منذ ثلاثة عقود مضت ولثورة التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية نصيب كبير جدا في المواد الإعلامية والتي تنقلها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية عبر جنبات العالم.
ولعل هذا يتواكب مع مشاكل نقص الغذاء وارتفاع أسعاره والمستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي لفت العالم بأثرة. وكان لزاما على العالم البحث عن مصادر جديدة لزيادة إنتاج الغذاء ليكفى النمو المتزايد فى أعداد البشر والذين سوف يصلوا لقرابة العشرة بلايين نسمة مع العام 2050م.
فكانت ثورة التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية التي غطت منتجاتها النباتية مساحات شاسعة من الأرض المنزرعة حول العالم، ربما تتجاوز مائة وعشرون مليون هكتارا (قرابة الثلاثمائة مليون فدان).
لقد نال هذا الفرع المستحدث من العلوم والتكنولوجيا نقاشا وجدالا واسعا ليس بين العلماء أنفسهم فقط، ولكن بين الساسة وصناع القرار وفئات المجتمع عامة وحتى رجال الدين. و مازال التخوف من هذه المنتجات و أثرها على صحة المستهلكين و على البيئة مجال خلاف و نقاش حاد ، لذا كانت مادة إعلامية خصبة، و على الرغم من ذلك فهناك الكثير الذين ينظرون إليها كثورة جديدة (ثورة الجينات) تشبها و تيمنا بالثورة الخضراء التى أطلت برأسها فى سماء البشرية فى ستينات القرن الماضى، و التي أنقذت ملايين البشر من الجوع و المرض و الفقر حين أحيت الأرض بعد مواتها و ذلك بإبتكار أصناف جديدة من الحاصلات الزراعية مثل القمح و الأرز و الذرة و غيرها، زادت من الإنتاج فملئت جيوب المنتجين بالأموال و بطون الجوعى بالغذاء و خاصة فى العالم النامى. أما عن ثورة الجينات تلك، فقد تسيدت الولايات المتحدة الأمريكية دول العالم فى هذه التكنولوجيا حيث مازالت تحتفظ بنصيب الأسد بين الدول المنتجة و الحائزة على هذه التكنولوجيا و حتى المصدرة لها.
وقد تناول الإعلام العالمى بكل وسائلة تغطية هذه الثورة و مازال، و لكن كان و مازال هناك بعض الشكوك، و خاصة أن تلك التكنولوجيا تكاد تكون حكرا على الدول المتقدمة، بل وللشركات العملاقة و عابرة الحدود، فظن البعض أن هذا هو إستعمار جديد و لكن فى ثوب إقتصادى، فى رداء رغيف الخبز. و مع هذا ثبت ان تلك الثورة ستكون فى صالح المستهلكين و المنتجين لذا زادت المساحات التى تزرع بتلك المنتجات يوما بعد يوم، بل بدأت حقولها تزدهر فى دول العالم النامى كالصين و الهند و المكسيك و الأرجنتين و جنوب أفريقيا و غيرها. و لكن كانت هناك حرب مستترة بين الإتحاد الأوربى (المحافظ و المتردد فى هذه التكنولوجيا) و بين القطب الأوحد “أمريكا” و شملت تلك الحرب التشكيك فى تلك المنتجات و تأثيراتها، و النزاع على إحتكار سوق منتجات تلك التكنولوجيا، مما كان له تأثير كبير فى بلبلة شعوب العالم النامى نحو قبول أو رفض تلك التكنلولجيا، و بدات التوجهات السياسية تلعب دور رئيسى فى تلك القرارات، و لعل هدية القمح الأمريكى المهندس وراثيا لزيمبابوى الفقيرة، و ترددها فى القبول (رغم جوعى الشعب هناك)، و خوفهم من مقاطعة أوربا لصادراتهم، لخير مثال على تلك البلبلة.
وفى عالمنا العربى و الذى يربطة بالعالم صلات عديدة، (حيث أصبح العالم قرية صغير، فها هى التكنولوجيا الحيوية و منتجاتها تأتى إلى موائد أطعمتنا و ملابسنا و غذاء حيواتنا) كان لزاما أن تتناول وسائل إعلامة تلك التكنولوجيا، و بحكم تخصصى العلمى فى هذا المجال و متابعتى لما يكتب عنه و ما يقال فى وسائلة المختلفة فقد كان لى ملاحظات عديدة، منها عن كيفية تناول الموضوع و عن الأبحاث التى تجرى فيه فى بقاع الوطن العربى، و مدى نجاح ذلك لدى المتلقى العربى، و تأثير ذلك فى تنمية هذه التكنولوجيا لتصبح صناعة عربية بأيد عربية و للإنسان العربى، أسوة بما تم فى أقطار تشبة ظروفنا (العالم النامى) و التى نجحت فى هذا المضمار. فلقد أتسمت تغطية تلك الموضوعات فى بدايتها بالخلط بين المفاهيم المختلفة دونما دليل (مثل الخلط بين النباتات العادية المنتجة بالتكاثر عن طريق زراعة الأنسجة، و تلك المنتجة بالهندسة الوراثية)، مما كان له إنعكاس سئ لدى المتلقى العربى، فبدأ يرفض تلك التكنولوجيا من البداية و يتعصب ضدها، حتى أن هناك قطاع من المثقفيين و أيضا بعض علماء التخصصات الأخرى، قد رفضوا تلك النقلة الحضارية.
و لقد أتهم المستهلك العادى كل مشكلة تأتى فى مجال إنتاج النبات بأنها مهندسة وراثيا، فمثلا حينما رأى المستهلكون كبر حجم ثمار بعض الخضر و الفاكهة مع اختلاف طعمها عن المألؤف، وجهة الاتهام لها بأنها مهندسة وراثيا، كذلك حين قام بعض ضعاف النفوس من منتجى تلك الحاصلات برشها بالهرمونات ليكبر حجمها بسرعة، أو برشها بالمبيدات بإفراط لحمايتها من الآفات و الحشرات و حتى في مواعيد جمع الثمار، مخالفا بذلك قواعد استخدام تلك الكيماويات، أيضا وجه الاتهام للهندسة الوراثية، علما بأن فى عالما العربى (و فى مصر تحديدا) لم تزرع تلك المنتجات و لم يصرح بها بعد، و غير متداولة فى الأسواق بعد (سواء طبقا للتشريع أو عدم توافرها إنتاجا أصلا).
وفي الواقع يسعى بعض رجال الإعلام الى عمل سبق صحفى أو إعلامى على حساب توضيح الصورة كاملة للمتلقى، علما بأن التركيز على توضيح الجانب العلمى و شرحة بدقة يساعد فى بناء مجتمع علمى مثقف يستطيع أن يشارك فى صنع القرار و تقبل الجديد من تلك التقنيات و التى ربما تكون فى صالح البشرية، كما كان مع الثورة الصناعية و الثورة الخضراء و ربما يكون مع ثورة الجينات. و لعل الهندسة الوراثية سوف تصب فى صالح الفقراء و الدول النامية، و التى إنتاجها من الغذاء لا يكفيها، فالتكنولوجيا الحيوية و الهندسة الوراثية تستطيع القفز بمعدلات الإنتاج أضعاف الطرق التقليدية، بل و تحل مشاكل معقدة يصعب فك رموزها حاليا، أم الدول المتقدمة “أمريكا و كندا و الإتحاد الأوربى و أستراليا” فإن إنتاجها من الغذاء يكفيها و تصدر للخارج، و الهندسة الوراثية لديها لزيادة الرفاهية و التقدم.
ربما الأمية التى تضرب بجذورها فى المجتمع العربى، و كذلك الأمية الثقافية و ناهيك عن الأمية العلمية، تكون عائقا صلدا أمام تقبل كل ما هو جديد من علوم و تكنولوجيا. هذا يلقى الكثير من المسئوليات على الإعلاميين العلميين فى عالمنا العربى نحو حمل مشعل الإنارة و تسليط الضوء على ما هو جديد و تبسيط تلك المفاهيم لرجل الشارع العادي و حتى الفلاح و المنتج البسيط. و لا نغفل دور بعض الصحف و المجلات و البرامج الإذاعية و التليفزيونية فى تقديم المعلومة العلمية و إطلاع المجتمع و تبصرته بالجديد فى فروع العلم المختلفة. و لكن هذا قليل مقارنتة بما تزخر بة وسائل الإعلام تجاه الفن و الرياضة و التسلية. لذا نأمل أن يتم التركيز على بناء مجتمع علمى مثقف، يتقبل الجديد و يتفهم مستجداتة، و تبنى التكنولوجيات التى تتلائم و تتوائم مع مجتمعاتنا و مع ظروفنا و متطلباتنا. بهذا يمكن الإعتماد على الذات و الوصول لحد الاكتفاء الذاتي لدول الوطن العربي في غذاءه، كما فعلت بعض البلدان الأخرى و التى قطعت شوطا طويلا في مجال التكنولوجيا الحيوية و الهندسة الوراثية.
الدكتور قاسم زكى
أستاذ علم الوراثة و مدير مركز المنيا للهندسة الوراثية و التكنولوجيا الحيوية، و رئيس الجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية (ACSS)، و عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين
قسم الوراثة – كلية الزراعة – جامعة المنيا – المنيا – مصر