قصة إدوارد جنر واكتشاف لقاح الجدري

لولا تضحية العلماء بالروح والولد والجهد والمال لما تقدم موكب العلم بهذه الخطوات الهائلة.

ولا تذكر تضحية العلماء بأبنائهم إلا ويذكر معها «إدوارد جنر» الذي ضحى بولده من أجل العلم.. رائد من رواد العلم الحديث، وخادم من خدام البشرية العاملين.

إدوارد جنر ذو فضل على الأبناء، فقد هداهم إلى طريق الوقاية من مرض لا يحمل في كفيه غير الموت أو التشويه. ذو فضل على الآباء، فقد كفاهم حزن الآباء على الأبناء، عندما يحل المرض، ويشتد الخطب.

إدوارد جنر … كان كالشمعة تحترق لتضيء ما حولها. كان في مقدوري أن يؤجل النضال لخدمة البشرية إلى حين، ولكن شعلة العبقرية المتقدة في نفسه، ونداء الخير من أعماقه، أبا عليه أن يتمتع مباهج الشباب، ويؤجل عبء العمل.

الطبيب إدوارد جنر الذي أنقذ البشرية

إدوارد جنر طبيب انجليزي ولد في 17 مايو لعام 1749 وتوفي في 26 يناير لعام 1823 ، وهو أول من اكتشف لقاح لمرض الجدري ، وقد اطلق على هذا الطبيب لقب أبو علم المناعة ، نظرا لكون لقاحه قد انقذ حياة كثير من الناس اكثر من أي عمل او اكتشاف حققه الانسان سابقا.

وقد كان مرض الجدري ، من أخطر الأمراض التي تفتك بالبشرية وقد قتل الجدري نحو 10% من سكان العالم ، فإن نجا المريض من الموت ، فلن ينجو من التشويه وسوء المنظر الذي يدوم مدى الحياة ، ولم تكن ضحايا هذا المرض قليلة ، بل كانت تعد بعشرات الألوف كل عام .

وفي يوم من الأيام ، دخلت فتاة ريفية حانوتا وكان مرض الجدري منتشرا وقتئذ انتشارا كبيرا ، فبعد أن اشترت ما أرادت من هذا الحانوت ، التفت إليها صاحبه وقال : – كيف حال المرض عندكم ؟!

فأجابته : – المرض منتشر بحال فاقت كل حال ، ولكن حلابات اللبن لا خوف عليهن من هذا المرض .

دار الحديث بين الفتاة وبين هذا الرجل ، دون أن يثير ذلك اهتمام أحد الحاضرين ، غير شاب في مقتبل العمر هو : إدوارد جنر ، كان وقتئذ طالبا يتعلم الطب ، ولما ينته من تعليمه بعد .

فتح هذا الحوار أمامه آفاقا للتأمل والتفكير ، وراح يردد عبارة الفتاة مرة بعد مرة قائلا :

الحلابات لا يتعرضن لمرض الجدري العادي ، لأنهن يتعرضن لجدري الأبقار .

وعاد يتمتم ويقول :

– ولم لا يكون هناك ارتباط بينهما ؟!

ظلت هذه الأفكار والخواطر عالقة بذهنه حتى التقى بالدكتور “جون هنتر” ، فراح إدوارد جنر يشرح فكرته الجديدة وإمكان الإفادة بجدرى الأبقار في الوقاية من الجدرى العادي .

فقال الدكتور هنتر :

– جرب ، ففي التجربة خير برهان .

لكن من يقبل أن يجرب فيه ما يريد ؟! لا أحد بالطبع … عندئذ لم يجد ” إدوارد جنر ” ، مفرا من أن يجرب في ابنه الوحيد ، بالرغم ما عرف عنه من قوة العاطفة ، ورقة القلب ، وحنان الأبوة .

وقف بجوار ابنه مشتت الفكر حائرا بين عاطفة تأبى عليه أن يضحى بولده ، وبين واجب يملي عليه أن يضحي بكل شيء من أجل البشرية والبشر أجمعين .

و مرت دقائق تخيل فيها ” إدوارد جنر ” ، عشرات الألوف وهي تموت وتتشوه كل عام ، فجمع أمره وآثر أن يضحي بأبوته وعاطفته رغبة منه في إنقاذ هذه الألوف .

