خلق الله الإنسان من سلاله من طين.. ذلك الوسط الهش الضعيف الذي يسهل تصدعه وتفتته .. وجعل منه بناء متماسكاً متكاملاً.
وقد جٌبل ذلك الإنسان بطبيعته على صفات فطريه أخبرنا بها جل وعلا فى كتابه الكريم تجعل من هذا البناء المحكم بناءً هشاً ضعيفاً.. سهل الانكسار والانهيار ما لم يأخذ بأسباب القوة التي أرشده إليها ربه .
ولهذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب السماوية لتضع لذلك الإنسان منهاجاً وأسلوب حياه.. يكون عوناً له للقيام بمهامه ومسئولياته فى هذا الكون بقوه وثبات وهدوء وسكينه.. فأمره جل وعلا بأوامر إن أخذ بها قوى ونجا ونهاه عن أشياء إن لم يتجنبها .. ضعف وهلك -والذى خلق الخلق هو وحده الذى يعلم ما يصلح وما يفسد خلقه
ومن هذه الصفات الإنسانية.. أن الإنسان بطبيعته يؤوس وقنوط ( لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ( فصلت 49. خاصه إذا مسه الشر أو ما يحسبه كذلك من مرض أو فشل أو فقدان لعزيز فيصيبه من الهم والغم ما يفسد عليه حياته .
– وقد يصاب بالأرق وكثرة الفكر .. ويفقد شهيته للطعام بل وللحياة ذاتها ما لم يتدارك الأمر ويرجع الى ربه سائلا اياه العون والثبات .. وكلنا قد تمر بنا هذا الازمات لكن باللجوء الى الله .. وبشىء من الصبر يتم تجاوزه .
أما إذا طال الأمر وتمكن من الانسان ذلك القنوط .. أصبح منزوياً لا يرغب فى مجالسه ومخاطبة أحد .. واستحكمت معه هذا الاعراض التى يعاني منها … وادت الى الإصابة بما يسمى فى عصرنا بالاكتئاب ((depression)) أو مرض العصر.. ولأستدعى الأمر استشارة الطبيب المتخصص .
ومن هذه الصفات الإنسانيه أنه يميل بطبعه إلى الجزع والهلع والخوف (( إن الإنسان خلق هلوعا ً،إذا مسه الشر جزوعاً)) المعارج 19/20.فنجده إذا أصابه شىء بسيط (( شكه بابره أو ألم بمكان بجسده مثلا )) جزعاً .. قلقاً خائفاً أن يصاب بأعتى الأمراض أو متوهماً بوجودها .. فيتسرب القلق الى حياته .. مع انه لو فوض الأمر لله .. مع أخذه بأسباب الوقايه والعلاج .. ومتمثلا قوله سبحانه (( قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا )) لكان أفضل .. ولما أصابه كل هذا التوتر والقلق والذى إذا اشتد به .. أصابته حاله من القلق الدائم ((Anxiety)) واستدعى الأمر مشوره الاختصاصى
ومن هذه الصفات الإنسانيه التى أخبرنا بها ربنا جل وعلا .. كونه عجولاً ((وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا)) الإسراء 11.. فهو قليل الصبر يستعجل دائماً النتائج .. فقد يدعو ربه بشىء يظن فيه خيراً ولا يعلم الخير الإ الله .. ويستعجل إجابته سبحانه .. فقد يدعو بالشفاء .. أو يرغب فى السفر للخارج .. فإن تأخرت الإجابة.. لعدم أخذه الأسباب كامله .. أسباب الشفاء .. أو الاستعداد للسفر .. فنجده حزيناً مهموماً .. بل قد يترك الدعاء ويترك الدواء ظناً منه أنه لا شفاء .. وقد يصيبه الغم لعدم السفر ظناً منه أن السعادة فى جلب المال .. متناسباً كل ما أفاء الله عليه من نعم .. بل قد يكون فى سفره ضرراً كبيراً له ولبيته .. ولكنه مع هذه العجله قد يدخل دائره الأمراض النفسيه .
ومن هذه الصفات الإنسانية صفه الحرص والشح .. فنجده يميل الى البخل والتقتير (( قل لو انتم تملكون خزائن رحمه ربى إذا لأمسكتم خشيه الأنفاق ، وكان الإنسان قتوراً )) الاسراء 100.. فهو يسعى لملك الدنيا بأكملها ..وقد يصيبه هذا بالطمع والجشع فيعتدى على حقوق الآخرين .. ويبقى فقره ماثلا ً أمام عينه مما يدفعه للمزيد من النهم والثراء .. وفى غمار هذه الرحله يصيبه من القلق على أمواله .. والخوف من تقلبات زمانه .. ما يدخله فى دائره البحث عن متخصص نفسى .
ومن هذه الصفات الإنسانية ميله الى نسيان وجحود ما أنعم الله عليه (( وأتاكم من كل ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمه الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)) إبراهيم: 34 .. وأيضا ميله الى الظلم والطغيان خاصه إذا ما أغناه ربه ((كلا إن الإنسان ليطغى أن رأه أستغنى )) العلق 6/7 .. فهو قد ينسى كل ما انعم الله عليه من صحه وعافيه واولاد .. ولا يشكر ربه.. وأيضا مع شده ظلمه لمن حوله .. قد يصاب بحاله من القلق والتوتر المستمر.. مما يدفعه الى مخالفه ربه فيقدم على تعاطى المسكرات والمخدرات .. فيكون قد سلك طريق الهلاك .. ويدخل فى دائره الإدمان.. ذلك لأنه لم يقنع ويرضى بما اتاه ربه .. ويصبح نزيلاً دائماً بالمصحات النفسية.. لأجل ذلك نهانا ربنا عن الظلم .. وعن كل ما يفسد علينا حياتنا .. وأمرنا بكل ما يدخل البهجه والطمأنينه الى قلوبنا وحياتنا .
فالصلاه عماد الدين .. تبث السكون والهدوء فى النفوس المؤمنه (خاصه مع السجود وبث الشكوى والدعاء الى الله وسكب العبرات على ما فات ) –ففى السجود يزداد ضغط الدم الوارد إلى المخ – خاصة مع إطالة السجود والدعاء .. فيزداد امداده بالاكسجين O2 والجلوكوز وكل محتويات الدم المناعية .. فيتحسن أداؤه وتنضبط افرازاته ووسائطه ونواقله .. ويتم اصلاح أى خلل كيميائى متواجد به –ويشير بعض المفسرين أن الآية التالية تحوى اسلوب العلاج لأى كآبة أو ضيق (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُون. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِين .وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين) الحجر : آية 97-99 – ومما يذهب ببعض القلق والخوف الداخلى الذى قد يعترى أى انسان ضم جناحيه وذراعيه إلى جسمه وصدره كما فى الآية (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) القصص: آية 32 – ولعل ذلك الوضع يدعم خارجياً القلب المضطرب خوفاً وقلقاً بفعل آليات الخوف الهرمونية .
والزكاه تذهب عنا ذلك الشح الإنسانى .. والصدقات تطفىء غضب الرب .. بل تساعد فى رفع المرض والبلاء (( داووا مرضاكم بالصدقه )).
والصيام يساعد كثيرا فى علاج الامراض النفسيه .. فهذا هرمون الإحساس بالجوع يذهب بالتوتر والقلق الداخلى.. ويتم فى الغرب علاج المرضى بالتجويع((FASTING))- فلو تمسكنا بقيمنا الدينيه حقيقه .. لا ظاهرياً .. وأمسكنا الفضل من القول .. وأعطينا الفضل من المال.. ورضينا بما قسم الله لنا .. مع الأخذ بأسباب الجد والاجتهاد لتطوير أحوالنا .. لما أصابتنا هذه الأمراض العصريه .. وها هم أجدادنا .. كانت حياتهم بسيطه .. يغمرها الحب والدفء والقناعه والرضا فلا نجد بينهم مهموم ولا مكتئب ولا قلق ولا أرق .. رغم قله دخلهم مقارنه بأحوالنا . أما نحن فقد ظهرت فينا هذه الامراض و استوطنت بعدما فتحت علينا الدنيا .. وتنافسناها .. واختلطنا بالغرب – واصابتنا منهم العدوى بامراض الشره والجشع والطمع وعدم الرضا والقناعه بفضل الله .. وحب الدنيا والسعى وراء شهواتها وملذاتها .. ونسينا فى غمره ذلك تعاليم ديننا ووصيه ربنا لنا .. وسنه نبينا .. وصارت صلاتنا عاده لا عباده .. واعمالنا نبغى من وراءها الدنيا .. ونسينا الاخره .. فأصابنا الهم والغم والقلق والارق مثلهم – ومن نعمته علينا ان معظم هذه الامراض لم تنشأ اصلا ببلادنا الا بعد سلوكنا مسلكهم .. وبعد ان صارت حياتهم قدوتنا .. وحتى الامراض العضويه الحديثة كمرض الايدز وانفلونزا الطيور وانفلونزا الخنزير لم تنشأ اصلا ببلادنا الا بعد اختلاطنا بهم .
– والعجيب اننا نتمنى العوده الى زمان اجدادنا ((الزمن الجميل )) – ولكن الزمن هو الزمن .. والزمن الجميل جميل بأهله .. والزمن الآخر بأهله أيضاً .
وأخيراً .. أتوجه بسؤالى هذا إلى أساتذتى ومتخصصى العلاج النفسي أيهما أفضل قولنا الأمراض النفسيه مع علمنا بأن النفس لا يعلمها إلا من خلقها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) الشمس 7 .. أم الأمراض الإنسانية .
وسؤالي الثاني : هل لهذه الملوثات التى غزت كل حياتنا من مأكل ومشرب وحتى نسمه الهواء .. دور فى ازدياد معدلات هذه الأمراض .. الإنسانية .. آمل أن أجد إجابة؟ .
الدكتور فيصل سرور المنشاوى
باحث في الطب النبوي
E-mail: Dr.alfaisel@yahoo.com