في كتابه : المدخل إلى فلسفة الجمال محاور نقدية وتحليلية وتأصيلية : العقل بأنه القوة التي يدرك بها الإنسان كل مدركاته وبه افترق عن سائر الكائنات، وأن للعقل وجوداً حقيقياً في الإنسان، وليس للعقل مكان في الجسم، والعقل طاقة حيوية تحل في الجسم، ويستخدم المخ بالقوة القائمة في النفس، والعقل فطرة في الإنسان وقابل للتطور والتجريب والتدريب وينمى بالاكتساب، ويعمل لهدف مقصود من خلال الإرادة. ليس للعقل جسم أو مادة، فهو شئ آخر لا مادة له إنه تلك الطاقة الحيوية العارفة، أما تلك التي يحملها الإنسان فوق كتفيه، والحيوان في مقدمة رأسه، والنبات في أعماقه، إنما هي أجهزة ذلك العقل. هذه الطاقة كامنة في النواة في كل خلايا الكائنات الحية حتى تنمو وتزهر ثم تثمر حتى تصفر وتصير حطاماً، وهي كامنة في أعماق الحيوان كقوة غريزية، وهكذا الإنسان يستخدم قواه المفطورة فيه من النطفة الأولى حتى انفصاله عن المشيمة وتستمر معه كقوة عقلية تتنازعه قوتان باطنية وظاهرية ومن خلالها يشرق العقل الإنساني فتتكون العقول الثلاثة من تلك القوة المفطورة في الإنسان، وللعقل ثلاثة قوى، لكل قوة ثلاثة قدرات : القوة الواعية تحوي: الشهود والنظر والتفكير و القوة الباطنة تحوي: التذكر والتدبر والتأويل والقوة المبدعة تحوي: الحكمة والإبصار والتفقه.
وتنطلق التربية العقلية من نشوء الطفل من أبوين سليمين فنشوء طفل من أبوين سليمين يضمن للطفل مستوى مقبولا من الخصائص العقلية الأمر الذي يتفق مع ما توصلت اليه الأبحاث الطبية والنفسية والتربوية من وجود علاقة وثيقة ما بين العوامل الجينية وما بين التخلف العقلي من جهة وتلعب الوراثة دورا هاما في اسباب التخلف العقلي فقد اكدت الدراسات والبحوث ان الاطفال الذين يولدون لأمهات واباء متخلفين عقليا يكونون غالبا متخلفين هم ايضا ولقد بين العالم النفسي (بنروز) إن وراثة التخلف العقلي من جيل الى جيل وذلك عن طريق الجينات السائدة او الجينات المتنحية ويمكن ان يرث الطفل التخلف ليس فقط من والديه وانما من اجداده ايضا. وقد تظهر حالات الاعاقة العقلية في زواج الاقارب اكثر منه من زواج غير الاقارب ولا بد من وقاية الأبوين من سوء التغذية وخاصة الأم الحامل فقد وجد معامل ارتباط يفوق 0.79 في الدراسات بين حدوث حالات الإعاقة العقلية البسيطة وسوء التغذية خاصة في المناطق الفقيرة أو المعدمة ، والمؤشرات على ذلك ارتفاع نسب حالات الإعاقة العقلية البسيطة بين أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة مقارنة مع أبناء الطبقات الغنية في دول العالم المختلفة, وعلى خصوص الدول الفقيرة أو تلك التي تعاني من الحروب والكوارث و لقد ركزت الأبحاث الحديثة على تأثير سوء التغذية في أثناء الحمل و في الأشهر الستة الأولى بعد الميلاد على النمو العقلي ووجد لهذه الدراسات إن الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في هذه الفترة لا يصلون إلى النمو الجسمي الكامل بالنسبة لهم كما إنهم لا يستطيعون إن يحققوا إمكانياتهم من حيث النمو العقلي ذلك إن سوء التغذية يؤثر بشكل مباشر في النمو الذي يتطلب لنضج هذه الفترة قدرا معينا من العناصر الأساسية منها البروتين و الفسفور و المغنيزيوم فان لم تستطع الأم إن تمد الجنين بالقدر الكافي من هذه العناصر يتأثر نمو المخ بشكل قد تدوم آثاره بعد ذلك.
