كلنا نعرف أن الياقوت هو أحد الأحجار الكريمة، فقد كان العرب في الماضي يميلون إلى تسمية عبيدهم بأسماء رقيقة مثل یاقوت و کافور وزمرد وريحان، بينما كانوا يختارون لأنفسهم أسماء تدل على شدة المراس والقوة والصلابة مثل صخر ورعد وغيرها .
وياقوت الذي نحن بصدد الكلام عنه، كان عبدا اشتراه تاجر حموی كان يعيش في بغداد من أحد النخاسين ورباه وعلمه القراءة وفنون التجارة . وكان يعرف أيضا بلقب الرومي، نسبة إلى موطنه الأصلي بلاد الروم البيزنطية .
ولقد سمی أيضا بابن عبد الله كما كانت هي العادة في تسمية كل من لم يعرف والده في تلك الأيام والسبب في عدم معرفة أحد من أبويه أو جماعته هو أنه كما سبق أن ذكرنا قد جلب من بلاد الروم ضمن الرقيق .
اتساع مدارك یاقوت:
كانت لغة ياقوت هي الرومية وليست العربية في بداية الأمر ، ولحسن حظه أن سيده كان كريم النفس و كريم اليد ، ولكن نصيبه من العلم كان محدودا . لذلك فإنه عمل جاهدا على أن يعلم ياقوت بأي ثمن لكي يستفيد منه في إدارة أعماله التجارية و لكي يرفع من مستواه الاجتماعي في نفس الوقت .
و كثيرا ما كان ياقوت يرافق التاجر الحموي في أسفاره ورحلاته التجارية . ونظرا لذكاء و نشاط وإخلاص یاقوت لسيده ، وحرصه على القيام بأعماله الموكولة إليه خير قيام فإن سيده كثيرا ما كان ينتدبه لقضاء أعماله التجارية خارج البلاد .
ومن الأماكن التي ارتادها ياقوت بحكم مهام عمله جزيرة قيس الواقعة في خليج عمان . ولقد ساعدت تلك الجزيرة على توسيع مدارك صاحبنا الجغرافية ، و كذلك زادت شغفه بطلب المزيد من المعلومات .
وهناك أسباب يسرت له ذلك وهي :
1- موقع الجزيرة الجغرافي الذي يتمتع بقربه من ساحلين هامين هما الساحل العربی
والساحل الفارسي ، و كذلك قرب الجزيرة نفسها من مسطحين مائيين كانا مسرحا لحركة مواصلات تجارية مهمة هما البحر العربي والمحيط الهندي .
2 – طبيعة الجزيرة نفسها وغناها بالنخيل والأشجار والنباتات المختلفة .
3- نشاط الحركة التجارية في الجزيرة حيث كان يؤمها عدد كبير من التجار والبحارة والرحالة حاملين معهم سلعهم ومعلومات قيمة عن الأقطار المتعددة التي زاروها أو مروا بها في أثناء سفرهم بالبر أو البحر .
ومما يذكر أن تلك الجزيرة هي التي زارها ماركوبولو الرحالة الأوربي الذي تمكن من الوصول إلى بلاد الصين بحرا ورجع منها إلى بلاده برا .
أيهما أفضل العلم أم التجارة ؟
وفي عام 56 هـ – 1199 میلادية بينما كان ياقوت مغتربا في إحدى رحلاته التجارية وصل إلى علمه خبران مهمان ؛ أحدهما محزن ألا وهو وفاة سيده التاجر الحموي ، والآخر سار ومفاده أن سيده قد أعتقه قبل وفاته وورث ياقوت لقب حموی عن سيده وانصرف ياقوت إلى طلب العلم وهجر التجارة و استقر في بغداد .
وبدأ يكرس وقته لنسخ الكتب، ويبدو أن من اعتاد على الأسفار في اليابس والماء يصعب عليه أن يبدل اليابس بورق يكتب عليه والماء بحبر يكتب به . انطلق صاحبنا بعد أربع سنوات من وفاة التاجر الحموی لیواصل الرحلات وليجمع المعلومات واستمر كذلك لمدة ست عشرة سنة بصورة متواصلة تخللها استراحات قصيرة الأمد.
وفي سنة 616 هـ 121 م عندما كان يريد القيام بزيارة إلى خوارزم بلغ سمعه خبر تقدم جيش المغول إلى تلك النواحي ولذلك فإنه يمم وجهه شطر خراسان . فاقدا بعض ما دونه من المعلومات القيمة التي جمعها في أثناء رحلاته السابقة .
الوزير الفيلسوف يحتضن ياقوت :
من خراسان سافر ياقوت إلى الموصل ليصلها مفلسا معدما . ولكن الله عز وجل سخر له ابن القفطي الذي عرف بحبه للعلم والأدب ، وتقديره وإجلاله للعلماء فأكرم مثواه وأمده بالمال وكان ابن القفطي يعمل كوزير للسلطان الظاهر بن صلاح الدين الأيوی صاحب حلب . وكان هذا الوزير يعرف بالوزير الفيلسوف وتحت رعاية هذا الرجل تمكن ياقوت من أن يواصل كتابة معجمه .
وفي سنة 624 هـ – 1227 م سافر من حلب إلى فلسطين ثم مصر وبعدها رجع إلى حلب ثانية و انكب على مواصلة البحث و الكتابة و بقى كذلك إلى أن وافته المنية عام 626 هـ 1229 م وهو لم يتجاوز الخمسين من عمره وقبل وفاته أوصى بوقف كل كتبه على أحد المساجد في بغداد طالبا من صديقه المؤرخ المشهور ابن الأثير تنفيذ وصيته و بالفعل نفذت وصيته .
إنتاجه الجغرافي :
إن من أهم المميزات التي تحلى بها ياقوت في كتابته ورواياته هو كثرة استعانته بالقرآن والحديث في إعطاء شواهد و تأييدات لدعم ما يصف أو يحلل أو يعلل من ظواهر طبيعية أو بشرية على سطح الأرض كلما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ولقد لوحظ عليه أنه كتب بالتفصيل و بطريقة علمية أساسها المشاهدة والتجربة عن معظم الظواهر الجغرافية التي كتب عنها ، ومن البديهي ألا نستغرب عند ما نجد أن تعليلات – وتفسيرات تلك الظواهر قد جاءت في منتهى البراعة والإتقان وأعطتنا فكرة واضحة عن النظرة العلمية التي تحلى بها علماؤنا المسلمون الذين أخذوا على عاتقهم توسيع مجال و تطوير الأدب الجغرافي .
بدأ ياقوت معجمه بمقدمة تكلم فيها عن موضوعات مختلفة وعلى رأسها الجغرافيا ذاكرا في تلك المقدمة أسماء وبعض أعمال الجغرافيين الذين سبقوه .. وفي نهاية مقدمته أعطى تحليلا وشرحا
كافيا لمعجمه ووضح منهجه في التأليف وعارض فكرة الإيجاز في الكتابة . وجاء بعد المقدمة بخمسة أبواب يمكن اعتبارها كمدخل إلى علم الجغرافيا تكلم فيها عن : –
1- النظريات الجغرافية التي عالجت شكل الأرض معتبرا الأرض كروية في شكلها وتتجاذبها أطراف الفلك من كل النواحي كالمغناطيس تماما.
2 – تقسيم العالم إلى سبعة أقاليم على أساس البروج الاثني عشر والأقطار الواقعة تحت تأثيرها. كما قسم النصف الشمالي من الكرة الأرضية إلى سبعة أقاليم وفقا لدوائر العرض.
3 – خطوط الطول ودوائر العرض وبعض المصطلحات الجغرافية الفلكية .
4 – وصف وتصنيف للبلدان التي فتحها المسلمون بالإضافة إلى أخبار البلدان الأخرى وكيفية توزيع الممالك المختلفة .
وبعد هذا بدأ ياقوت في سرد مادة معجمه مرتبا البلدان حسب ترتيبها الأبجدي بطريقة منظمة تستحق الإعجاب والتقدير . ولقد رأى عند ذكر الأسماء أن يذكر الألفاظ المختلفة لاسم المكان محاولا تفسير تسمية المكان من واقع اللغة العربية . وكان يعارض بشدة فكرة وجود أصل غير عربي للاسم إلا في حالات نادرة .
وفي الحقيقة إن ذكر كل الألفاظ التي كانت مستخدمة لمكان ما كانت خير معين على التعرف على الاسم الصحيح من حيث نطقه لذلك المكان ، ومن الأسباب التي كانت تؤدي إلى خطأ في نطق أسماء بعض الأماكن هو أن العرب استخدموا الشعر في وصفهم لظواهر طبيعية وبشرية و مصطلحات جغرافية . ومعروف بأن الشعر يخضع لأوزان وقواف وكثيرا ما كانت الأوزان والقوافي تقود إلى نطق الأسماء بطريقة لا تطابق الواقع .
وكان ياقوت في أغلب الأحيان بعد ذكر أي مكان في معجمه يحدد موقعه حسب خطوط الطول ودوائر العرض ، والبرج الذي يقع تحته ذلك المكان . كما أنه كان يتعرض إلى الكلام عن نشأة المكان وأهمية موقعه وموضعه ثم يسرد تواريخ من سكنوه وأخبارهم وسيرتهم وكأنه بذلك يتكلم في أمور هي من صلب الجغرافيا التاريخية .
وعندما كان يتكلم عن المدن فإنه غالبا ما كان يعطي وصفا دقيقا لكل منها حيث يصف نظام شوارعها وطرز مبانيها وأشكال وتعداد قلاعها وموانئها ، بالإضافة إلى ما تقدم فإنه لم يفت یاقوت أن يصف عادات و طباع سكان المدن والقبائل وأن يذكر بعض عجائب و غرائب البلاد النائية .
ويبدو أن هدف ياقوت الذي كان يرمي إليه من تكريس جزء كبير من وقته وجهده لذكر الألفاظ المستخدمة لأي مكان كان خدمة العلم أولا وأخيرا.
إن الدولة الإسلامية كانت مترامية الأطراف ومعرفة الأسماء الصحيحة للأماكن المختلفة بها كان أمرا ضروريا . ولقد لاحظ ياقوت بنفسه أمر اختلاف الفاظ أسماء بعض الأمكنة ، ولذلك فإنه عزم على كتابة معجمه الجغرافي الذي لم يقتصر على شرح و تفسير أسماء أماكن – وظواهر جغرافية فقط بل حرص أيضا على ذكر نطقها الصحيح . وأطلق ياقوت على مصنفه هذا اسم « معجم البلدان » وعنوان الكتاب يوحي بفحواه .
يقول ياقوت في مقدمة الكتاب : ( هذا كتاب في أسماء البلدان والجبال والأودية و القيعان والقرى والمحال والأوطان والبحار والأنهار والغدران ) .
وبعد أن عرضنا بعض جوانب نشاط وعلم ياقوت يمكننا أن نقول بأن ذلك الجغرافي المسلم كان أديبا واسع الأفق والاطلاع ، عالى الهمة ، جم النشاط . ولا مجال هنا لذكر كل مؤلفاته التي لم يصل إلينا منها إلا القليل إلا أنه يكفي أن نشير إلى كتاب آخر من كتبه وهو « معجم الأدباء »، الذي تعرض فيه إلى بحث أمور كثيرة تتعلق بتاريخ وحضارة العالم الإسلامي . وكان معجم الأدباء هذا في مستوى معجم ياقوت الجغرافي من حيث الجودة و ترتيب المعلومات و نوعيتها .