وأخيرا حمل ولده بين يديه ، ثم وضعه فوق ركبتيه ، وأحدث بذراعه خدشا ، وضع عليه بعض القيح الذي أتی به من ضرع الأبقار المريضة بالجدري ، فظهر على ولده أعراض جدري الأبقار ، وشفي منه بعد قليل ، ولكن الأب لم يحجم عن تجربة أخطر من ذلك وأجل شأنا ، فنقل إلى ولده بعد ذلك مادة الجدري البشرى من طفل مريض ، ليتحقق من فعل المادة التي كشفها في الوقاية من خطر هذا الداء ، وكان من حظ ولده ، ومن حظ البشرية ، أن نجحت هذه التجربة .

ورحل “إدوارد جنر” ، إلى المناطق الجبلية التي كان يكثر فيها المرض وقتئذ ، وطعم هناك ثلاثة وعشرين طفلا بطريقته الجديدة ، فلم يصابوا بالمرض ، فعاد إلى بلده مطمئن الخاطر ، قریر العين ، وبدأ يعلن طريقته ويدعو لها ، ولكنه لقي في ذلك إرهاقا ، وضحك منه الكثيرون ، ونظروا إلى فكرته نظرة إهمال وتحقیر ، حتى إن مدير الجمعية الطبية في لندن وقتئذ لم يشجعه ، ولم يوافق على تعميم طريقته وتطبيقها ، بحجة أن هذه الطريقة غير مضمونة العاقبة .

أمام ذلك كله لم يجد ” إدوارد جنر ” مفرة من تأليف كتاب يوضح طريقته وفكرته ، ويدافع عن أهميتها وفائدتها ، ومع ذلك لم يجد من يدافع عنه غير نفر قليل ، حتى جاء الدكتور ” فردريك بالهورن ” الطبيب الألماني ، وترجم كتابه ، وآمن بفكرته ، وأنشأ عدة عيادات للتطعيم بالمصل الجديد ، وكان في مقدمة من آمنوا بنتائجه ” لیدی مورتون ” ، وأولاد الملك ” غليوم الرابع ” . وعادت الجمعية الطبية البريطانية إلى بحث الموضوع مرة أخرى ، فوجدت فيه نتائج طيبة ، فمنحته الميدالية الذهبية اعترافا بفضله .

هكذا وجه ” إدوارد جنر ” البحث العلمي ، إلى طريق جدید منتج ، فكان موضع محاكاۃ الباحثين من بعده ، و كان ذلك فاتحة عهد علمی جدید ، عرفت فيه أمصال ولقاحات أخرى واقية من الكوليرا والطاعون والتيفود .

وهذه الأمصال واللقاحات ، إذا طعم بها الفرد ، أوجدت المواد الواقية التي تعد دعامة من دعائم المناعة ، وأعجوبة من أعاجيب العلم .

ولكي نعرف فضل هذه اللقاحات الواقية ما علينا إلا أن تقارن بين عدد مرضى التيفود والكوليرا في الحربين العالميتين الأولى والثانية ، ففي الحرب العالمية الثانية انخفض عدد المرضى بهذه الأمراض انخفاضا كبيرة ، لا لشيء إلا لتطعم الجنود في الحرب العالمية الثانية ، وعدم تطعيمهم في الحرب العالمية الأولى ، بلقاح التيفود والكوليرا .


هذه حياة ” إدوارد جنر ” وأفضاله ومآثره . هذه حياة رجل خدم البشرية أجل خدمة ، ووقاها من مرض شديد الخطورة ، عظيم الخطر .

هذه حياة رجل غامر بأبوته وعاطفته وحنانه ، وقدم ولده فداء لأمثاله من الصغار . هذه حياة رجل ضحى بشبابه ، وربيع حياته ، لخدمة البشرية .

عن فريق التحرير

يشرف على موقع آفاق علمية وتربوية فريق من الكتاب والإعلاميين والمثقفين

شاهد أيضاً

سفينة فليب العجيبة.. أعجوبة هندسية تدور بزاوية 90 درجة وتقف في الماء

سفينة فليب هي منصة الأداة العائمة (FLIP) وهي سفينة أبحاث فريدة تتميز بقدرتها الاستثنائية على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *