يقول أرسطو:"إن الأشياء التي يجب علينا أن نتعلمها، لا نتعلمها إلا عندما نفعلها فعلاً"

التربية بالمعاينة أو التربية بالخبرة ومن اجل الخبرة

آفاق علمية وتربوية – التربية من أجل الخبرة ومن خلال الخبرة من المفاهيم التربوية المُعاصرة والتي لها جذورها التاريخية. إن الخبرة والممارسة أثبت وأرسخ في الذهن والنفس من سماع المحاضرات ولقد أصَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة ولقد قال الإمام أحمد حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ” وفي رواية أخرى عند أحمد أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ فَلَمْ يُلْقِ الألْوَاحَ فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الألْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ”. ولقد تلقى الأنبياء تعليمهم وفق هذه النهج الرباني. قال تعالى “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (سورة البقرة، الآية: 260).

اعتبر الشافعي في كتابه الأم المعاينة من مراتب العلم لأن هذا العلم يفيد اليقين ويقول: “ولا يسع شاهدا أن يشهد إلا بما علم والعلم من ثلاثة وجوه منها ما عاينه الشاهد فيشهد بالمعاينة، ومنها ما سمعه فيشهد ما أثبت سمعاً من المشهود عليه، ومنها ما تظاهرت به الأخبار مما لا يمكن في أكثره العيان وتثبت معرفته في القلوب فيشهد عليه بهذا الوجه وما شهد به رجل على رجل أنه فعله أو أقر به لم يجز إلا أن يجمع أمرين أحدهما أن يكون يثبته بمعاينة والآخر أن يكون يثبته سمعاً مع إثبات بصر حين يكون الفعل” .

وانتبه ابن خلدون إلى أهمية المعاينة “الخبرة” في التعليم فقال “ونقل المعاينة أتم من نقل الخبر والعلم، فالملكة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة عن الخبر” . من هنا نعلم أن علم الصحابة بالدين أتم وأكمل وحبهم لنبي الإسلام أعظم وأجل لأن إبمانهم إيمان معاينة.

وقديماً قال العرب “لا تطلب أثراً بعد عين” و”خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به” أي أن اليقين يقطع الشك إلى الأبد وأن العاقل لا يترك اليقين الذي يراه ثم يتبع الظن الذي يسمع عنه. ويقابل هذا عند الغرب قولهم:
Your own eyes may be your best witness.

ومن حِكم العرب قول أحدهم:
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما قد حدّثوك؟ فما راءٍ كمن سمعا

وقول الشاعر الجاهلي عنتر بن شداد:
أنا العبد الذي خُبِّرت عنه وقد عاينتني فدع السماعا

يُقسِّم الإمام ابن القيم درجات العلم الصادق إلى ثلاث درجات وهي علم اليقين ثم عين اليقين ثم حق اليقين. “الفرق بين علم اليقين وعين اليقين:كالفرق بين الخبر الصادق والعيان [المُشاهد]. وحق اليقين: فوق هذا.
وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك: أن عنده عسلاً، وأنت لا تشك في صدقه. ثم أراك إياه. فازددت يقيناً. ثم ذُقت منه. فالأول: علم اليقين. والثاني: عين اليقين. والثالث: حق اليقين.
فعِلْمُنا الآن بالجنة والنار: علم اليقين. فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين. وشاهدها الخلائق. وبُرِّزت الجحيم للغاوين. وعاينها الخلائق. فذلك: عين اليقين. فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين .
واليوم يعود خبراء التربية وعلى رأسهم علماء النفس ليقرروا تلك الحقيقة التربوية من خلال هذه الحكمة الصينية إذ يقول كونفوشيوس:
“قل لي وسوف أنسى … درسنى وسوف أتذكر … أشركني وسوف أتعلم”.
I heard and forget I see and remember I do and understand.

المعايشة أو الخبرة كانت هامة في الفلسفة الطاوية التي ظهرت في الصين بقرون قبل الميلاد وعلى مثل تلك الحقيقة التعليمية أقام جون ديوي فلسفته التربوية والتي تعتمد على الخبرة والمواقف العملية في الحياة. إن نقطة الارتكاز في معظم كتابات جون ديوي هي كلمة الخبرة -بمعنى التجربة والممارسة- التي تتكرر في أُطروحاته.
في حربه ضد التعليم التقليدي الجامد ينتصر إلى مذهبه التقدمي فيقول المربي الأمريكي جون ديوي “لا يتسنى للمدرسة أن تعد طلبة للحياة الاجتماعية إلا متى كان النظام فيها يمثل الحياة الاجتماعية … والطريقة الوحيدة التي تعد الطالب للحياة الاجتماعية هي الاشتغال بأعمال اجتماعية. وإذا قلنا إن الطالب يستطيع أن يكون عادات اجتماعية بغير الاشتغال بأعمال اجتماعية فإن مثلنا يكون كمثل من يعلم الطفل العوم والسباحة بإتيان حركات فوق اليابسة بعيدة من نهر أو بحيرة أو بحر.

تقول بعض الدراسات إنَّ معدل ما يتذكر الإنسان هو:

20% مما يقرأه
30% مما يسمعه
40% مما يراه
50% مما يقوله
60% مما يفعله
90% مما يقرأ ويرى ويسمع ويقول ويعمل.

وفي دراسة شملت آلاف الطلاب وُجد أن الطلاب يستفيدون من كل وسائل التعلم ولكن بنسب متفاوتة فـ 29% من الناس يفضلون أن يتعلموا بالاعتماد على البصر كرؤية الصور والكتب و 34% بالسماع كسماع الأشرطة والمحاضرات والمناقشة و 37% بالممارسة والحركة كالكتابة والمشاركة العملية وترديد الكلمات إذا أرادوا أن يحفظوها.

كل الطلاب بلا شك يستفيدون من جميع الطرق السابقة ولكن بنسب متفاوتة فقد يكون الطالب سمعياً والآخر بصرياً. لذلك فإن اهتمام المعلم في المناهج المطورة ينصب على الإكثار من وضع الأهداف النفسحركية في الفصل لأن أكثر الناس يتعلمون بالممارسة وبطرائق متنوعة. تؤكد كل الدراسات على أن وسائل التعلم المتنوعة تتيح فرصة أكبر للتعلم لأن الإنسان يستخدم أكثر من حاسة للتعلم. التدريب والمراجعة من مستلزمات الإتقان في كسب المهارات وتحسين الإنجاز بل إن التكرار الواعي أم المهارات جميعاً .. يجب أن يمارس المتعلم ما درسه ويطبق الذي تعلمه في ميدان تعلم اللغات أو فهم المعادلات الرياضية والمسائل الإحصائية.

فهم القواعد العلمية دون تمارين عملية يضر بالعملية التعليمية. ومن وسائل تحقيق الفهم والتفوق أن يقوم المتعلم بتكثيف وتنظيم أنشطته في الميدان الذي يرغب التمكن فيه فإدمان النظر في روائع كتب الشعر والنثر مثلاً من طرق تنمية وصقل الملكة الأدبية.
بعض الدراسات تشير إلى أن الخبرة يتم استقبالها في المخ وتحليلها بتعاون بين الجانب الأيمن والأيسر للمخ وأن أفضل وسيلة لتذكر المعلومات هي تفعيل دور الجانبين في التعامل مع المعلومات والأحداث الجديدة.

وظائف الجانب الأيمن والأيسر من المخ كثيرة. يعمل الجانب الأيسر للمخ على دعم الجانب الأكاديمي: تفكيك الشيء إلى أجزاء-تحليل-الزمن- المنطق -تعلم اللغة-تفكير متوال-التركيز على الحقائق والأرقام-الاستنباط المجرد… ويتحكم بالجانب الأيمن من الجسم.

أما الجانب الأيمن للمخ فيركز على الجانب المجازي-التصويري: جمع الأجزاء معا- الخيال-التصور الخلاق- الموسيقى-لا يتقيد بالوقت-مجازي -الحدس -محسوس –الألوان – استقرائي-الحب -الجمال -الولاء ويتحكم بالجانب الأيسر من الجسم.


من اللطائف التربوية الرائعة للشعراوي أنه أكَّد على أهمية التَّدريب في قصة عصا موسى إذ تدرب على إلقاء العصا في الصحراء قبل مواجهة فرعون فيقول “هكذا يعلمنا الله أنه لا مهمة دون تدريب. ولا إنجاز موفق بغير إتقان للتدريب”. فإذا كان هذا النبي قد طلب منه أن يتدرب فلغيره من البشر يعتبر التدريب أكثر أهمية لأداء المهام وتجويد المهارات.

يقول أرسطو:”إن الأشياء التي يجب علينا أن نتعلمها، لا نتعلمها إلا عندما نفعلها فعلاً” فإن المعلومة التي نتعلمها ونستخدمها في حياتنا عملياً هي المعلومة التي تثبت في الأذهان والأشياء التي لا نستخدمها ننساها ونخسرها بسرعة: Use it or lose it. هذه القاعدة من أهم النتائج التي حصل عليها المتخصصون بدراسة العقل البشري وينبغي أن تكون واضحة لكل مهتم بالتربية.

عن المهندس أمجد قاسم

كاتب علمي متخصص في الشؤون العلمية عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين

شاهد أيضاً

ديوان “همس مسموع ” بين التأمل العميق والتعبير الإنساني

ديوان “همس مسموع” للأديبة الأردنية حياة صالح دراغمة يتضمن مجموعة من القصائد النثرية التي تتميز …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *