إن التغيرات التي طرأت على عالمنا المعاصر، كالتحولات السياسية على الساحة الدولية والدعوة إلى نشر الديمقراطية، وتزايد الصراع العرقي والطائفي في دول العالم ، والمخاطر التي تواجهنا بشان المحافظة على البيئة، وانتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة كالإيدز مثلا ، هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى رفع شأن التعليم وتزايد أهميته . بخاصة إذا أدركنا أن التعليم يساهم بصورة مباشرة في تنمية المصادر البشرية الضرورية لمجابهة هذه الأزمات، واحداث التطوير المنشود على الصعيدين المجتمعي والعالمي.
إن تجدد الاهتمام بالتعليم ينبغي أن يقودنا إلى تعريف جديد لما يعنيه التعليم ذو النوعية الجيدة. فالنوعية في التعليم قد تم تعريفها غالبة على شكل مدخلات ، ومخرجات . والمدخلات تشمل :
المواد ، المقاعد، الألواح، الأبنية ، والكتب المدرسية ، مثلما تشمل المعلمين والطلبة . ونوعية هذه المدخلات عادة ما يتم قياسها كميا أو بتحديد خصائص معينة مثل : مؤهلات المعلمين وكفاياتهم المهنية ، وملاءمة الكتب المدرسية ومدی ارتباطها بالموضوعات الدراسية وبحاجات الطلبة ، والوضع الصحي والعقلي للطلاب . أما المخرجات فتشمل ، الوثائق المتعلقة بالتحصيل الدراسي كمعدلات الترفيع والاكمال ، وقياس التحصيل الفعلي لنوعية الحقائق والمهارات التي تم تعلمها ومقدارها .
إن التنظيم المناسب للدرس ، والاستخدام السليم للكتب المدرسية والواجبات البيتية ، وتشجيع التعلم الذي يركز على المتعلم ، وبذل الوقت المناسب لإنجاز المهمة التعليمية – التعلمية ، هذه الأمور جميعها عوامل تؤثر على نوعية التعليم في الأنظمة التربوية المختلفة ، بالإضافة إلى ما سبق فإن التعليم الجيد يجب أن يهتم أيضا بي:
1- تشجيع وتبني وجهة نظر أكثر تكاملية وشمولية فيما يتعلق بالتطوير بجعل الطلبة أكثر إدراكه لكيفية تأثير سلوكهم وتصرفاتهم فردية وجماعية على إعاقة أو دعم الجهود الرامية لمواجهة التغيرات أو الأزمات التي تم وصفها سابقا .
2- تشجيع أصحاب المعارف والمهارات والخبرات للمساهمة بشكل أكبر في جهود التطوير من خلال عملية تعاونية ديمقراطية .
إن النظام التعليمي الذي يهتم بنوعية التعليم يحتاج إلى تجاوز الأنظمة التقليدية في التركيز على تعليم مهارات التحليل الناقد، العمل الجماعي التعاوني ، التعليم الزمري ، تعليم التفكير ، تعلم كيفية التعلم ، التركيز على التنظيمات المجتمعية ، نقل وتبادل المعرفة المتصلة بالاتجاهات والقيم التي تدعم التعاون الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي ، والمساهمة بشكل أكبر في الأنشطة التطويرية . مثل هذا النظام ينبغي أن يصبح تعاونية بطبيعته في مجالات مثل : تحديد الحاجات ، البحث والتخطيط ، الادارة ، التقويم ، الفعاليات والأنشطة الأخرى ، والتي يمكن أن يشترك فيها أولياء الأمور وأعضاء المجتمعات المحلية والمعلمون بصورة فاعلة .
وتحسين نوعية التعليم يطرح تحديات عدة أمام المخططين التربويين وصانعي القرار التربوي والمديرين ، أهمها :
أولا : إعادة تنظيم واصلاح الأنظمة والعمليات التربوية استجابة لمحيط أكثر اتساعة ، والمشكلات أكثر الحاحة مثل: الفقر ، وعوامل التعرية البيئية ، والإيدز … وغيرها ، والتي تحتاج إلى أن يتم التعامل معها بصورة أكثر جدية ، وأن يتم وعيها وإدراكها من المخططين والمديرين في أثناء مسيرة أعمالهم اليومية . والأنظمة التربوية بحاجة لتناول هذه القضايا والمشكلات ومناقشتها بصورة أكثر عمقا وتفصيلا ، واستقبال الدراسات والتقارير المتعلقة بهذه المشكلات والتعامل معها بشكل أكثر فاعلية ، والاستجابة لنتائجها وآثارها استجابة مباشرة وقوية .
ثانيا : يحتاج المخططون والمديرون إلى الاهتمام شخصيا بقضايا ومسائل أكبر حجما ، وأعظم تأثيرا من مجرد الاهتمام السطحي بطبيعة المدخلات والمخرجات في الأنظمة التعليمية الرسمية . فهؤلاء التربويون بحاجة إلى تكوين فهم أفضل لمناح عدة ، أهمها : الارتباط أو الاتصال بين المدرسة وبيئتها المحيطة بأبعادها الاجتماعية والثقافية، وأنواع وأنماط التعلم الاجتماعي غير الرسمي المقدم للأطفال قبل التحاقهم بالمدرسة وخارج الصفوف الدراسية ، وأساليب وطرق تنمية بيئات تمثل دعما أكبر وثقافة أوسع في الأسرة والمجتمع المحيط بالمدرسة . ولهذا ، فإن التربويين بحاجة إلى ربط الأنشطة التربوية في المدرسة بصورة أوثق مع البرامج التربوية ( غير الحكومية )، ومع البرامج الأكثر إبداعا وامتيازا والتي تتوفر للأمهات والشباب والمتعلمين الكبار خارج المدرسة .
ثالثا : من أجل الوصول إلى التجمعات السكانية النائية والتي هي بأمس الحاجة لإدماجها في برامج التطوير وخطط التنمية ، يحتاج المخططون والقياديون إلى خلق أنظمة ، وابتكار عمليات تمتاز بكونها أكثر مرونة وغير رسمية في طبيعتها . كما أنها تعد أكثر تطورا في إعداد الجدول المدرسي ، وتنظيم الأعمال الصفية وجدولتها ، وسن الالتحاق بالمدرسة ، والمناهج الدراسية والكتب المدرسية وأساليب التعليم واستراتيجيات التعلم التي تختلف عن تلك الأساليب المرتبطة
بسن محددة ، أو الصفوف المرتبطة بدرجات معينة أو بسلم محدد .
رابعا : يحتاج المخططون والمديرون إلى ترجمة شعاراتهم النظرية حول أهمية المشاركة ودورها إلى حقيقة ملموسة على كافة مستويات النظام التعليمي . فهم بأمس الحاجة إلى تطوير وسائل وأساليب فاعلة الضمان انفتاح النظام التعليمي وكفاءة عمليات التقويم والمراجعة الخارجية والتدخلات المجتمعية ، وتوفير الدعم من قبل الآخرين كأولياء الأمور والتنظيمات الاجتماعية والمؤسسات الخاصة والمنظمات غير الرسمية . ويصدق هذا بشكل خاص على المستوى المدرسي عندما تكون هنالك حاجة لتطوير مزيد من الأساليب التعاونية في المجالات والفعاليات المختلفة ، مثل: الحصول على الموارد والمصادر المختلفة وادارتها ، ووضع السياسة المدرسية وتوجيهها ، وتدريب المعلمين ، وتطوير المناهج وتفعيل العملية التعليمية – التعلمية .
ولتنفيذ ذلك ؛ يحتاج المخططون والقياديون والمديرون إلى اعادة تعريف اعمالهم ووصف مهامهم بصورة تجعلهم قادرين على تسهيل عمليتي التعلم والتعليم ، وتحقيق التطوير التربوي المنشود ، عوضأ عن كونهم مجرد مشرفين ومراقبين للعملية التربوية . ويتضمن ذلك أن تصبح بيروقراطية التعليم والأنظمة التربوية التقليدية أكثر تكثفة ، وأن تغدو قادرة على ايجاد واستنباط أنماط مرنة تحقق المواءمة بين مخرجات التعليم بأنماطه ومستوياته المختلفة وبين متطلبات سوق العمل واحتياجات المؤسسات والتنظيمات المتنوعة . ومثل هذه الأنظمة سيكون لها حتما افضل فرصة ممكنة لتقديم التعليم ذي النوعية الجيدة لتلبية تحديات القرن الجديد .
المؤشرات النوعية للتعليم المستقبلي :
تسعى الأول جاهدة بمؤسساتها التربوية ومنظماتها الرسمية والخاصة لوضع تصور شامل للآفاق المستقبلية والمعالم الرئيسة للتعليم في القرن القادم ، وقد أبرزت بعض التقارير والوثائق التربوية الصادرة حديثا سمات جوهرية ومباديء أساسية تظهر الرؤيا المعاصرة لنوعية التعليم في القرن الحادي والعشرين ، والتي تستحق أن نقف عندها لاستشعار توجهاتها ومضامينها ، وهذه الابعاد هي :
أولا : التعليم من أجل تطوير البشرية :
ينبغي أن يعمل التعليم المستقبلي لدعم العلاقة بين الفرد وذاته ، وبينه وبين عائلته ومجتمعه والكون بأسره . وأن يهدف لتحقيق التطور الإنساني بكافة مناحية ، وتعزيز مفاهيم الصحة الانفعالية والقيم الديمقراطية وفهم الذات قبل الاهتمام باحراز التقدم الاقتصادي . وينبغي على التعليم أن يسعى لإعادة النظر بالعديد من قيمنا الانسانية التي ضعفت في خضم الحضارة المادية المعاصرة مثل : الصدق ، التعاون ، التواصل، التعاطف والتفاهم . ولخلق قوی بشرية سليمة وماهرة يمكن التعويل عليها ، ويجب أن ينظر التعليم للأجيال الواعدة من المتعلمين كبشر بالمقام الأول وكعمالة مستقبلية بالمقام الثاني ، وذلك من أجل الحصول على مجتمع سليم واقتصاد قوي .
ثانيا : مراعاة الفروق الفردية والإمكانات الخاصة لدى الطلبة :
يجب أن يعمل التعليم في القرن الحادي والعشرين على احترام الفروق الفردية والاختلافات الشخصية بين الطلبة ، والاعتراف بأن كل فرد لديه طاقات إبداعية ، وقدرات خاصة للتعلم ، وحاجات جسمية وعاطفية وفكرية وروحية واجتماعية يجب مراعاتها والعمل لتلبيتها ، وادراك أن المجموعات المختلفة من الطلبة بحاجة إلى التعلم بوسائل مختلفة واستراتيجيات وأنشطة متنوعة . ولكي يخلق التعليم المستقبلي مجتمعا متعلمة بحق ؛ يجب أن تنتقل العملية التربوية من التركيز على قياس الجوانب التحصيلية واللغوية للمتعلمين إلى تقييم متكامل لجوانب شخصية الطالب بكافة أبعادها . وأن تسعى لكي يستفيد الأفراد من فروقهم الفردية ، وأن يتعلموا تقدير مواطن امتيازهم ، ويتطوعوا لمساعدة غيرهم ، وبهذا فقط تتحقق تلبية الحاجات الفردية لدى كل المتعلمين .
ثالثا : التركيز على دور الخبرة والتجربة الانسانية كأساس للمعرفة :
ينبغي أن يركز التعليم المستقبلي على دور الخبرة الانسانية كأساس للمعرفة . وأن تعمل العملية التعليمية – التعلمية لتحقيق النمو الطبيعي السليم والمتكامل للفرد من خلال مروره بالخبرة وربطه بمفردات العالم الطبيعي من حوله ، وتطبيق المنهاج التجريبي الذي يعمل على دمج المتعلم بالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية في مجتمعه ، مما يحقق التفاعل الإيجابي والتواصل الفاعل بين الفرد والتأثيرات الخارجية ، إضافة إلى دعم وتعزيز معرفة المتعلم بذاته وبعالمه الداخلي من خلال إلمامه بالفنون والآداب المختلفة .
رابعا : النظرة التكاملية / الشمولية للتعليم :
إن تصور التعليم المستقبلي يجب أن ينبع من خلال منظور تكاملي ، كلي ، وشمولي ، وأن يتم تطوير الأنظمة والمؤسسات والسياسات التربوية لكي تنسجم مع هذا الغرض . وتنطلق النظرة التكاملية من فرضية أساسها أن العالم هو نظام كلي متكامل ، وأن جميع الأنظمة الفرعية داخلة مترابطة بصورة تكاملية ضمن هذا النظام الكلى ، وتسود ظاهرة الاعتماد المتبادل بين هذه المكونات الفرعية . وينبغي أن يسعى التعليم للإفادة من هذه النظرة التكاملية في إدراك ظواهر الحياة والبيئة الكونية المعقدة ، والعمل لتحقيق التطور الانساني المتكامل بكافة مناحيه : الفسيولوجية ، والاجتماعية ، والأخلاقية ، والجمالية ، والابداعية والروحية .
خامسا : الدور الجديد للمعلم في التعليم المستقبلي :
تدعو التوجهات الحديثة إلى فهم جديد لدور المعلم ، واعتبار مهنة التعليم مزيجا من الاحساس والتذوق الفني والممارسات المبنية على أسس ومرتكزات علمية ، وإعطاء المعلم الحرية والاستقلالية التي تمكنه من تصميم البيئات التعليمية التي تناسب الاحتياجات الخاصة المتنوعة للمتعلمين . وينبغي إيجاد برامج وأنماط جديدة لتدريب المعلمين تهتم بالمرتكزات التالية: دعم النمو والتوجيه الذاتي لدى المعلم ، وتنمية التفكير الابداعي ، واعتبار المتعلم محور العملية التعليمية – التعلمية ، والاهتمام بالتحديات التي تواجه العنصر البشري ، والنظرة التظمية للعملية التربوية ، والتركيز على المساءلة والتقويم التربوي .
سادسا : التعليم من أجل مشاركة ديمقراطية :
إن التحدي الذي يواجهنا في هذا المجال هو ، ایجاد نموذج ديمقراطي حقيقي للتعليم يمنح الحق لكل مواطن للمشاركة الفاعلة والحقيقية في الحياة المجتمعية والعالمية . إن بناء المجتمع الديمقراطي لا يعني السماح للمواطنين بالتصويت لقياداتهم فقط ، وإنما يتضمن منح الافراد صلاحية المشاركة بشكل ايجابي في شؤونهم المجتمعية فهم في مجتمع يتم فيه احترام الرأي والرأي الآخر ، ويتم فيه التركيز على الاهتمامات الانسانية الفعلية والمعاناة الحقيقية للبشر . ولتحقيق ذلك يجب أن يعمل التعليم لتنمية القدرة لدى المواطنين على التفكير الناقد والابداعي والمستقل ، وتمييز الحقائق من الشائعات .
سابعا : الارتباط بالقيم الروحية والتعليم :
إن اكثر الاجزاء حساسية في الجانب الشخصي من الانسان هو الروح ، ومثلما ينمو الكائن البشري في كافة جوانبه الانفعالية والجسمية والعقلية والاجتماعية فهو بحاجة إلى النمو السليم المتكامل في الجانب الروحي أيضأ ، فغياب البعد الروحي لدى الانسان عامل حاسم في اللجوء للسلوك الإنساني الهام ، وفي بروز مظاهر التفكك الأسري والاجتماعي . ويقع على عاتق التعليم أن يعمل لدعم الجانب الروحي والقيمي في حياة الكائن البشري مما يؤدي به إلى الشعور بالتعاطف مع الآخرين والرغبة في تخفيف معاناتهم .
خاتمة :
إن إحداث نقلة نوعية في التعليم ينبغي أن ينطلق من وجهة نظر تكاملية شمولية للتعليم تستند إلى مرتكزات رئيسة ، أهمها : أن التعليم علاقة إنسانية دينامية منفتحة ، وأن التعلم عملية تمتاز بالدافعية الذاتية ، وأنها عملية مستمرة مدى الحياة وتساهم في تعزيزها جميع المواقف الحياتية . وتؤكد النظرة التكاملية على أهمية الوعي الناقد للجوانب المتعدده في شخصية المتعلمين ، واحترام طاقاتهم وامكاناتهم المختلفة ، إضا للتركيز على التفكير الشمولي والاساليب الإبداعية ، والربط بين المله المجتمعي والعالمي في تصور التعليم المستقبلي .
ويمكننا أن نستفيد من التوجهات السابقة في تطوير نظامنا التعليمي، وذلك انسجاما مع كون المرحلة الثانية من خطة التطوير التربوي العشرية ستركز على تحسين نوعية التعليم من خلال متابعة العمليات التي تتم في النظام المدرسي للتعرف على ما يجري فعلا داخل إطار المدرسة من أنشطة تعليمية – تعلمية لاختبار مدى توافقها مع ما نريد من مدارسنا أن تقدم لأبنائنا من تعليم .
وينبغي علينا أن نتعرف على المناخ التربوي والأجواء الاجتماعية والاكاديمية والنفسية التي تسود مدارسنا ، وهل في مقدور هذه الأجواء أن تساعد مدير المدرسة ، والمعلم ، والطالب على التعليم والتعلم بفعالية ، وعلى الابداع والابتكار والمبادأة ؟ وهل تغيرت طرق التدريس وأساليبه من التركيز على التلقين المباشر والدور السلبي للمتعلم كمتلق للمعرفة إلى إعطائه مزيدا من فرص المشاركة من خلال تعليمه كيفية التعلم واستخدام الأسلوب العلمي في حل المشكلات وتدريبه على كيفية التفكير والمبادرة ؟.
إن الهدف النهائي الذي يجب أن تسعى إليه برامج التطوير هو الوصول الصلب العملية التعليمية – التعلمية ، وتطوير ما يتم داخل غرفة الصف من اساليب وممارسات تعليمية وأنماط واستراتيجيات تعلمية لكي نساهم في إعداد طلبتنا للولوج الآمن في القرن الحادي والعشرين .
منی مؤتمن
عماد الدين
مصدر الصورة
pixabay.com
من المهم ان ندرك ان التعلم قد اختلف عما كان علية في السابق . وقد اثرت جائحة كورونا على نوعية التعليم وعلى مستقبل التعليم في العالم
اشكركم على هذا الموقع