تندرج هذه المعالجة في إطار محاولات استشراف المستقبل، وتحديد ملامحه وسماته وخصائصه ومتطلباته، والتحديات التي تفرض نفسها الساعة وسبل اللحاق بركب الحضارة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
كما أن هذه المعالجة تخرج عن المألوف وتصف الدماغ بجملة من التساؤلات غير التقليدية المتصلة بسيناريوهات المستقبل، الذي (أي المستقبل ) تجري صياغته وتشكيله في مطبخ الحاضر.
كثيرة هي الأسئلة التي تطرح نفسها بصدد المستقبل، إلا أنها في مجملها تلتقي عند نقطة واحدة، وهي: الإنسان، ومن أبرز الأسئلة في هذا السياق:
* كيف سيكون حال المنظومات الإنتاجية – على اختلاف أنواعها ومستويات إنتاجيتها – وهل في مقدورنا إعداد الإنسان وتهيئته لتطوير هذه المنظومات وضمان استمرارية أدائها بصورة تكفل تلبية احتياجات إنسان المستقبل الطبية والدوائية والوقائية والغذائية والبيئية والمائية والطاقية والاجتماعية والنفسية والتعليمية والتربوية.. الخ؟ بمعنى هل مستوى الأداء الحالي لمنظومات الإنتاج يتناسب مع تطورات الحاضر ومتطلبات المستقبل بصورة تقود إلى مستوى أداء رفيع يساعد في تلبية احتياجات إنسان المستقبل في ميادين الحياة كافة؟
*ما هي القوة الدافعة المحركة لمنظومات الإنتاج بخاصة ونشاط الإنسان في ميادين الحياة كافة بعامة؟
الإجابة عن هذا السؤال هي: الإنسان. ولكن، أي إنسان؟
إنه إنسان المستقبل الذي حظي بتنشئة اجتماعية تكفل النماء والتطور، وهو يمتلك المعارف والخبرات والمهارات التي تشكل في مجموعها – إلى جوانب عناصر أخرى – مؤهلات ومتطلبات العضوية في مجتمع المستقبل.
*هل في مقدورك المقارنة والمباينة Comparing Contrasting بين احتياجات إنسان الحاضر وبين احتياجات إنسان المستقبل؟
ستكون الاختلافات بينهما كمية ونوعية.
اذن، هل في مقدورنا التعامل مع هذا الاختلاف؟
* ما الفوائد التي يمكن تحقيقها من دراسة تجاربنا ودراسة تجارب الآخرين؟
وتساعد الإجابة على هذا السؤال في تحديد شروط ومتطلبات النجاح، وتقصي أسباب وعوامل الإخفاق والفشل، والحفاظ على استمرارية تجاربنا واتصالها وتجديدها بصورة تكفل صلاحيتها للمستقبل.
* أين يقع التراث من عملية تخطيط المستقبل وبنائه؟
*هل نقبل الذوبان وفقدان هويتنا الحضارية والعيش على الهامش والانصهار في بوتقة العولمة من دون الاسهام في صناعة المستقبل؟
* ما الذي يبرر او يسوغ لنا التعامل مع «المستقبليات»؟
* عندما كنت انظر إلى الديناصور في متحف الحيوان كنت اقول:
– ان البقاء للأصلح، واستمرارية الحياة تتطلب استمرارية الأداء.
– ومن لا يتطور ينقرض!!
*ما مستوى التعامل المطلوب مع «المستقبليات»؟ باختصار: اي منهجية عمل؟
وأشير إلى أن هذا السؤال على درجة عالية من الأهمية، والإجابة عنه تجسد المنهجية التي أؤمن بها، وهي نهج حياة لدى العلماء، وتتعامل هذه المنهجية مع القضايا والمشكلات والمسائل على مستويين من التعامل (او المعالجة)، وهذا يبدو واضحا وجليا في المنهجية العلمية التي يوظفها العلماء في ميدان الفيزياء، حيث تتيح هذه المنهجية دراسة المسائل الفيزيائية على المستوى المجهري Microscopic من ناحية، ودراسة المسائل الفيزيائية على المستوى الجاهری Macroscopic.