وترتبط التربية العقلية بالتربية البدنية أو الجسدية كما هو الحال في التربية الحديثة ولا نغالي اذا قلنا أن الحضارة الاسلامية بنظمها النفسية والتربوية هي الأسبق من النظم المعاصرة كما أثبتت الدراسات التربوية والحديثة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة وما تزال الأبحاث والدراسات في كل عام تؤكد لنا وللعالم أجمع بأن حضارة الاسلام تمتلك نظاما تربويا متميزا وفريدا من نوعه ما زال غالبه في بطون الكتب والمخطوطات
ويؤكد التربويون في الحضارة الإسلامية بأنّ التربية العقلية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتربية البدنية مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف) رواه مسلم
وهذا ما يتفق مع الحكمة اليونانية القديمة القائلة: العقل السليم في الجسم السليم وقد وجد العلماء بأن التمارين يمكن أن تمنع التراجع العقلي عندما نكبر في السن. فالتمارين المنتظمة تحسن الذاكرةَ، والتخطيط، والمهارات المنظمة، بالإضافة إلى القدرة على تبادل المهام العقلية ويعتقد الباحثون بأن التمرين المنتظم لمدة 30 دقيقة على الأقل خلال أيام الأسبوع يمكن أن يساعد على إبقاء الدماغ حادا حيث يحسن التمرين من ضخ الدم إلى الدماغ، ويساعده على الأداء بشكل أفضل. كذلك يخمن العلماء بأن النشاط يحفز نمو الخلايا العصبية في منطقة الدماغ المرتبطة بالذاكرة كما أنه يعمل على خفض ضغط الدم. وهذا مهم بالنسبة لأكثر البالغين، خصوصاً مع التقدم في السن. في الحقيقة، يعاني أكثر المسنين من مشكلة ضغط الدم المرتفع. وأولئك المصابون بضغط الدم المرتفع الذي لا يمكن السيطرة عليه على الأرجح يعانون من مشاكل التفكير، والتذكر، والتَعلم ويساهم النشاط البدني أيضاً في التخلص من الكآبة, وهي مشكلة شائعة بين المسنين. فالكآبة يمكن أن تؤثر على الذاكرة والتركيز. ويساعد التمرين على تخفيف مشاعر الكآبة عن طريق زيادة مجرىِ الدم وتحسّين قدرة الدماغ على معالج المواد الكيماوية المسئولة عن المزاج كذلك يساعد لنشاط البدني على منع الإصابة بالتهاب المفاصل، ويقوي القلب، ويحسن مستويات الطاقة، ويعمل على تجنب المشاكل الصحية مثل السكرِي وبعض أمراضِ السرطان .
ويجب تربية أبنائنا منذ الصغر على التربية الرّوحية وقد يقول قائل : ماعلاقة التربية العقلية بالتربية الروحية؟ وهل من المهم أن نربي الجانب الروحي في نفوس وقلوب وأفئدة ابناءنا ؟ لا شك انّها علاقة وثيقة مهما كانت الخبرات العلمية التي يكتسبها الانسان فهي تهم المسلم دنيويا وتهمه أخرويا فالمهندس أو الطبيب أو المحاسب أو المعلم وغيرهم من ذوي العلوم والاختصاصات ذات الصلة بالإنسان الذي أوجده الله تعالى أصلا لإعمار الأرض هم أحوج الناس الى التربية الروحية التي تشكل دعامة اساسية لمبدأ الاعمار الذي قضى به الله تعالى في علمه الأزلي وكلف الانسان بتنفيذه منذ خلق آدم عليه السلام الى أن يرث الأرض ومن عليها ففي الغالب ما يؤدي الاشباع الروحي للمتعلم أيا كان علمه وتخصصه الى الأمانة والتقانة ولابداع والتميز والاخلاص والبعد عن الغش والكذب والتدليس ولا يمكن لأحد أن ينكر اهمية هذه الأخلاق والسجايا والطباع في عملية الاستخلاف الأمثل لما في الأرض من أجل خدمة الانسان المسلم بشكل خاص والانسانية بشكل عام .
ومن جهة ثانية يقول أحد المفكرين: لن تهتدي الانسانية الى حل شاف لمشكلات الحياة الصعبة والعويصة والمعقدة ولن تنهل من مورد السعادة عن طريق تقدم العلم والمعرفة العلمية وحدها بل أصبح العلم في كثير من المجتمعات الانسانية سببا في الارتباك والتخبط لعدم توحيد هذه العلوم تحت راية حقائق الحياة اليومية الواضحة ونحن كمسلمين وعرب نؤمن أن هذه الحقيقة تتمثل في الايمان بالله تعالى والعمل بمقتضيات هذا الايمان .
