فاروق أبو طعيمة
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون القرآن الكريم الذي اقتبست منه الآية الكريمة التي تقول ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) المصدر الرئيسي الأول والأصح والأكثر قطعية الذي يستمد منه ملايين المسلمين في العالم منذ بداية القرن السابع الميلادي إلى ما شاء الله للحياة أن تبقى وتدوم الاحكام الشرعية العملية التي تنظم حياتهم وواقعهم في شتى مجالات الحياة الدنيوية والأخروية ابتداء من ترسيخ الايمان بالله وهي غاية الغايات وانتهاء باماطة الاذى عن الطريق 0( ازالة القاذورات والاوساخ ) من الطرقات والمرافق العامة لقوله سيحانه وتعالى في سورة النحل ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى وبشرى ورحمة للمسلمين ) آية ( 89) فالكتاب المقصود هنا القرآن الكريم وأما الشخص المخاطب فهو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ثم من بعده المسلمين في كل العصور حتى قيام الساعة أما جملة تبيانا لكل شيء فهي تدل على كل أمر ينظم حياة الناس المسلمين الدنيوية والأخروية من النواحي العقائدية والايمانية والاخلاقية والمعاملات التي تشمل العلوم والفنون والاقتصاد والسياسة والعمل والدعوة الى الله والعلاقات الاجتماعية والاخلاقية والعلاقات المالية والزراعة والتجارة والقصص والتاريخ والديانات الاخرى وأصحابها .
ومما لا شك فيه فأن البيئة وما تواجهه من مشاكل ومعضلات من العلوم الانسانية التي يصنفها البشر تحت عنوان علوم اجتماعية أو انسانية أو جغرافيا ومناخ أو فلك فهي أذن في المحصلة علم ناقشه القرآن الكريم في سوركثيرة وتحت مسميات ومفاهيم ومصطلحات عديدة لسنا بصددها الآن فالقرآن الكريم هو الذي اثبت كروية الارض قبل كوبرنيكوس وجاليليو والقرآن الكريم هو الذي اثبت قبل علماء النهضة أيهما يبدأ أولا الليل أم النهار وغبرها من أمور فلكية وأمور علمية وطبية لم يكتشفها العلم الحديث الا في أواخر القرن الماضي وبدايات الألفية الثالثة وما ستحمله من اكتشافات علمية عظيمة
اذن القرآن الكريم ليس عاجزا عن ابراز معضلة بيئية بصورة اجمالية قبل ظهورها بخمسة عشر قرنا وان لم يفعل ذلك فلن يكون قرآنا من عند الله سبحانه وتعالى
كما اورد البرفسور زغلول النجار في محاضرته التي اقتبسنا منها الفقرة التي وردت في مقال الاحتباس الحراري ( ظهر الفساد في البر والبحر )
وأقصد بعبارة صورة اجمالية أي ليست مفصلة بل تم توضيحها وشرحها اما في آيات قرآنية أخرى وفي سور أخرى أو جاءت مفصلة تفصيلا دقيقا ومسهبا في سنة النبي الكريم الصحيحة التي أوجب الله تعالى على المسلمين الايمان والتصديق بها لقوله تعالى في سورة الحشر ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) آية ( 7)
وللقرآن دور فاعل وايجابي في لفت انظار المسلمين والمؤمنين الى كثير من الحقائق العلمية الثابتة التي جاءت بصيغة التسويف كما جاء في قوله تعالى في سورة فصلت ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) آية ( 53) فالآيات التي ذكرتها الآية الكريمة والتي سيسوقها الباريء عز وجل لكل مؤمن ماهي الا براهين دامغة وأدلة قاطعة يهتدي بها المؤمنون ويزدادوا ايمانا مع ايمانهم في زمن ينظر به الى المؤمنين بأنهم متخلفون ويسلكون مسالك الأوهام والخرافات والابتعاد عن المعرفة والمنهج العلمي
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في سورة النمل ( سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ) آية / 93 من هنا نقول أن القرآن الكريم يضم في ثناياه حقائق علمية منذ الأزل وليس ادل على ذلك من قوله تعالى( سيريكم أياته ) وقوله (سنريهم آياتنا
فالتسويف يدل على ظهور حقائق علمية باهرة في المستقبل القريب والمستقبل البعيد وما على العلماء المسلمين الا أن يغوصوا في اعماق النصوص القرآنية للتوصل الى الحقائق العلمية التي ستخدم الانسانية جمعاء وليس جماعة المسلمين فحسب فرسالة الاسلام رسالة عالمية لا تخص العرب والمسلمين بل هم الذين كلفوا بحملها الى غيرهم من بني البشر
أما بالنسبة للاعتراض على الآية القرآنية الكريمه ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) باعتبارها من الادلة على ظاهرة الدفيئة أو ما يسمى بالاحتباس الحراري فهذا الاعتراض قابل للنقاش وبالتالي الرد للاسباب التالية :
أولا : تدل كلمة الفساد الواردة في الآية الكريمة خلل في أمر معين كالخلل الأخلاقي والاجتماعي والمالي أما علميا على أمر سلبي ضار يدخل في تركيب مادة صالحة وسليمة فقد يكون الامر السلبي الذي يفسد البحر هو فساد كيماوي او اشعاعي او مخلفات صناعية او مياه المجاري ولا يمنع أن يكون الفساد المقصود حراريا عن طريق تبريد المحركات المستخدمة في المحطات الحرارية أو زيادة غاز ثاني اوكسيد الكربون والعناصر الاخرى التي تسبب ارتفاع درجة حرارة الارض مثل ثاني أكسيد الكربون(CO2) – أكسيد النيتروز (N2O) والميثان (CH4) و الأوزون (O3) و الكلوروفلوركاربون (CFCs
ثانيا : لو اكتفى الخالق سبحانه وتعالى بقوله : ظهر الفساد في البر بما كسبت أيدي الناس …………… ألى آخر الآية الكريمة لقلنا أن الفساد المقصود في الاية لا علاقة له بالتلوث البيئي أيا كان نوعه بل نقول أن الفساد المقصود في الآية فساد اجتماعي أو فساد أخلاقي أو اقتصادي ونحوه من الفساد الذي يهدد المجتمعات ولكن الله سبحانه وتعالى قال : في البر والبحر ) ومن المعروف أن الانسان لا يعيش في البحر ولكن يعيش على البحر وبالقرب من البحر والسياق القرآني في الآية لم تكن صياغته بهذه الطريقة اللغوية والبنيوية من باب العبث بل لحكمة عظيمة يفهمها العلماء والراسخون في العلم وليس ذوي التفكير السطحي او التفكير الهش
ثالثا :من المعروف لدى علماء البيئة وجود علاقة وثيقة بين التلوث الحراري الناتج عن زيادة تراكيز غاز ثاني اوكسيد الكربون والفساد الذي يلحق بالبحار
فقد اكتشف فريق دولي من العلماء ان المحيطات امتصت نحو 118 مليار طن متري من غاز ثاني اوكسيد الكربون انبعثت من انشطة بشرية في الفترة بين عامي 1800 و1994، اي حوالي ثلث طاقتها الاستيعابية.علاوة على كميات الغاز المنبعثة منذ 14 سنة
واكتشف باحثون ان هذه النتائج قد تشكل خطورة على المدى البعيد على كائنات بحرية مثل الشعاب المرجانية التي تجد صعوبة في بناء الغطاء الخارجي الواقي مع زيادة مستويات ثاني اوكسيد الكربون
ويؤدي التغير في التركيب الكيميائي لمياه المحيطات الى نقص الايونات المشبعة بثاني اوكسيد الكربون التي تحتاجها الشعاب المرجانية وكائنات اخرى في تكوين الغطاء الخارجي. وفي المناطق التي ينخفض فيها مستوى الايون كثيرا يمكن ان يبدأ الغطاء الخارجي المكون من كربونات الكالسيوم في التحلل.
رابعا : لا يخلو الامر من ربط بين هذا النوع من الفساد ( التلوث ) بالتذكير بالعذاب الرباني الناجم عن الفساد في العقائد والايمان ونحوه من فساد اخلاقي فتشتمل الاية على اساسيات في التربية والتأدب مع الله سبحانه وتعالى الذي خلق لهذا الانسان الكون وسخر له ما فيه من نعم ظاهرة وباطنه ولكن الانسان يعصي ربه ولا يتأدب معه فلسان حال الآية يقول للأنسان : اذا كان هذا حالك أيها الانسان عندما ارتفعت درجة حرارة الارض هذه الدرجات البسيطة فكيف يكون حالك عندما تعذب بنار تفوق النار التي تعرفها في الحياة الدنيا بتسعة وستين ضعفا ؟
خامسا : ان الآية القرآنية الكريمة التي جاءت في سورة لقمان ( ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام ……..الى آخر الآية الكريمة فهذه الاية الكريمة لا علاقة لها بالموضوع البيئي الذي نحن بصدده بل عرضت واثبتت مجموعة من الامتيازات الربانية التي لا يمكن للبشر معرفتها أو التكهن بها مهما أوتوا من وسائل معرفية فهي أمور أستأثر بها الله سبحانه وتعالى ولم يطلع عليها أحدا فهي من اختصاصه وهذه الآيات لا توحي مطلقا الى وجود علاقة بين التلوث وموعد قيام الساعة لأن ذلك من احتصاص الله تعالى كما يقول في سورة النازعات ( يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها الى ربك منتهاها ) آية /44
سادسا : في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن التلوث الغازي وخاصة ثاني اوكسيد الكربون وسنعرض ذلك في دراسة مقبلة ان شاء الله من خلال هذا الموقع العلمي المتميز تحمل عنوان (التلوث البيئي من منظور قرآني ) وسأعرض فيها كافة انواع التلوث التي ذكرها القرآن الكريم بصورة مجملة كما ذكرت في هذا المقال لأن القرآن الكريم ترك ذلك الاستنباط لعلمائه المسلمين في جميع العصور أيا كانت تخصصاتهم العلمية سواء كانت شرعية وقانونية واقتصادية وطبية وفلكية وغيرها من تخصصات فالقرآن الكريم جاء تبيانا لكل شيء كما جاء على لسان الحق جل ذكره فالقرآن الكريم يحمل في ثناياه حضارة عظيمة تركها الرسول صلى الله عليه وسلم لأتباعه المسلمين المؤمنين بصلاحية هذا القرآن الكريم لكل زمان وكل مكان ولو كان الامر غير ذلك لقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم بتفسير القرآن الكريم قبل الف واربعمائة سنة ولكنه صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يدرك تماما أن تفسير القرآن في عهده سيحرم أجيالا متتابعة من بناء حضارة ومدنية فى الالفية الثالثة او ما بعدها أذا ما كتب الله سبحانه وتعالى للانسانية أن تبقى ولم تدمرها مسببات التلوث ومنها الاحتباس الحراري .
سبحان الله الخالق