ونضرب على ذلك مثلا: الفيزياء تدرس الذرة ومكوناتها وخصائصها كما تدرس الكون وما يتصل به من قضايا ومسائل فمعالجة الذرة تتم على المستوى المجهري بينما تتم معالجة الكون على المستوى الجاهري.
* ولكن، ما منطويات (Implications) الحديث عن مستويات المعالجة التي يبرزها المثال المذكور اعلاه؟
تتوجه هذه المعالجة بالدعوة إلى كل إنسان يحرص على مستقبل المجتمع والأمة بخاصة والبشرية بعامة أن يوظف هذه المنهجية وان يفيد منها في ايجاد الحلول المبدعة لمشكلات الحاضر وتوفير احتياجات المستقبل وتأمين شروط المستقبل ومتطلبات العيش فيه.
* إذن، دعونا ننظر الى الأمور – على المستوى المجهري – نظرة معمقة تساعدنا في معرفة ماهيتها، فالفهم والاستيعاب أساس الإبداع وجوهره، والميل إلى التفصيلات ان هي الا سمة المبدع وخاصية من خصائص منهجه في العمل.
* ودعونا ننظر الى الأمور – على المستوى الجاهري – نظرة شمولية تساعدنا في فهم الابعاد المختلفة للمسألة أو القضية موضوع المعالجة، والتطورات التي قد تطرأ عليها، والسيناريوهات التي تجسد واقعها ومستقبلها، والبدائل المتاحة، وشروط ومحددات كل بديل، وهذه سمة اخرى من سمات الحل المبدع للمشكلات التي تندرج في اطار المستقبليات.
«حينذاك فقط سنكون في مستوى تحديات المستقبل».
وتجسد التساؤلات المطروحة في هذه المعالجة جوهر المسوغات (او المبررات التي تسوغ او تبرر الخوض في موضوع على درجة عالية جدا من الأهمية وهو «مدرسة المستقبل».
وقد وجدت ان المنهجية التي انبنت عليها هذه المعالجة أتت أكلها، ومكنت الباحث من التوصل الى خلاصات علمية وتربوية نافعة، وترجمت نتاجاتها في صورة مشروع كامل متكامل نأمل أن يرى النور قريبا، وأرجو أن يكتب لها النجاح بين ظهرانينا كما كتب لها في أماكن أخرى من هذا العالم، ولا ينطوي هذا الكلام، بأي حال من الأحوال، اننا تبعنا أثر العالم المتقدم وحاولنا تقليده، وإنما كانت لنا إسهامات أصيلة استطعنا تحقيقها بصورة مستقلة – ولم يسبقنا اليها احد – بدءا بالمفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة، وانتهاء بالتصور الاستراتيجي واجراءات التنفيذ على أرض الواقع.
إذن، فهذه المعالجة لموضوع «مدرسة المستقبل» لها مقدمات وإرهاصات، وتنبني على مسوغات ومبررات على درجة عالية من الأهمية، وتوظف منهجية فاعلة ونافعة تأخذ في الحسبان حجم التحديات وطبيعتها، حيث تسعى هذه المدرسة إلى تحقيق نتاجات كاملة متكاملة أصيلة تأخذ في الحسبان خصوصية حضارتنا وجوهر رسالتنا ودورنا الحضاري على المستوى العالمي، بحيث لا يقل مستوى انجازاتنا في هذا الميدان الحيوي والمهم عن انجازات الدول المتقدمة، وبذلك، نكون قد نجحنا في إرساء أسس ودعائم هذا التوجه التربوي المستقبلي الحديث.