ومن مسؤوليات الأسرة في التربية العقلية ابعاد الأفراد عن كل ما يضر العقل كالخمور والمخدرات والاشربة التي تؤثر سلبا على العقول ويكون ذلك بضرب أمثلة محسوسة عن أضرار الخمور والمخدرات على العقول وعلى بقية الاعضاء وفي هذه الصدد يتوجب على الأسرة الانتباه الى الرفاق والقرناء الذين يجلس معهم ابنهم أو ابنتهم لأن معظم التصرفات والسلوكات الايجابية والسلبية التي يكتسبها الاطفال والشباب يكون مصدرها الشلة أو ما يسمون بجموعة القرناء والرفاق لذلك تعتبر مجموعة القرناء كما يرى المربون وعلماء النفس التربوي من الوسائط التربوية المهمة في حياتنا لما تمنحه للفرد من معلومات وخبرات وأفكار من هنا أشار القرآن الكريم الى هذه الواسطة التربوية حين يقول : الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌ إلا المتقين).
وفيما يلي بعض المقترحات التي تساعد على الحفاظ على الصحة العقلية من الجمعية الامريكية لكبار السن:
أولا : الابتعاد عن شرب الكحول والتدخين وتعاطي المخدرات.
ثانيا : الحصول على التمرينات بصفة مستمرة والنوم لفترات كافية.
ثالثا : تعلم التعامل مع الضغط.
رابعا : التحدث الى الطبيب في حالة ملاحظة ضعف الذاكرة او وظائف المخ.
خامسا : تعاطي اكثر من دواء قد يؤثر على الوظائف العقلية والجسدية.
سادسا : المحافظة على النشاط الجسدي والاجتماعي وعدم البقاء وحيداً في المنزل.
ويحدد الباحثون وعلماء النفس التربوي دور الأسرة في مجال التربية العقلية وخاصة ما قبل المدرسة بالاقتراحات التالية :
أولا : توفير المثيرات الواسعة والمتنوعة للطفل ليتمكن من البحث والتساؤل والفحص، لممارسة خبراته الحسية والحركية.
ثانيا : توسيع بيئة الطفل من خلال الزيارات والرحلات والنزهات، وإفساح المجال له بالمشاركة الاجتماعية .
ثالثا : تشجيعه على حب العلم والتعلم وتنمية قدراته العقلية، بالاظافة الى تعليمه مبادئ السلوك الانساني واللغة وتهيئته لدخول المدرسة.
رابعا : توفير الألعاب التربوية له، وتعليمه كيفية استخدامها، سواء كانت صناعية أو من البيئة.
خامسا : إشعار الطفل بالحب والحنان والعطف مما يساعد على تفتح مداركه وقدراته العقلية الكامنة لتنمو نموا طبيعياً.
سادسا : تحفيز الطفل وعدم إحباطه عند وجود رغبته في القيام ببعض الأعمال، وتعويده على تكرار المحاولات أكثر من مرة.
سابعا : احترام الأسرة لميول الطفل وتقدير مشاعره وميوله وتنمية مواهبه كرسم بعض صور النبات أو الحيوانات أو بعض الأشياء من هذا القبيل
ثامنا : تحفيظ الطفل الأناشيد وتنمية ذاكرته، من خلال ترديد الأغاني والأناشيد والقصص، والإكثار من التساؤلات وكيفية التعلم التي تساعده على التذكر.
تاسعا : تعويده على ممارسة عملية التفكير غير المقيدة، من خلال إشراكه وتفاعله مع الآخرين والاستماع إلى آرائهم باستخدام الأسئلة المفتوحة، واستخدام التفكير المستقل من خلال توجيهه لمعرفة أجوبة خاصة.
ومن واجبات الأسرة في المجال العقلي توجيه الأبناء الى مصادر المعرفة المفيدة لأبنائهم وخاصة في المراحل العمرية الدنيا التي تقع ما بين السنة الثالثة والسادسة والتي تسبق دخول المدرسة ويتوجب على الآباء في تلك المرحلة الانتباه والتدقيق في نوعية التغذية العقلية التي يراد اعطائها للطفل بحيث تكون بعيدة عن الخرافات والأوهام والتشكيك وايقاع الطفل في البلبلة الفكرية التي قد تمتد معه الى سنوات طويلة.
ويتوجب على الأسرة متابعة الطفل بعد هذا السن للتأكد من سلامة عمليات التفكير عنده من خلال تحصيله العلمي ومتابعته في مدرسته علاوة على ذلك يجب على الأسرة الاشراف على طعامه وشرابه وكل ما يتصل بتربيته العقلية ليصبح بأذن الله تعالى لبنة صالحة في المجتمع الذي ينتمي اليه