لطالما أثار مصطلح الفلسفة جدلاً كبيراً بين الفلاسفة والعلماء، حيث تختلف تعريفات هذا المصطلح تبعاً لتوجهاتهم الفكرية.
وفي هذا المقال الذي يأتي استكمالا لمقالنا السابق ” مفهوم الفلسفة ومعانيها” ، سنستعرض بعض تعريفات الفلاسفة لمفهوم الفلسفة، مسلطين الضوء على كيفية تطور هذه التعريفات عبر العصور.
سقراط: الفلسفة كبحث في الإنسان
يعتبر سقراط، أب الفلسفة اليونانية، من أبرز الشخصيات التي وضعت أسس الفلسفة.
رفض سقراط اعتبار الفلسفة مجرد بحث في طبيعة الكون وعناصره، بل رأى أنها دراسة معمقة للإنسان ومشكلاته وقضاياه الحياتية، إضافة إلى الأخلاق والسياسة.
من هنا، عرف الفلسفة بأنها محاولة لتبيان معاني الأشياء وحقائق الأمور بوضوح، داعياً الإنسان إلى معرفة نفسه. ومن أشهر أقواله في هذا الصدد: “اعرف نفسك”.
من خلال تعريف سقراط للفلسفة، نستطيع القول أن فلسفته تدور حول الإنسان بشكل أساسي، حيث كان يعتبر أن دراسة الإنسان هي محور الفلسفة.
وقد عبر شيشرون عن فلسفة سقراط بقوله: “إن سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض”.
أفلاطون: الفلسفة كأسلوب حياة
سار أفلاطون، تلميذ سقراط، على نهج أستاذه وجعل من معرفة الذات أهم نقطة في البحث الفلسفي.
إلا أنه أعاد للفلسفة طابعها العام، مستوعباً موضوعات الطبيعة والنفس والأخلاق وما وراء الطبيعة.
وقد أصر أفلاطون على أن تكون الفلسفة أسلوب حياة، وليست مجرد آلية تفكير.
في محاورته “المأدبة”، أوضح أفلاطون أن الجاهل لا يحب الحكمة ولا يرغب فيها، لأنه يعتقد أنه مكتمل ولا ينقصه شيء.
وعند سؤال أفلاطون عن معنى الفلسفة، أجاب بأنها السعي وراء الحكمة أو المعرفة، معتبراً إياها العلم بالحقائق المطلقة المستترة تحت ظواهر الأشياء.
وأضاف أن الفلسفة هي علم المعقول، لأنها تتجاوز العلم المحسوس وتبحث عن الحقيقة الحقيقية.
أرسطو: الفلسفة كعلم الوجود
عَرَّف أرسطو الفلسفة بتعريفات متعددة، أهمها “البحث في الموجود بما هو موجود”.
اعتبر أرسطو أن الفلسفة هي علم المبادئ أو العلل الأولى للوجود، والعلم الإلهي الذي يتخذ من الله موضوعاً مركزياً.
وقد استخدم الفلسفة كمرادف للعلم، حيث رأى أنها تجمع كل المعرفة الإنسانية.
يرى أرسطو أن العلوم الأخرى تدرس الوجود من زاوية خاصة، مثل العلوم الرياضية التي تنظر إلى الوجود من زاوية الكم، بينما الفلسفة هي العلم الكلي الذي يتناول الوجود بما هو موجود.
وبهذا الارتقاء، وضع أرسطو الفلسفة في مكانة عالية في سلم المعرفة.
تتناول الفلسفة عند أرسطو أمرين: الأول هو العلم النظري الذي يدرس الطبيعة والرياضيات والإلهيات، والثاني هو العلم العملي الذي يهتم بالأخلاق والسياسة والاقتصاد.
أما في العصر الوسيط، فقد أطلق الكندي على الميتافيزيقا اسم “ما بعد الطبيعة” والفلسفة الأولى، فيما اتفق الفارابي مع أرسطو في تعريفه للفلسفة.
الفارابي وابن سينا: الفلسفة والعلم
اعتبر الفارابي أن الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة، أي العلم بجوهرها، ورأى أنه لا يوجد موجود في العالم دون أن يكون للفلسفة فيه مدخل.
أما ابن سينا، فقد عرف الفلسفة بأنها استكمال النفس البشرية بمعرفة حقائق الموجودات بقدر الطاقة البشرية عن طريق النظر العقلي.
وقد فرق بين نوعين من العلوم: العلم النظري والعلم العملي الذي يشمل علم الأخلاق وعلم تدبير المنزل وعلم السياسة.
الخلاصة
من خلال ما تقدم، يمكن أن نستنتج أن صعوبة تعريف الفلسفة لا تعني بالضرورة أن الفلسفة فكرة معقدة أو صعبة الإدراك، بل يعني فقط أن للفلسفة بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها.
الفلسفة، مثلها مثل أشكال الوعي البشري الأخرى، متعلقة بقضايا المجتمع وهموم العصر الذي أفرزها.
وبالتالي، الفلسفة ليست ترفاً فكرياً بل هي ضرورة تتجلى في الانسياب الفكري الذي تتطلبه وفي رفضها لكل حدود العقل.
إن الطابع الإشكالي والنقدي للفلسفة يفرض عليها إعادة النظر في كل شيء وفي كل قضايا الحياة، ومن ثم إخضاعها للمساءلة.
وبالرغم من صعوبة تقديم تعريف جامع مانع للفلسفة، إلا أنه يمكننا القول إن الفلسفة هي فن تشكيل المفهومات واختراعها.
وهذا ما يجعل الفلسفة في حالة أزمة مستمرة، حيث أن مهمة الفيلسوف هي مواجهة المشكلات وتحليل القضايا واخضاعها للدرس والتحليل لخلق وقائع معرفية جديدة.
يقول هيغل: “الفلسفة هي إدراك عصرها بالفكر”. فإدراك وفهم ما هو قائم هو مهمة الفلسفة، مما يجعلها وسيلة لفهم الواقع وتحليل قضاياه بعمق وشمولية.