في ضوء ما تقدم ارى ان التربية والتعليم على الصعيد العربي والدولي بحاجة الى إعادة بناء بصورة تسمح بولادة «مدرسة المستقبل» بوصفها مصنع أجيال المستقبل، من دون أن ينطوي ذلك على تكاليف ونفقات إضافية ويتأتي لنا ذلك بجملة إجراءات، ومنها: زيادة فاعلية الإنفاق، والتفاعل الأمثل بين عناصر العملية التعليمية التعلمية، والارتقاء بمستوى تفكير الإنسان واداءاته، وتعظيم نتاجات المنظومة التربوية.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: من أين نبدأ؟
للإجابة عن هذا السؤال المهم أتوجه إليكم بالدعوة الى إشغال الدماغ للتفكير في اربعة میادین رئیسة، وهي:
المفهومات والمصطلحات التي شهدنا ولادتها حتى الساعة.
فلسفة التربية والتعليم واهدافها وغاياتها.
مدخلات العملية التعليمية التعلمية.
البحث والتطوير.
أولا: المفهومات والمصطلحات التي شهدنا ولادتها حتى الساعة:
ومنها: المواد التعليمية الالكترونية والمحوسبة، الكتاب الالكتروني، الصف التخيلی، المدرسة التخيلية، الجامعة التخيلية، التعلم المفتوح، التعلم عن بعد، مع ملاحظة أن انتشارها في برامج وخدمات وأنشطة مؤسسات التعليم يؤكد التوجه العالمي نحو تجديد منظومات التربية من ناحية أولى، وتوفير بدائل لا تقليدية من ناحية ثانية، وخلق حالة من الانسجام مع المستقبل من ناحية ثالثة، وكشف قصور المنظومات التقليدية والتأكيد على أنه ليس في مقدورناشد الرحال نحو المستقبل بصحبة هكذا منظومات لا تستطيع الصمود في وجه تحديات المستقبل، اذن، فمدرسة المستقبل توفر البديل.
ثانيا: فلسفة التربية والتعليم وأهدافها وغاياتها:
وأشير في هذا السياق إلى ضرورة مراجعة فلسفات التربية والتعليم والأهداف والغايات التي تسعى إلى تحقيقها، والتحقق من قدرتها على الصمود وتلبية احتياجات المستقبل، والإفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا الميدان، وقد استطعنا الانجاز في هذا الميدان على الصعيد المحلي، وحددنا ملامح فلسفة المستقبل وجعلناها الإطار الذي يؤطر مدرسة المستقبل، وعلى أساسها انبنت الاهداف والغايات.
ثالثا: مدخلات العملية التعليمية التعلمية:
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل حصلت المدخلات على عناية خاصة تكفل تفاعلها بصورة تحقق الأهداف والغايات، وتساعد في تعظيم نتاجات العملية التعليمية التعلمية، وتنسجم مع متطلبات العصر الذي يشهد حالة من التفجر العلمي والمعرفي، وتكفل تزويد الجيل اللاحق المعارف والخبرات والمهارات المطلوبة.
بمعنى:
– عناصر منهاج المستقبل وخصائصه وسماته، وصياغته بلغة المستقبل.
– طبيعة المواد التعليمية وخصائصها وسماتها (وبرأيي أنها ستشكل نقلة كمية ونوعية، وستتجه نحو تعليم مهارات التفكير بدلا من تعليم المحتوى).
– طالب / طالبة المستقبل، حيث يكون طلبة المستقبل أكثر دافعية نحو التعلم ولديهم اتجاهات ايجابية، أضف الى ذلك (وهذا هو الأهم) زيادة درجة استقلالية الطالب / الطالبة الى جانب زيادة مسؤولية المتعلم والمتعلمة عن تعلمه / تعلمها. وفي المحصلة يكون المردود أعلى والحصيلة النهائية أثمن.
– معلم / معلمة المستقبل، ليس هناك بيئة تربوية مناسبة للمعلم / المعلمة التقليدي / التقليدية. وجميع المؤشرات تدلل على أن معلم المستقبل ينبغي ان يمتلك قاعدة واسعة من الخبرات والمعارف والمهارات، وكفايات شاملة تمكنه من القيام بالدور المأمول بوصفه موجها للطلبة وعامل تيسير Facilitator وبذلك يتحقق الانسجام بين طالب المستقبل ومعلم المستقبل.
