ارتبط البردي منذ العصور السحيقة بحياة المصريين القدماء ارتباطاً وثيقاً، فدخل في نسيج حياتهم الاجتماعية وعاداتهم اليومية بصورة لا مثيل لها، فاستخدموه في كثير من المشغولات النفعية، وجعلوه طعاماً مستساغاً لهم، كما حاكوه في بنائهم المعماري. إلا أن أعظم إفاداتهم منه حين صنعوا من نخاعه الليفي ورقاً للكتابة، وحرصوا على ألا يتسرّب سرّ اختراعهم النفيس إلا بعد زوال شمس حضارتهم، فبدأت برديّاتهم تبوح بأسرارهم، وتنقل تراثهم إلى الأجيال اللاحقة. جزء من نسيج الحياة
ليس من السهولة بمكان تحديد مدى العلاقة الحميمة التي تربط البردي ببيئته، وما تمثّله نباتاته بوصفها ابنةً شرعيةً لمستنقعات مصر القديمة. فمنذ فجر التاريخ تعمّقت جذوره، وتشابكت سيقانه الطويلة المستقيمة وأعواده الغضة وأزهاره الخيمية الشكل؛ لتكوّن أحراشاً كثيفة ظليلة تعلو إلى ارتفاع يبلغ خمسة أمتار.
ومن الناحية العلمية، ينتمي البردي إلى الفصيلة السعدية من ذوات الفلقة الواحدة. وقد انتشرت زراعته على طول السواحل المصرية، وعلى شاطئ النيل، إضافةً إلى مياه البحيرات الراكدة. ومنذ عصور ما قبل الأسرات الفرعونية اشتهرت عدة مدن مصرية قديمة بزراعته؛ منها: بنها، وبوصير، وسمنود، ودهقلة، ودمياط، ورشيد، والبهنسا، والأشمونين، والفيوم، وكوم إشقاو، وإدفو، ودندرة، وغيرها. ومن ثَمّ حظي بعناية فائقة من جانب الأهالي في تلك المناطق. وليس أدلّ على ذلك من عشرات الأسماء التي أتحفوه بها، وهي تصف حالاته المختلفة، فأطلقوا عليه اسم (محو) عندما تتجمع حزم من سيقانه الغضة الطرية، واسم (ثوفي) الذي يصف حالته إذا كان كثيفاً على هيئة أحراش، كما أطلقوا عليه اسم (محيت) ليصف حالته وقت زراعته. إلا أن أشهر الأسماء التي أطلقت عليه هو اسم (واج)، وهو يحوي معنى الخضرة والنضارة التي يمرّ بها النبات وهو ينمو في وسطه المناسب، وتكون هذه الخضرة على أشدها باقتراب موسم الإزهار الذي يبلغ فيه أحسن مراحل نموه، وكان هذا الموسم يبدأ من أوائل شهر يونيو حتى نهاية أغسطس. وبانتهاء شهر سبتمبر تأخذ خضرة النبات ونضارته في الذبول تدريجياً حتى يصل إلى مرحلة الجفاف مع تقدّم موسم الشتاء، فتصفرّ نورته، ويتحول أسفل الساق المغطّى بالأوراق الحرشفية من اللون الأبيض الناصع إلى اللون البني الأدكن، وهذا يعدّ إيذاناً بالاحتضار، كأنه بموته يعطي سبل حياة للإنسان على ضفتي النهر؛ فالفراعنة أقاموا علاقات تواصل دائم وتجانس كامل معه، فجعلوه جزءاً من نسيج علاقاتهم الاجتماعية وتقاليدهم اليومية بصورة لا مثيل لها؛ فمنذ وضع الحامل مولودها الجديد على حصير وثير من أزهاره حتى نقل جثة المتوفَّى إلى مثواه الأخير بواسطة تابوت من سيقانه يظلّ البردي شاهد إثبات على مراحل عمر الإنسان في القرى والمدن المصرية القديمة كافةً. فجدّ الفلاحون في الريف في قطع أعواده عوداً عوداً، وحزموها حزماً ثقيلة، ونقلوها إلى حيث يقطنون؛ ليقيموا منها أسوجة وحجرات غطّيت من الخارج والداخل بغرين النيل الأسود، فكان بالفعل مادةً بنائيةً مثاليةً ومكيفاً طبيعياً لعوامل الطقس المختلفة. والحقيقة أن تلك الأكواخ كانت متحفاً متكاملاً تزخر جنباته بكثير من مشغولات البردي؛ مثل: الأثاث، والأواني، والسلال، ومراتب النوم، والأحذية الخفيفة، والزهريات.
كذلك فطن الصيادون إلى خاصية الطفو المذهلة التي يتمتع بها البردي؛ لقلة كثافته؛ إذ تعدّ سيقانه الجافة أخفّ أنواع النباتات؛ لذا ربطت سيقانه وضُمّت بعضها إلى بعض وصُنعت منها القوارب التي استخدموها في صيد الأسماك والطيور التي كانت تعجّ بها المستنقعات والبرك. وتذكر المصادر التاريخية أن يوكابد – أم موسى عليه السلام – وضعت ابنها الرضيع في قارب صغير مصنوع من سيقان البردي عندما خافت عليه من بطش فرعون الذي رأى في حلمه أنه سيلقى حتفه على يدي طفل من سلالة بني إسرائيل، فأمر بقتل جميع أطفالهم. ولا شك أن أم موسى عليه السلام – وقد عاشت في مصر – تعلّمت من المصريين كل خواصّ البردي وقابليته للغرق بعد مدة نتيجة تشرّب سيقانه الماء، فقامت بطلاء قاربها بمادة القطران مثلهم.
وأدرك الحرفيون وأصحاب الصناعات أن لسيقانه استعمالات أخرى، فصنعوا منها الحبال التي مازال المتحف المصري بالقاهرة يحفظ لفّات منها، يصل بعضها إلى أقطار ضخمة قد تبدو غير مألوفة بالنسبة إلى الحبال التي نستخدمها حالياً من ألياف أخرى. وقد اشتهرت حبال البردي هذه بتحمّلها تأثير الماء أكثر من تلك المصنوعة من النباتات الأخرى. وكما استفاد المصري القديم من سيقانه فإنه استخدم جذوره وقوداً، كما استخدم الأزهار في عمل الباقات والهدايا التي كان يقدمها إلى الآلهة رمزاً للنصر والفرح. وكذلك عرف الفقراء أن لهذه النبتة فائدة أخرى تقيهم غائلة الجوع، فعمدوا إلى أكلها في حالات القحط والضيق الشديد نيئةً أو مطبوخةً كما نفعل ببعض النباتات البرية حالياً، أو مضغوها وامتصوا عصيرها؛ لما فيه من حلاوة جعلته مستساغ الطعم.
غابة البردي المتحجرة
تذكر الأسطورة المصرية القديمة أن «أعمدة شاهقة من البردي كانت تحمل السماء». ومن هذا المنطلق انتشرت أعمدة البردي التي نُحتت من حجر الجرانيت الوردي لتحمل سقوف المعابد. وأقدم هذه الأعمدة نجده في مباني الأسرة الثالثة (2700- 2613 ق. م)، ممثلةً في معبد الملك زوسر المحيط بهرم سقارة المدرج، فنجد نماذج من الأعمدة تمثّل ساق البردي منفصلةً. لكننا نجد تطوراً كبيراً في استخدام شكل سيقان البردي في مباني العصور التي تلت ذلك؛ إذ تختفي ساق البردي المنفصلة لتحلّ محلها حزمة من ستّ أو ثمانّ من سيقان البردي. كما نجد أن المصريين استخدموا زهرة البردي في تيجان أعمدتهم، إما بشكلها المزهر كما في حالة أعمدة معبد الكرنك، وإما بشكل الزهرة وهي مازالت برعماً كما في حالة بعض أعمدة معبد الأقصر.
والحقيقة أن نظرة متأملة للبهو العظيم في الكرنك بمساحته التي تسع كاتدرائية نوتردام في باريس، وأعمدته التي يبلغ عددها مئة وأربعة وثلاثين عموداً، لتظهره كأنه غابة ضخمة متحجّرة من البردي تشغل النظر، وتملأ الحسّ، وتحول دون النظرة المنحرفة، ولعله يشفع – في غلظ الأعمدة، وقرب بعضها من بعض – ارتفاعها الشاهق، وثقل ما تحمل من أعتابٍ وأحجار السقف.
ولعلّ المُلاحِظ عمارة تلك الأعمدة يجد أن المصريين لم يغفلوا إبراز البردي كما هو في بيئته الطبيعية، فقاموا بزخرفة الجزء الأسفل من الأعمدة بما يظهر وجودها مغمورةً في الماء، كما مثّلوا قوامها على هيئة أغصان البردي وسيقانه المتألقة؛ إذ يبدو كلّ غصن فيها مثلث الشكل، وهي تضيق عند المنبت حيث تحلّيها أوراق مثلثة، ثم ما تكاد الساق تغلظ حتى يصغر قطرها تدريجياً، وتنتهي ببراعم متضامّة لم تتفتّح بعد، وتحيط بالبراعم أوراق مثلثة أخرى لا تبلغ ثلث ارتفاعها تمثّل الكأس التي تحيط بالزهر.
وبخلاف الأعمدة، كان البردي مادة أساسية لزخرفة جدران المقابر؛ ففي مقابر الأسرتين الخامسة (2498- 2345 ق. م) والسادسة (2345- 2150 ق. م) في سقارة قلّ أن نجد رسماً يخلو من البردي في أيّ شكل من أشكاله؛ فبعض المناظر يشير إلى حصاد البردي بواسطة أفراد يقومون بذلك العمل، إما وهم يخوضون في الماء إن كان ينمو في مناطق ضحلة، وإما وهم يركبون قوارب صغيرة مصنوعة هي نفسها من سيقان البردي إذا كان البردي ينمو في مناطق عميقة نسبياً، وإما مناظر يظهر فيها صاحب المقبرة وهو يقوم بصيد الأسماك أو الطيور في أحراش البردي، وإما يظهر المتوفَّى وهو يقوم بتقديم القرابين إلى الآلهة، وفي مقدمة هذه القرابين سيقان البردي بزهرتها الرائعة. كما تبدو في مقابر وادي الملوك بالأقصر الجدران وهي محلاة برسوم وزخارف متكررة أساسها زهرة البردي اليانعة.
وبسبب اختباء سيدة الآلهة وملكة الربات إيزيس وابنها حورس بين أحراشه، فإنه صار صولجان الربّات السحري بقوامه الفارع، وخضرته الدائمة. ومن ثَمّ وجدنا على جدران مقابر وادي الملكات ومعبد أبي سمبل كثيراً من النقوش التي تصوّر الربّات المختلفة؛ مثل: حتحور، وسخمت، ونفتيس، وغيرهن، وقد أمسكت كلّ منهن بصولجان البردي؛ إشارةً إلى رمز القوة والحياة، وهو أهم ما اتّصفت به الآلهة حسب المعتقدات السائدة في ذلك الحين.
الاختراع النفيس
سيظلّ اختراع الورق من نبات البردي من أعظم الاختراعات التي كان لها أثر عظيم في رقيّ الجنس البشري عامة، وازدهار الحضارة الفرعونية خاصةً. وعلى الرغم من عناية المصريين القدماء بتسجيل كلّ ما يتصل بحياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم، وكلّ ما يتصل بأنشطتهم الزراعية والصناعية، داخل مقابرهم، أو على جدران معابدهم، أو على صفحات بردياتهم، إلا أنهم لم يتركوا دليلاً واحداً يذكر تاريخ صناعة ورق البردي أو تفاصيلها. غير أن الأمر الاجتهادي يرجّح أن يكون ذلك قد تمّ منذ عهد ما قبل الأسرات؛ فقد كشفت الحفريات الحديثة في منطقة سقارة عن قصاصات بردية في مقبرة (حماكا)؛ أحد كبار رجال الدولة في الأسرة الأولى. ومع أن هذه القصاصات كانت خاليةً من أيّ كتابة، إلا أنها تؤرّخ لوجود أوراق البردي إلى ما قبل عام 3100 ق. م.
وقد كان العالم الروماني الشهير بليني، الذي عاش بين عامي 23 و79م، أول من ذكر بالتفصيل طريقة تصنيع أوراق البردي. ومع أن ما ذكره يفتقد إلى كثير من الدقة؛ إذ إنه سجّل ما سمع من غيره، ولم يشاهد بنفسه طريقة التصنيع، إلا أنه ظلّ المرجع الرئيس الذي اقتفاه جميع المؤرخين فيما بعد.
وكان من أهم ما يلزم لصناعة أوراق البردي هو أن تنزع القشرة الخضراء لساق النبات، ويقطع نخاعه الليفي إلى شرائح رقيقة يتم نقعها وتجفيفها عدة أيام فوق سطح خشبي أو حجري مستوٍ وهي متراصّة بعضها بجوار بعض، ثم تصفّ طبقة ثانية من الشرائح في وضع عمودي عليها، ثم تدحى بمدحلة ثقيلة عدة مرات؛ حتى تصبح الشرائح ناعمةً طريةً وتبدو نصف شفافة إذا تمّ رفعها في اتجاه مسار الضوء. وهكذا تتشكّل طبقة وراء أخرى، فإذا تمّ إعداد كومة من بضع طبقات تُدقّ وتُضغط برفق بواسطة مكبس مناسب، ثم تترك في الشمس حتى تجفّ وتتجرّد من الماء والسوائل. وأخيراً، تهذّب كل ورقة على حدة، وتصقل، وتنعّم بواسطة حكّ الوجه بقطعة من العاج أو المحارة. وفي الواقع، إن الهدف الرئيس من تلك المرحلة كان بمنزلة اللمسة الفنية لجعل الألياف الناعمة لوجه الورقة صالحةً للكتابة؛ حتى يأخذ القلم سبيله من دون مقاومة أو أيّ خشونة قد تعيق يد الكاتب.
وكانت رقائق البردي تجهّز في شكل وحدات مختلفة الأطوال. وتدلّنا البرديات المتبقية على أن أوراقها تعدّدت صحائفها، وازدادت طولاً كلما تقدّم الزمن، وإذا كانت أقدم بردية مكتوبة وصلت إلينا لم يتعدّ طولها العشرين سنتيمتراً، وكانت تمثّل بقايا من دفتر حسابات اكتشفت في المعبد الجنازي للملك نفركارع أسيسي من الأسرة الخامسة؛ فإن أطول بردية معروفة هي بردية جرينفيلد المحفوظة في المتحف البريطاني؛ إذ يبلغ طول كلّ صفحة من صفحاتها 47 سنتيمتراً.
والواضح أن البرديات ذات الأطوال الكبيرة لم تكن لتستخدم في الموضوعات الأدبية التي تقتضي قراءتها أن تتداول مراراً، وإنما كانت مخصّصة لكتابة الموضوعات القضائية، وبعض الأعمال الحسابية، وكتب الموتى.
وفي الأغلب، كانت تلصق الأطراف الطويلة للصفحات معاً لتكوّن لفافة، وتتألف اللفافة النموذجية من عشرين صفحة. وبطبيعة الحال، كان بالإمكان لصق عدة لفافات. والمعروف في الوقت الحاضر أن أطول لفافة عُثر عليها يبلغ طولها أربعين متراً، وهي محفوظة في المتحف المصري. كما أن هناك لفافةً تبلغ خمسة وعشرين متراً في جامعة ميتشيغن بالولايات المتحدة الأمريكية، تشتمل على أكبر عدد من السطور المكتوبة؛ إذ تضم ما يزيد على ستة آلاف ومئتي سطر من الكتابة.
والحقيقة أن رقائق البردي امتازت بجمال منظرها، وملمسها الناعم، فضلاً عن متانتها وتشرّبها الجيد جميع أنواع الأحبار من دون الحاجة إلى نشاف، ومن دون أن يظهر الحبر على ظهرها. لذلك، ليس غريباً أن تكون مادة مثالية، بل متألّقة للكتابة. وقد أدرك فراعنة مصر هذه الحقيقة فقرّروا احتكار الدولة صناعته وتسويقه، وحرصوا جاهدين على الاحتفاظ بسرّ صناعته. وليس أدلّ على ذلك من كلمةPAPER، التي تعني ورق بالإنجليزية، فهي مشتقة من كلمة بابيروس PAPYRUS ذات الأصل الفرعوني التي تعني النبات الملكي. وقد ظلّ هذا السرّ طيّ الكتمان حتى لفظت الحضارة الفرعونية أنفاسها، ورزحت مصر تحت حكم الفارسيين، ومن بعدهم الإغريق، فالرومان، فانتقلت زراعة البردي إلى بلاد الرافدين وسورية وصقلية وفلسطين. كما صُدّر كثير من لفافات البردي إلى بلاد اليونان وروما، فسجّل الأجانب في تلك البلاد أفكارهم وتأملاتهم الشهيرة على أوراقه الجميلة.
وحتى بعد انقضاء العصر الفرعوني لم يظهر منافس حقيقي للبردي حتى عام 105م حينما اخترع أحد موظفي البلاط الملكي في الصين الورق الكاغد. وحذا أباطرة الصين حذو فراعنة مصر من قبل فعملوا على ألاّ يتسرّب سرّ اختراعهم إلى الخارج. لكن عندما ذاع السرّ عام 751م، وعرف العالم المتحضّر صناعة الورق، تدهورت صناعة البردي في مصر، ثم توقفت، بل سرعان ما بدأ نبات البردي نفسه يتوارى، ثم اختفى من مصر تماماً بعد ذلك بقرون قليلة؛ بسبب فلاحة الأرض، وغمر المستنقعات بالطمي عاماً وراء آخر. ويعود الفضل في إحياء صناعة البردي الحديثة في مصر إلى الدكتور حسن رجب، الذي سافر في ستينيات القرن الماضي إلى أعالي النيل في السودان، وحصل على جذور النبات، ثم أعاد زراعتها في مزرعة صغيرة بالقرية الفرعونية التي أنشأها جنوب القاهرة.
البرديولوجيا
تمّت أول الاكتشافات البردية الحديثة في عام 1752م، عندما جرت الحفريات في هيركولانيوم بالقرب من نابولي بإيطاليا، وكشفت عن ثماني مئة لفة من أوراق البردي. لكن بركان فيزوف المجاور عند ثورته في عام 1979م حجرها حتى تعذّر على الباحثين – حتى مع الأساليب التقنية الحديثة – أن يفكّوا ألغاز ما يزيد على عدد قليل منها؛ مما دلّ على أنها كانت بقايا مكتبة فلسفية قديمة تخصّ كُتاباً من مدرسة فيلوديموس وأبيقور من معاصري شيشيرون وفرجيل.
أما في مصر، فكانت باكورة الاكتشافات البردية في عام 1778م، عندما عرض جماعة من الفلاحين على تاجر أوربي نحو خمسين لفافة بردي، فابتاع التاجر إحداها، انتقلت بعد ذلك إلى الكاردينال ستيفانو بورجيا، وأصبحت تعرف باسم وثيقة بورجيا، وهي الآن في متحف القصر المعروف باسم فيللابورجيسي في روما. وتشتمل هذه الوثيقة على ثَبَت بأسماء العمال المستخدمين في إقامة أحد الجسور القديمة. بينما كانت أول بردية أدبية يتم الحصول عليها من مصر هي لفافة تحتوي على الكتاب الرابع عشر من إلياذة هوميروس، أحضرها وليم بانكرز عام 1821م، ثم سلّمها بعد ذلك إلى المتحف البريطاني. وقد حصل المتحف نفسه عام 1847م على إحدى المخطوطات البردية لأحد المؤلفات الكلاسيكية المفقودة، تحتوي على ثلاث خطب لهبريدس. وعلى مدى الثلاثين عاماً التالية، خرجت من مصر مئات البرديات الفرعونية لتستقرّ في متاحف لندن وباريس وتورينو وفيينا.
وفي شتاء عام 1877- 1878م غصّت سوق الأثريات في مصر بآلاف من أوراق البردي جيء بها من مرتفعات في قرى صعيد مصر كان الفلاحون يعدّونها للزراعة، ولم تكن هذه المرتفعات سوى مزابل للسكان القدماء لرمي النفايات. وبادر قناصل بريطانيا وفرنسا وألمانيا في القاهرة إلى شراء مجموعات كبيرة من هذه الأوراق، لكن القسم الأكبر منها كان من نصيب المكتبة الوطنية في فيينا؛ إذ بلغ عددها نحو مئة ألف.
والثابت أن أعمال البحث الأولى عن البردي كانت تتم بطرائق خالية من المهارة أو الخبرة، وبطرائق غير مشروعة وغير فنية، حتى بدأت أول أعمال بحث منظمة عام 1889م على يد السير فليندرزبيتري، الذي عثر في منطقة الفيوم على بعض المومياوات استعمل في غطائها الخارجي ورق البردي بدلاً من القماش الذي كانت تلفّ به عادةً. بعد ذلك، تنبّهت جمعية الحفريات المصرية في لندن إلى أهمية إجراء الأبحاث الأثرية في مصر، فأرسلت إلى مصر عام 1895م شابين بريطانيين لإجراء سلسلة من الحفريات. وبعد جهود استغرقت تسعة أسابيع عثرا على مقادير هائلة من لفات البردي في قرية البهنسا بالمنيا كانت تمثّل أرشيفات رسمية رُميت مرة بعد مرة في مختلف أدوار التاريخ المصري. وسرعان ما نشر هذان الشابان، وهما: إس هنت، وبوبي غرينفيل، بالتعاون مع جي كينون من المتحف البريطاني، ويوولكين في برلين، هذه الأوراق نشراً علمياً كان بداية ما نسمِّيه بعلم دراسة أوراق البردي، أو (البرديولوجيا). ومنذ ذلك التاريخ أدركت جامعات العالم أهمية هذا العلم، فأنشأت معاهد وكراسيّ متخصصة فيه. وقد تمّ إنشاء أول كرسيّ أستاذية في هذا النوع من المعرفة في جامعة أكسفورد عام 1908م. كما أقامت السربون بجامعة باريس قسماً خاصاً لعلم البرديات عقب الحرب العالمية الثانية. ثم تبعه إنشاء معهد للبرديات في مدينة فلورنسا بإيطاليا. وفي بروكسيل ببلجيكا هيئة دولية لعلماء البرديات في العالم تجتمع مرة كل ثلاث سنوات على هيئة مؤتمر دولي لمناقشة الأبحاث والبرامج المتعلقة بهذا النوع من التخصّص.
حفظ التراث الإنساني
لقد كانت للبرديات المكتشفة أهمية قصوى؛ إذ وفّرت لنا أصول كثير من الكتابات السياسية، وأمدّتنا بعدد من النصوص الأدبية المهمة، التي عرّفتنا أسماء الآلهة التي عبدها المصريون القدماء، وقوائم الملوك الذين حكموا مصر قديماً، والقوانين التي سنُّوها لتسيير أمور البلاد، إضافةً إلى القصص، والموضوعات البلاغية، والأناشيد، والتراتيل، والنصوص الجنائزية، وكتب الموتى.
إلا أن محتويات أوراق البردي لم تقتصر على الكتابات السياسية والأدبية فقط، بل منها ما اشتمل على وصفات طبية وعلاجية، ورسائل، وحسابات، وبيانات ولادة أو وفاة، وعقود زواج وأحكام طلاق، وإفادات عمل أو دراسة، واتفاقيات لبيع أو إيجار، وإيصالات وسجلات عن إحصاءات، وإشعارات أو إنذارات رسمية، وأوصاف لممارسات سحرية أو طقوسية. وبعبارة أخرى: تدخلنا محتويات أوراق البردي في صلب الحياة البشرية بنواحيها المختلفة مباشرةً. كذلك تصف لنا أحوال الناس من الطبقات الاجتماعية شتى؛ فهذه ورقة تحكي لنا قصة حاكم يزور أنحاء مقاطعته، وهذه أخرى تتناول قيام هذا الموظف أو ذاك بواجباته الرسمية. يُضاف إلى ذلك أوراق تتكلّم عن موظفين أمناء، وآخرين غير أمناء، إلا أن أكثر ما نعثر عليه فيها يشمل معيشة الناس العاديين في أنشطتهم اليومية من المهد حتى اللحد، حتى يصحّ القول: إن هذه الأوراق البردية زادت معارفنا عن العصور القديمة في ميادين الحكم، والاقتصاد، والبناء الاجتماعي، والقانون، إلى درجه تكاد تكون غير محدودة.
والحقيقة أن تلك البرديات التي تفاخر بها المتاحف العالمية، وتزخر بها المكتبات الوطنية، لا تقتصر على ما خلّفه المصريون القدماء ودُوِّن باللغة الهيروغليفية أو الديموطيقية فحسب، بل إن الكتابة الإغريقية عندما عمّت الشرق القديم على شواطئ البحر المتوسط احتلت مكانة مرموقة في أوراق البردي المكتشفة بالنسبة إلى المدة السابقة للفتح العربي في منتصف القرن السابع للميلاد. إلا أن هذا الأمر ينبغي ألا ينفي وجود أوراق بلغات أخرى؛ كالعربية، واللاتينية، والسريانية، والعبرية، والفارسية، تقدّر أعدادها بالآلاف، استطعنا من خلالها كشف كثير من خفايا التراث الإنساني؛ منها: دستور أثينا لأرسطو طاليس، والروايات الساخرة للشاعر الإغريقي هيرونداس، ورواية مينا ندر الذي يجيء ثانياً بعد أرسطوفان، إضافةً إلى قطع من قصائد وكتابات لهرم وديمو شينز ويوربيدس وهسيود. فضلاً عن جلاء مدى العدالة التي نفّذها قادة الجيوش الإسلامية في أثناء فتوحاتهم، ودحض افتراءات ما روّجه المستشرقون من تعصّب المسلمين تجاه غيرهم من أهل الديانات الأخرى وغيرها.
وليس لنا أن نختم هذه السطور من غير أن نشير إلى أن كثيراً من البرديات التي وصلتنا ما كانت لتنجو من الإهمال أو التلف، فجاءتنا متهالكة؛ مما يصعب معه فكّ طلاسمها ورموزها، أو قراءة نصوصها بصورة صحيحة. ولنا أن نعلم أن مجموع البرديات المنشورة حتى الآن لا يتجاوز نصف ما هو موجود منها في مركز واحد؛ لذلك فهي تتطلب عنايةً فائقةً من جانب المتخصّصين، سواء من خلال ترميمها وترقيعها ولصق شرائحها أم من خلال حفظها بطريقة علمية تحميها من الآفات وعوامل الطقس، فضلاً عن فهرستها فهرسةً مبسطةً تسهّل للدارسين أمر التعامل معها، وتفتح السبيل أمام الباحثين لإماطة اللثام عما تختزنه.
خالد خلف زيدان
المراجع
1- البردي، د. حسن رجب، دار المعارف، القاهرة، 1981م.
2- حين تكتب البرديات التاريخ الصحيح، د. نعمات أحمد فؤاد، مركز الدراسات البردية، جامعة عين شمس، القاهرة، 1983م.
3- معجم الحضارة المصرية القديمة، جورج بوزنر، ترجمة: أمين سلامة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996م.
4-البرديات العربية في مصر الإسلامية، د. سعيد مغاوري محمد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004م.
5- روح مصر القديمة، آنارويز، ترجمة: إكرام يوسف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006م.
6- البردي واللوتس في الحضارة المصرية القديمة، محمد محمد الصغير، منشورات كلية الآثار، جامعة القاهرة، القاهرة، 1976م.
7- البرديات العربية، د. عبدالعزيز الدالي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1983م.
8- مصر والحياة المصرية القديمة، أدولف إرمان، وهرمان رانكة، ترجمة: د. عبدالمنعم أبو بكر، ومحرم كمال، القاهرة، د. ت.
9- Egyption papyri and papyrus Hunting, james Baike, London, 1925.
10-papyrus an Art As old As writing, john Bentley, New yourk, 1987.
11-Egypt>s papyrus Art, Lewis Macquitty, New yourk, 1990.