بالرغم من أن الاتجاهات القانونية السائدة في المجتمع الدولي تميل إلى حظر التجارب النووية لما لها من آثار سلبية على البيئة تتسبب بها الإشعاعات النووية الصادرة إما عن التفاعلات النووية نفسها أو عن النفايات النووية التي تخلفها، إلا أن التطبيق العملي لهذا الحظر يسير بخطىً بطيئة لا تتناسب في سرعتها مع سرعة وقوة الخطر الذي يتربص بالبيئة مع كل تفاعل نووي أياً كان الغرض منه.
وتختلف التجارب النووية باختلاف الغرض منها. فهناك التجارب النووية العسكرية كتلك التي تُجرى على القنابل النووية للتأكد من مدى تأثيرها وفتكها لغايات استخدامها في الحروب. مثال ذلك القنبلتان النوويتان اللتان تم إلقاءهما على مدينتي هيروشيما وناجازاكي. حيث تم تجريب قنبلة مماثلة وسط صحراء ترينتي في نيومكسيكو قبل ذلك بأقل من شهرٍ واحد ولمّا تأكدت الولايات المتحدة الأمريكية من فاعلية تلك القنبلة سارعت باستخدامها لإجبار اليابان على الإستسلام والرضوخ لها.
كذلك الجزائر كان لها نصيب من التجارب النووية. حيث قامت فرنسا بإجراء (17) تجربة نووية في مطلع الستينات من القرن الماضي في مدينتي “رقان” و “عين إينكر” جنوبي الجزائر. استغلت فيها فرنسا في ذلك الوقت انتشار الجهل والفقر والبطالة في تلك المناطق ، بل وسَخَّرت حوالي (3500) عاملاً جزائرياً للعمل ليلاً نهاراً لمساعدة الفرنسيين في الإعداد للتجارب النووية وفي تجهيز مكان التفجير وتعبيد الطريق بينه وبين ثكنتهم العسكرية. كانوا يسندون للجزائرين أشق المهام مقارنةً بالعمال الفرنسين الـ (6500) المستخدمين في نفس المشروع. وفي خلال ثلاث سنوات كان كلُّ شيءٍ جاهزاً للبدء بالتفجيرات.
غداً ستنفجر القنبلة ، فلا يخرج أحد من منزله ، أغمضوا أعينكم ولا تنظروا في السماء. وبلّغوا هذا إلى أهاليكم وجيرانكم”.. هذه كانت العبارات التي قالها الفرنسيون للجزائيين في الليلة التي سبقت تفجير القنبلة الأولى صباح يوم 13 شباط 1960.
وعلى الرغم من علم سكان المنطقة بإجراء تجربة نووية وبحصول تفجير في ذلك اليوم إلا أنهم لم يتوقعوا أن يكون مرعباً لهذه الدرجة. كان وقع الإنفجار أضخم مما تخيلوا فقد فاق قوة تفجير هيروشيا بثلاثة أضعاف ، زُلزِلَت الأرض واسودت السماء حتى ظن الجزائريون أن الساعة قد حانت. كانت هذه هي البداية للمعاناة التي ما زال سكان تلك المناطق يعانون منها حتى الآن جيلاً بعد جيل. ولم تنتهي التجارب النووية الفرنسية عند هذا الحد ، بل أُجريت ثلاثة تجارب أخرى في نفس المدينة خلال السنتين اللاحقتين للتفجير الأول. انطلقت بعدها فرنسا إلى منطقة “عين إينكر” أقصى جنوبي الجزائر وأجرت فيها (13) عملية تفجير نووية جوفية.
حصدت التجارب النووية الفرنسية في الجزائر أراوح كثير من الأبرياء، كما انتشر مرض السرطان والعمى والرمد الحبيبي في منطقة التجارب، أما البيئة فهي أيضا لم تسلم من الضرر،فقد تسببت تلك التجارب بتغيير مناخ المنطقة وتشوه السلالات الحيوانية وبالتالي تراجع الثروة الحيوانية ، وتدهور التنوع الحيوي. هذا وتراجعت الزراعة والمحاصيل بشكل كبير بسبب احتراق مساحات واسعة من الأراضي بفعل الإشعاعات ، وأضحت الكثير من الأشجار إما عقيمة وإما تنتج ثماراً غريبة الشكل. لتصبح بعدها تلك المناطق عاجزة عن تحقيق الإكتفاء الذاتي لسكانها بعد أن كانت من المناطق المصدرة للحبوب والطماطم والتمور إلى أنحاء العالم.
ولكن ، يبدو أن فرنسا بدأت تشعر مؤخراً بتأنيب الضمير ، حيث قررت مطلع العام الحالي أن تمنح تعويضاً مادياً لأهالي تلك المناطق. إلا أن هذا القرار لم يلقَ الترحيب من قبل الكثيرين ممن لا زال صوت الإنفجار يدوّي في آذانهم حتى الآن ، أو لا زالت أعينهم ترى جمال وجوه أبناءهم وأحفادهم مشوهاً. فليس هناك تعويضاً مادياً من شأنه أن يُنسي هؤلاء الناس المعاناة والدمار اللذان سببتهما لهم فرنسا بعبثها بأراضيهم وأرواحهم.
أما التجارب النووية التي تُجرى لغايات البحوث العلمية والإكتشافات بغرض تطوير استخدام التفاعلات الذرية في توليد الطاقة للاستخدامات السلمية -والتي تتم داخل مفاعلات ومحطات نووية أعدت خصيصاً لهذه الغاية- فهي أيضاً محفوفة بالمخاطر التي تهدد البيئة شأنها في ذلك شأن الأسلحة النووية.
وبين تَضارُب الآراء حول ضرورة إيجاد مصادر طاقة بديلة عن المصادر الطبيعية التي شارفت على النضوب ، وحول تبني خيار استغلال التفاعلات الذرية لتكون هي هذا البديل ، تبقى هذه الأخيرة ناقوس خطر يدق مع كل تفاعل نووي. فالمفاعلات النووية التي تُجرى بداخلها هذه التجارب تظل مهددة طوال الوقت إما بتسرب الإشعاع منها أو بحدوث إنفجار يصاحبه تلوث إشعاعي هائل يبيد البشرية. حتى الدول المتقدمة لم تستطع أن تأمن على نفسها من هذا الخطر عندما داهم مفاعلاتها النووية. فكان في حادثة التسرب الإشعاعي من محطة “ثري مايل آيلاند” النووية في ولاية بنسيلفينيا الأمريكية في 28 آذار 1979 ما أثار حفيظة العالَم ضد الطاقة النووية بالرغم من أن هذه الحادثة لم تسفر عن خسائر بشرية ، نظراً لأن الخلل الذي حصل في المفاعل أدى إلى انصهار قلب المفاعل فقط دون أن يتعداه إلى المحيط الخارجي. نجم عن ذلك تسرباً إشعاعياً ولكن لحسن الحظ لم ينفجر المفاعل النووي.
لم يكن الحال مشابهاً بالنسبة لروسيا –الإتحاد السوفييتي آنذاك- ففي 26 نيسان 1986 ، أدى الخلل الذي حصل في المفاعل النووي الرابع في محطة “تشيرنوبل” النووية في مدينة أوكرانيا إلى حدوث أسوأ كارثة نووية في تاريخ البشرية أجمع. قيل بدايةً أن الحادث نتج عن خطأ في تشغيل المفاعل أثناء إجراء التجربة النووية ، ثم تبين بعد ذلك أنه ناتج عن خطأ في تصميم المفاعل نفسه بالإضافة عدم إحاطة مُشغِّلي المفاعل بكافة خصائصه حيث بقي بعضها طي الكتمان كأسرار عسكرية ؛ وكذلك عدم التقيد التام بتدابير الأمان اللازمة خلال إجراء التجربة وتشغيل المفاعل. علماً بأن هذا المفاعل كان لا زال حديثاً حيث تمت إضافته إلى المحطة النووية قبل ثلاثة أعوام فقط من إنفجاره.
انفجر المفاعل ، وأدى ذلك إلى انبعاث حوالي (7) أطنان من المواد المشعة إلى مساحات شاسعة جداً تخطت المدن الروسية لتصل إلى دول أوروبا ومناطق أخرى من العالم. زاد التلوث الإشعاعي الذي انتشر آنذاك بحوالي (400) ضعف عن التلوث الذي نجم عن تفجير قنبلة هيروشيما.
أصيب الكثيرين بحروقٍ بالغة، وتغلغل مرض السرطان بأجساد الآلاف من الروس والأوروبيين. غالبية المتضررين كانوا من رجال الإطفاء وأفراد الجيش والعمال الذي هرعوا إلى إخماد ألسنة النار الملتهبة وكُلِّفوا بتنظيف المكان من آثار الانفجار. لم تُعلمهم السلطات آنذاك بالخطر الموجود بذلك المكان كما لم يتم تزويدهم بأي معدات أو ملابس خاصة للوقاية من الإشعاع. قاموا هؤلاء بجمع مخلفات الانفجار وإعادتها إلى داخل المفاعل نفسه ليتم بعدها طمره بأطنان من الرمل وبناء هيكل من الصلب فوقه بغرض إحكام إغلاقه.
المئات لقوا حتفهم جراء تعرضهم للإشعاع النووي. حتى الأطفال كان لهم نصيب من ذلك ، حيث تَفَشَّى سرطان الغدة الدرقية لدى حوالي (1800) طفل خلال فترة قصيرة بسبب تلوث غذاءهم باليود المشع. دُمِّرت البيئة المحيطة بالكامل على مساحة (10) كم حول المفاعل وتم إجلاء سكان المناطق المجاورة على مساحة (30) كم حول المفاعل لِيَخلو المكان بعدها من أي أثر للحياة. وبعد فترة من الزمن ، ظهرت بعض النباتات والحيوانات غريبة الشكل مما دفع بالبعض إلى تسمية المكان بـ”غابة العجائب!”.
لم تتوقف محطة تشيرنوبل عن العمل بعد الانفجار، بل عادت لتشغيل مفاعلاتها الثلاث المتبقية لتعوِّض ما عانته من نقص في الطاقة. ثم لم تلبث أن تخسر مفاعلها الثاني في عام 1991 إثرَ نشوب حريقٍ فيه أدى إلى حصول أضرار لا يمكن إصلاحها. بعدها بأعوام قليلة وتحديداً في عام 1996 تم إغلاق المفاعل الثالث في المحطة بناءً على إتفاق بين حكومة أوكرانيا والوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبقي الحال كما هو عليه حتى عام 2000 عندما أغلق الرئيس الأوكراني المفاعل الأخير بنفسه، وأُغلقت المحطة بأكملها تماماً.
ولا يسعنا سوى القول بأن المفاعلات النووية تبقى سلاحاً ذو حدين. فبالرغم من أهميتها العظمى في توليد الطاقة الكهربائية والحرارية إلا أنه لا يمكن التنبؤ أبداً باللحظة التي تثور فيها غاضبة لتبيد ما حولها. وللأسف، ذلك هو ثمن تبني خيار استخدام الطاقة النووية، الذي لا يقتصر دفعه فقط على من يستخدمونها فعلياً. بل تُجبر على دفعه البشرية أجمع.
نسرين ياسر بنات