*بيئة التعلم المستقبلية: هل حان وقت ( مدارس بلا أسوار ) عند الحديث عن بيئة التعلم المستقبلية يجب أن نأخذ في الحسبان الجوانب والابعاد التالية:
– ما هو شكل مدارس المستقبل، وهل ستكون من دون اسوار؟ نعم.
– تجهیزات عمرانية ذات مواصفات خاصة.
– تجهیزات تقانية ووسائط مساندة (سمعية، بصرية، محوسبة).
– الخدمات المساندة المتوافرة.
– علاقة بيئة التعلم المستقبلية مع البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية نبحث هنا عن تكامل الأدوار والتناسق وانسجام وتناغم الأداء، كي تقوم بيئة التعلم بالدور الاجتماعي المتمثل بالتنشئة الاجتماعية).
أضف الى ذلك أبعاد أخرى متصلة بهذه البيئة المستقبلية، ومنها: دور أولياء الأمور في العملية التعليمية التعلمية، دور قطاعات الإنتاج المختلفة واحتياجاتها الحالية والمستقبلية مسؤولية مؤسسات المجتمع كافة نحو منظومة التربية والتعليم ودورها في توفير الدعم المادي والمعنوي اولا، والمشاركة في صياغة الأهداف والغايات ثانيا، وتوجيه مخرجات التربية والتعليم من الناحية الثالثة، وهذه الأبعاد على درجة عالية من الأهمية وقد برزت أهميتها ودورها في تطوير منظومة التربية ودعمها وزيادة فاعليتها وتعظيم نتاجاتها، وأصبحت تجسد طموحات مجتمعاتها واسباب نمائها وتطورها.
رابعا: البحث والتطوير
ينبغي علينا ان نرفد منظوماتنا التربوية بالبحوث والدراسات المعمقة والرصينة التي تثري تجاربنا وتوفر لها الأدب التربوي الذي تستند اليه، كما أن نتاجات البحث والتطوير تساعد في معالجة القضايا والمشكلات التي قد تعترض مسيرتنا التربوية، ولا نغفل في هذا السياق، أيضا، اهمية البحث والتطوير في عملية اتخاذ القرار.
إذن، فمدرسة المستقبل بحاجة إلى روافد البحث والتطوير التي تغذيها من ناحية، وتوفير البيئة البحثية التدريبية المناسبة للطلبة.
والأدب التربوي – نتاج البحث والتطوير – يساعد منظومة التربية والتعليم بعامة ومدرسة المستقبل بخاصة، كما أن الأدب التربوي يساعد في :
– تحديد ملامح الحاضر.
– رسم توجهات المستقبل وتحديد مسوغاتها .
– تحديد المستوى الذي وصلت اليه تجاربنا.
– تقديم ما تم انجازه من أنشطة وبرامج ومشروعات.
– تخطيط أنشطة وبرامج ومشروعات جديدة وتوزيعها على مراحل الإنتاج.
– مواكبة التطورات الحديثة التي تطرأ على هذا الميدان، ورصد التوجهات العالمية، والإفادة من التجارب المتقدمة.
وخلاصة القول في اطار هذه النقطة: «مدرسة المستقبل متجددة ابدا ومتطورة باستمرار»، وينبغي المحافظة على هذه السمة وإدامتها كي تكون جديرة بهذه التسمية.
ولكن، ما المطلوب من مدرسة المستقبل بمعنی «النتاجات المتوقعة»؟
– تعليم مهارات وليس محتوی.
– اعتماد المناهج والمواد التعليمية المتطورة.
– زيادة مسؤولية المتعلم عن تعلمه، وزيادة ثقة المتعلم بنفسه.
– توظيف التقانات الحديثة بفاعلية.
– تطوير أساليب تقویم عناصر ومدخلات العملية التعليمية التعلمية
– تطوير أساليب تقويم نتاجات ومخرجات العملية التعليمية التعلمية.
– الكفايات الواجب توافرها في أعضاء الهيئتين الإدارية والتعليمية.
– برامج ومشروعات تطوير الأداء.
د. تيسير صبحي*
مصدر الصورة
pixabay.com